رغم أن الرجل أمد الله في عمره، قد جاوز عقده التاسع، إلا أنه لازال كدأبه محتفظا بحيوية الشباب، بذاكرته التي لم ينل منها تعاقب الأحداث، بمساره الحارق منذ نعومة أظافره على درب النضال مبكرا، وبتواضعه الجم أمام كل من يدق بابه طلبا للاستزادة من معين حياته الذي لا ينضب. هو ذا المجاهد أبو بكر القادري، العالم الفقيه والمفكر والسياسي الذي اعتصرت سنون عمره التاريخ المعاصر للوطن برمته، إنه لا يكف عن التذكير بكل التضحيات الممهورة بالدم وبذل الغالي والنفيس لأجل أن يكون المغرب اليوم على ما هو عليه، ثم إن اليأس لا يعرف إليه طريقا، وهل ييأس المؤمن بقضية المجاهد في سبيل وطنه ودينه؟ إنه لا يكف عن زرع بذور الأمل في كل ما حوله، وزرع قيم التحدي والإصرار حتى آخر رمق لأجل إعلاء مثل وقيم تربى عليها، وربى عليها أجيالا بكاملها. »العلم« وبمناسبة تخليد الشعب المغربي لملحمة أحداث 8 دجنبر المجيدة إثر اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد، زارت المجاهد أبو بكر القادري في بيته وأجرت معه الحوار التالي: في البداية، نريد منك أن ترجع بنا إلى نحو ستة عقود خلت، وتحدثنا عن الظروف التي أحاطت بتلقيكم خبر اغتيال فرحات حشاد والمظاهرات الصاخبة التي اندلعت عقب ذلك؟ سأحاول قدر الإمكان شحذ ذاكرتي لأجيبك عما اختزنته قبل عقود خلت، وأعرض عليك أشياء قد تكون مفيدة للقرار، ولكل مهتم بحفظ الذاكرة المغربية، لاسيما خلال الأوقات العصيبة التي مر بها المغرب، وفي الواقع، فإن هذه المناسبة الكبيرة التي تؤرخ للنقابي فرحات حشاد، تبرز أن عملنا داخل الحزب، كان يركز من ضمن أولوياته على وحدة المغرب العربي، بحيث أننا كنا نشعر حينها أن تحرير المغرب من ربقة الاستعمار، لن يمر إلا عبر عملنا على تحرير كل أجزائه، وكنا حينها ونحن شباب لازلنا في مقتبل العمر، نسمي ارتباطنا هذا بالمغرب العربي، وقبل ذلك كنا نطلق عليه »وحدة شمال إفريقيا«، وعلى ذكر وحدة شمال إفريقيا، فقد كنا نغني ونحن شباب، بنشيد وحدة إفريقيا الذي يقول مطلعه: حيوا إفريقيا يا عباد شمالها يبغي الاتحاد. وكان وعينا داخل الحزب قد تفتح مبكرا وبشكل تلقائي على وحدة المغرب الكبير، وإن كنا نرى من الوجهة السياسية حينها، أن الوصول إلى هدف تحرير المغرب العربي الكبير، سوف يتطلب منا قدرا ضروريا من التريث، لأنه في تلك المرحلة، وبالنظر إلى جملة من الاعتبارات والعوامل، كنا نعتقد أن تحرير المغرب أقرب للتحقق منه إلى تحرير الجزائر بصفة خاصة، ولكن رغم ذلك، فقد كنا وحدويون حتى النخاع. وخلال هذه الفترة الصاخبة، التي كان يطبعها حراك اجتماعي وسياسي كبير، أذكر أننا ونحن في أحد اجتماعاتنا المعتادة، عشية يوم الجمعة 5 دجنبر 1962، بعد صلاة العصر، نتداول في بعض قضايانا السياسية، وكنا أربعة أو خمسة أفراد لا غير، من زمرتهم المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، والمرحوم قاسم