في زمن تقوت فيه الجمعيات وتكاثرت.. حتى أصبح تأسيس جمعية موضة ووسيلة للاسترزاق والتقرب من السلطة ، وقضاء المآرب الشخصية ، تكاثر المتسولون والمعاقون وكل البلاوي التي تعلن أننا نعيش في حضيض عنوانه الكبير بؤس وقهر مقيم .. في رمضان اكتملت صورة البؤس بكل تلاوينها ، فكل الأرصفة محجوزة وأصبح صعبا على المواطن اختراق جماعات المتسولين الذين وفدوا مصحوبين بأسرهم من القرى المجاورة للعاصمة الرباط ولمدينة تمارة طمعا في جمع "الفطرة" أي الزكاة ، والتي لسوء حظهم بات يجمعها قبلهم أئمة مساجد ومستخدمو بعض هذه المؤسسات الدينية التي باتت هي الأخرى مكانا للتسول وجمع المال ، فالإمام يؤخر الصلاة حتى يجمع ما جادت به جيوب المصلين الذين يتذمر أكثرهم من هذه العادة ومن تأخير الصلاة للمرور على الصفوف وجمع الفطرة.. حين نقول تسول الأسرة نقول الأطفال..الذين كان اغلبهم شبه ميت يقضي اغلب ساعات النهار في نوم عميق ..نوم لم يأت من شبع أو فراش دافئ أو حفاظات نظيفة، بل من حشيش أو خشخاش أو أي مخدر يدسه هؤلاء في حليب أطفالهم ليغرقوهم في نوم قد يدوم لأكثر من ست ساعات متواصلة ليكون الاستيقاظ وجرعة الحليب ثم العودة "للنوم" واستنشاق الغبار ودخان السيارات و"الطوبيسات " وكل المحركات التي تهدر على مدار النهار والليل ..فليلهم يمضونه أيضا في الشارع بلا لحاف أو غطاء وذلك على مدى الأيام الأخيرة من رمضان .. مشاهد ثابتة لا تتحرك.. والسؤال أين المؤسسات التي تعنى بالطفل.؟ بالمرأة؟ بالمعاق؟ أين أولئك الذين كم حضرنا ندواتهم، ومجالسهم التي يتحدثون فيها عن ضرورة العناية بطفل الشارع بالطفل الأمي بالطفلة الخادمة.. وبالطفل المعاق والطفل المستغل جنسيا.. والطفل في وضعية صعبة...و المستغل في التسول ..وووو..ويعطون الأرقام تلو الأرقام والدراسة تلو الدراسة وكان حريا بهم خلال إحصائهم أن يأخذوا بيدهم ويحولوا بينهم وبين الشارع ..لا أن يحصوهم ويتركوهم لحالهم..ولإحصاء آخر.. كانت متسولة تقتعد مكانا رسميا عند تقاطع الطريق ..مكان يعبر منه بكثافة المصلون الذين يقصدون مسجدا مجاورا .. لم تكن وحدها بل كانت تصطحب صغيرة في عمر الثالثة ، ولأني اسكن قبالة ذلك الشارع كنت أراقب المرأة وطفلتها ، وعن غير قصد لاحظت أن الفتاة لا تتحرك طيلة النهار وحتى حين تستيقظ لا تغادر "حجر أمها"...وقبل مغرب يوم من أيام رمضان لم استطع أن اكبح نفسي فنزلت اليها احمل لباسا للصغيرة واكلا يحبه الأطفال..سالت المرأة إن كانت الصغيرة ابنتها فأجابتني "نعم انها ابنتي و بوراقها " أخبرتها أني اسكن في العمارة المقابلة للشارع الذي تجلس فيه واني لاحظت أن الفتاة تنام كثيرا ولا تتحرك عكس الأطفال الطبيعيين في سنها فأخبرتني أنها تنيمها لأنها تخاف عليها من السيارات ..أعطيتها ما أتيت الصغيرة به وطلبت منها ان توقظ الفتاة ..أخذت تدعو لي وشرعت في إيقاظ الصغيرة بلكزها "آالمينة نوضي ..المينة.."استيقظت " المينة" وكانت عيناها حمراوان ..وكان شبه كبير بينها وبين المرأة.. شبه تلونه سمرة دافئة اكتسباها من شمس صيف كان يتنفس أنفاسه الأخيرة في مدينة اكتظت بكل المتناقضات.. تركت المرأة بعد أن دسست في يدها قطعة نقدية وأوصيتها بالصغيرة خيرا.. وعدت لأكمل إعداد الفطور، وفي قلبي وجع يعتصرني على هؤلاء الصغار والصغيرات الذين رمى بهم الضنك وسوء الحال إلى شوارع غريبة فقيرة وملوثة.. وعودة إلى الجمعيات..وبعيدا عن المتسولين الوافدين اعرف امرأة ساقها سوء حظها إلى التسول في "الطوبيسات"صحبة طفل أعمى ..أعرج وأبكم ، كانت تقبله أحيانا وتقسو عليه أحيانا أخرى..ولان عاطفتي تغلبني أشفقت على الطفل الأبكم الأعمى وعلى أمه مما يكابدانه طيلة السنة في الصعود اليومي إلى الطوبيسات التي لم تكن جميعها ترحب بهما ..كان الطفل أحيانا يرفض مجاراة أمه في السير أو في الصعود إلى الحافلات فكانت تجره قسرا..وأحيانا تنزل عليه بالضرب ، ولان مشهد ضرب صغير ضرير يلين حتى قلوب "الحجر"كما نقول في دارجتنا فقد اتجهت نحو المرأة وطلبت منها أن ترأف به فصرخت في وجهي "اش غدي ندير أختي راه كاياكل ل.كوش أنا أعييت" كانت نظراتها طائشة وأسنانها الأمامية سقطت والأخرى نخرها السوس..كانت تتكلم كما تعلمنا الكلام في "الليسي " نصف الكلام بالعربية والآخر بالفرنسية ..تكرر حديثي مع المرأة وسألتها "أنت قارية"فأجابت "عندي باك علمي" وبادرتها بسؤال آخر ولماذا لم تشتغلي بدل البهدلة فالطوبيسات فقالت "واين ساترك هذا مشيرة برأسها إلى ابنها الذي كان يتمسك بها فهو لا يعرف في الظلام الذي يعيش فيه الا صوتها ورائحة جلبابها وقبلاتها التي يعقبها أحيانا صفع أو عض بأسنانها الساقطة..كان الصغير "بوشتى " يتتبع حديثنا بعينيه الواسعتين وحركات رأسه .. ولأني اعرف بعض رئيسات الجمعيات ، التقيت واحدة تنشط في تمارة وتخصص جمعيتها العناية بالأطفال في وضعية صعبة حدثتها عن بوشتى وعن أمه فوعدتني أن تنظر في أمره ..مر وقت طويل واعدت تذكيرها في الأمر فقالت الحقيقة الجمعية لا تتكفل بالأطفال المعاقين فأجبتها :الإحسان لا يتجزأ فهذه المرأة وطفلها في حاجة لأي مساعدة كانت.. على الأقل أن يرتاحا بعض الوقت من عناء التنقل في الطوبيسات والمحطات ،والطفل أعمى وأعرج وأبكم ... ظلت تراوغني في الحديث إلى أن أيقنت أنها مجرد واحدة من الباحثين عن المكانة الاجتماعية ..وربط العلاقة مع السلطة وذلك ما نجحت في التوصل إليه .. اتصلت بجمعية أخرى كنت أجريت حوارا مع رئيستها وحدثتني عن الإحسان.. وعن التكفل باليتيم وظننتها السيدة التي ستساعد "بوشتى "لا محالة فحدثتها عنه حين لقائي بها ، وكانت حينها تتحدث إلى صاحبة جمعية عن فائض الاغطية الذي عندها والملابس ..التي لم يكن من حظ بوشتى حتى خرقة منها فهي الأخرى تعللت بدفتر التحملات وببببببببببببب ... تركتها وقلت في نفسي أي خير سيأتي من ملابس وأغطية لا يدري احد مصدرها.. قطعت علاقتي بهذا النوع من الجمعيات ، وعرفت أن وضعية الأطفال الصعبة ستستمر إلى أن تتحرك الجهة العليا التي أخذت على عاتقها تغيير الحال في كثير من الخيريات والمؤسسات التي كان على رأسها من زاد النزلاء بؤسا على بؤس ويتما على يتم.. واقع الجمعيات ونشاطها يجب أن يكون محل متابعة خاصة تلك التي تحظى بدعم الدولة السخي، والأخرى التي تحظى بمقرات وأغلفة مالية تصرفها على من تدعي التكفل بهم.. سالت رئيسة إحدى الجمعيات كم عضو فيها فأخبرتني أن الأعضاء هم الصديقات وأزواجهن..وأخرى الأعضاء جميعهم من العائلة..