الزهيري، وآخرون. لا تحضرني أسماؤهم. بلغنا خبر اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد، وكان لوقع الخبر من الصدمة علينا بحيث انفعل الجميع، وقلنا حينها أن السلطات الاستعمارية قد قررت تصعيد الموقف ومواجهة الوطنيين بشراسة، ولذلك قررنا توجيه تعليماتنا لفروعنا في مختلف جهات المغرب للقيام بتحرك ما، وهكذا اختليت في أحد الأركان وقمت بتحرير رسالة موجهة لكل الفروع بغرض تنفيذ مظاهرات واحتجاجات تنديدية بما حدث، وأذكر أنني أرسلت نسخة إلى الإخوة في فاس لتعميمها، وذلك بهدف مقاومة السياسة الاستعمارية للسلطات الفرنسية، ولإبراز التحامنا مع قضايا شمال إفريقيا والمغرب العربي ككل. وأذكر أنني قمت بتوجيه بعض الأفراد بشكل سري لتسليم الرسالة يدا في يد للإخوة في مختلف جهات المغرب، ومن الناس الذين وجهتهم في بعث هذه الرسائل، هناك سي محمد البقالي، من هنا من سلا، وكان ينتمي لأسرة جريدة العلم. وماذا كان محتوى الرسالة؟ كان موضوعها هو الدعوة لخوض إضراب عام شامل، وفعلا فقد نفذ الإضراب وكان محطة نضالية ناجحة بكل المعايير، وعلى المستوى الوطني. وأذكر أننا هنا في سلا، وحتى نضمن أوسع مشاركة ممكنة، فقد قررنا الاتصال بذوينا في ضواحي سلا، التي كانت حينها عبارة عن ضيعات فلاحية و»سواني«، وذلك ضمانا لإنجاح الإضراب العام بشكل شامل. وبعد الإضراب العام والدعوة إليه، ما الذي حصل؟ نظرا لهول المفاجأة المباغثة على الفرنسيين، فإنهم لم يستطيعوا الرد حينها، بل انتظروا حتى يوم 29 دجنبر ليقرروا إلقاء القبض على الأمين العام للحزب، الحاج أحمد بلافريج، وبمعيته سي محمد اليزيدي، وكان نائب الأمين العام حينها، غير أن هذا الأخير تم إطلاق سراحه ساعات بعد ذلك، وكان السبب الذي تذرعت به السلطات الفرنسية هو اندلاع مظاهرة بالرباط، فقد سار المتظاهرون إلى تواركة حيث مقر القصر الملكي، وكان »بونيفاس« هو رئيس الناحية وعدونا الألذ، فقام بونيفاس باستئذان المغفور له محمد الخامس في التدخل ضد المتظاهرين، ولكن هذا الأخير رفض وقال أنه سيطلب من المحتجين أن يغادروا، وهكذا تم . وعندما غادروا توفي أحد الشباب قتلا بالرصاص، وما حصل أنه في ذلك الوقت كان معمري الزواوي هو مدير التشريفات وترجمان الملك، وكان هذا الأخير قد قام التدخل محاولا تهدئة الشباب الغاضب، وحينها هجم عليه المحتجون وقاموا بتمزيق ملابسه، وقد كاد يلقى حتفه بين أيديهم لولا ألطاف الله. وفي نفس الوقت كانت هناك مظاهرة موازية انطلقت من سلا، من المسجد الأعظم، وأتذكر أنه وأنا في المسجد جاء عندي البعض، وبين أيديهم أطراف من ملابس معمري الزواوي التي مزقوها، ولم تمض سوى فترة يسيرة حتى ألقي القبض علينا أيضا. لماذا انتظرت السلطات الاستعمارية كل هذا الوقت لإلقاء القبض عليكم؟ غالبا كي يفكروا في الكيفية التي سينجزون بها ذلك، ويبدو لي أن محمد الخامس رحمه الله كان عرقلة في طريقهم، وعندما تم إلقاء القبض على بلافريج، أتذكر أنه ألقي القبض علي أيضا رفقة إخوان آخرين في الرباطوسلا وغيرها. وفي السجن كان لدينا ذكريات كثيرة، بعضها طريف، رغم قساوة سجن لعلو والطرق المهينة التي يتبعها الجلادون في إذلال المعتقلين، ناهيك عن الجوع الذي كانوا يتعمدن إطالة أمده علينا، مع مدنا بوجبات هزيلة، عبارة عن كسرة خبز يابس، وما يشبه المرق، ولو أنه في واقع الحال لم يكن سوى ماء مبتلا مع قليل من الخضر، غير أنه في واقع السجن هذا، ومع الروح الوطنية المفعمة داخل كل فرد منا، فقد تحول المعتقل إلى مدرسة في تلقين مبادئ الوطنية والمثل العليا النبيلة التي كنا نتشبع بها. وذات صباح سمعنا دخول الحراس كالعادة بالصخب الذي، يحدثونه وبعد تجميعنا وعدنا واحدا واحدا، طلب منا نزع ملابسنا وارتداء ملابس السجن. وأذكر أن الطقس كان صقيعيا في ذلك الصباح من شهر يناير، فقمنا بنزع ملابسنا التي صادروها، ثم أعطونا أغطية من النوع الرديء جدا، والتي كانت عبارة عن »الخيش«، ثم أعطونا ملابس رثة كان يرتديها السجناء، ليتم اقتيادنا الى سجن العاذر، وهو سجن فلاحي، وهناك قاموا بتوجيهنا في أعمال السخرة، وكان يتم التعامل معنا كسجناء الحق العام. هل تعرضتم للتعذيب أثناء فترة السجن؟ العصا، لا، ويمكن أن أقول أنه مرة واحد تم ضربنا وتعذيبنا، وكان ذلك في مرحلة الاستنطاق ، وفي ما يخصني، فقد أمروني في مخفر الشرطة أن أسجى على وجهي وأن أرفع رجلي من الخلف ، وقاموا بضربي بشدة لسحب أي اعتراف ممكن مني، ولكن الحمد لله، مرت هذه الفترة العصيبة بسلام، ونلنا ماكنا نناضل من أجله، لأن التضحية لايمكن أن تمر هباء دون أن تخلف نتائج تذكر. لقد كان الجو النضالي الذي يسود بيننا بطوليا، وكنا متشبعين بأفكار الوطنية الحقة التي تعبر عنها بعض الأناشيد التي كنا نحفظها عن ظهر قلب ونقوم بترديدها للرفع من معنوياتنا ولشحذ الهمم، أذكر مثلا هذا النشيد: أضحي بحياتي عليك يا بلادي يا بلادي أنا لا أهوى سواك أقسم بالله العالي أنا لن أخونك في المظاهرات التي اندلعت مباشرة غداة اغتيال فرحات حشاد ، لاسيما في الدارالبيضاء والتي استخدم الفرنسيون فيها الرصاص الحي... بالنسبة للرباط وسلا لم يكن هناك إطلاق رصاص على المتظاهرين كما حدث في أماكن أخرى، فقط أذكر مظاهرة اتهم فيها شاب وهو أحمد بنعبود بقتل شرطي وقد سبق لي أن كتبت عنه، وقد عذب هذا الشهيد قبل إعدامه، وقصته قصة عجيبة... فقد كان في عقده الثاني وكان مفعما بالحماسة والاندفاع تدفعه روح الغيرة على الوطن، فاتهم بقتل شرطي في إحدى المظاهرات، فألقي عليه القبض وأوتي به الى السجن. وأتذكر انه ذات يوم جاء عندي أحد حراس السجن، وفتح علي كوة الزنزانة ليبلغني سلام بنعبود، وليلتها سمعت بنعبود ينادي علي من خلف قضبان زنزانته، وكان يردد كلمة واحدة لاغير رحمه الله: لاتخف علي! وكان يقصد أنهم لن ينالوا منه شيئا، وفي الغد الموالي، وأنا في زنزانتي، فتح أحد الحراس كوة سجني وأبلغني بأن أحمد بنعبود قد نفذ فيه الحكم بالإعدام، وكانت ليلة المولد النبوي الشريف، لقد كان شابا نموذجيا باندفاعه وصدق طويته وسلامة نيته، وهو شقيق المهدي بنعبود. بالنسبة للمظاهرات الحاشدة التي سقط فيها ضحايا في عدد من المدن المغربية، لاسيما في الدارالبيضاء، هل كان هناك تنسيق بينكم للقيام بهذه المظاهرات؟ طبعا، وكان هناك نقابيون شجعان ساهموا بشكل بالغ في توجيه حركة الاحتجاجات هاته، من ضمنهم المحجوب بن الصديق والطيب بوعزة الذي أصبح سفيرا للمغرب غداة الاستقلال. وكان التنسيق بيننا في كل صغيرة وكبيرة، حيث كنا نوجه التعليمات لمختلف الفروع، رغم أنه في بعد الأحيان تكون هناك مبادرات محلية حسب وضعية كل منطقة على حدة وظروف العمل بها. وما أريد استخلاصه هنا هو أن الروح الوطنية كانت مغلغلة، وكانت شبيبة الحزب تتم تربيتهم على أساس التضحية ولاشيء آخر، ولم يكن ترديد الاناشيد ترفا، بل كان وسيلة من جملة وسائل كثير تشحذ همة الوطنيين لمزيد من العمل على تحقيق المطالب والأهداف، والتي لم تذهب سدى... من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا للاستقلال لقد كانت تلك حياتنا، وفي السجن أثناء إخراجنا في الاستراحة الومية، كانت تتحول ساحة السجن الى فضاء لترديد الأغاني والشعارات الحماسية، وبالتالي تحول السجن الى مؤسسة للتكوين وتلقين المبادئ الوطنية. ما الكلمة التي يمكن أن توجهها للمغاربة اليوم؟ على الأجيال الصاعدة اليوم أن تعرف أنها إذا كانت تنعم بالاستقلال وبالحرية ، فذلك لم يأت عنوة أو عبثا، بل جاء بعد أن دفع الغاربة ثمنا غاليا من أرواحهم وممتلكاتهم. ورغم أن الظروف اختلفت اليوم عما كانت عليه بالأمس. فإن الشباب اليوم عليهم العمل بجد لبناء وطنهم، والاستقلال لايعني سيادة روح الفردانية واللامبالاة وعدم الاهتمام بالشأن العام. بل يجب على هؤلاء أن يضعوا نصب أعينهم مقولة: إنما الشعب الشباب، ولا مستقبل لهذا الوطن بدون الشباب، لأنه عليهم أن يعرفوا حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم. وعلينا اليوم من الناحية الوطنية أن نربي أبناءنا على حب هذا الوطن، ومن الناحية الثقافية علينا توجيه الأجيال الجديدة الى ثقافة البحث والمعرفة والانفتاح، كذلك، وفي ما يتعلق بالجنس النسوي، عليه أن يقوم بواجبه في التربية والتعلم، لأنه دون تربية لا يمكن النجاح في أي مهمة، ونحن في الحزب نؤمن أن وظيفتنا ليست فقط في تجميع أكبر قدر ممكن من الشباب، بل لأجل تربيتهم على أداء واجباتهم نحو بلادهم كل حسب موقعه ومستطاعه، يابلادي يا بلادي / أنا لا أهوى سواك أقسم بالله العالي أنا لن أخونك هكذا، على المغاربة اليوم أن يستوعبوا أنهم إذا لم يعملوا من أجل وطنهم، فذلك نوع من الخيانة، وذلك عبر المحافظة على وحدة البلاد وعلى قيم البلاد وعلى دين البلاد، كل ذلك هو مسؤولية أتمنى أن يشعر كل الشباب بها، وإذا ماتحقق ذلك فلا خوف على المغرب.