ذات يوم مشمس، من أيام أكتوبر سنة 2009 اتخذت الأجهزة الأمنية الروسية احتياطات غير مسبوقة، بالقرب من مقبرة فاغانكوف وسط العاصمة الروسية. وكان الحضور الأمني ظاهراً وقوياً لدرجة لا تخفى حتى على المواطنين البسطاء الذين حاولوا زيارة بعض موتاهم في هذه المقبرة، فصدّهم رجال الأمن بقوة ونهوهم عن الاقتراب من المنطقة. كانت موسكو تستعد في تلك اللحظة لدفن فيتشيسلاف إيفانكوف الملقب ب»الياباني» بإحدى المقابر التي تضم رفات عدد كبير من عظماء روسيا، بينهم سياسيون وأدباء وفنانون مشهورون. الوصية الأخيرة « الياباني» أو «يوبونتشيك» كما تلفظ بالروسية، هو ذاته العراب فيتشيسلاف إيفانكوف الذي أوصى بأن يدفن إلى جانب والدته في هذه المقبرة بالذات. جمعت المناسبة زعماء المافيا ليس داخل روسيا وحدها، بل تجمّع كثير من «العرّابين» والرموز المعروفة في عالم الجريمة المنظمة من بلدان العالم ليودعوا واحداً من أبرز زعماء المافيا في العالم. إثر ذلك، أعلنت الأجهزة الأمنية الروسية في لهجة تحذيرية مباشرة، أنها «لن تتردد في اعتقال مطلوبين داخلياً وخارجياً فور ظهورهم في مكان الدفن»، لكن الحقيقة أن أحداً لم يعتقل بالرغم من تأكيد مقربين من يوبونتشيك أن كثيرين جاؤوا لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمانه ووداعه. لم تكن موسكو- حينها- ترغب في الدخول في مواجهة مبكرة مع أركان الجريمة المنظمة، عبر اعتقال بعض المشاركين في الجنازة، فمواجهة من هذا النوع كانت لتنتهي بحمام دم لم تكن السلطات الروسية مستعدة لتبعاته. من هو «الياباني»؟ توفي فياتشيسلاف إيفانكوف عن سن 69 سنة، بعدما خضع لعمليات جراحية عدة، وفشلت كل محاولات الأطباء لإنقاذ حياته إثر تعرضه لإطلاق نار مساء يوم 28 يوليوز 2009 أثناء مغادرته مطعماً في موسكو. التحق بصفوف المافيا في ستينيات القرن الماضي، وكان إيفانكوف قابعا في السجن عندما انهار الاتحاد السوفياتي في روسيا في العام 1991. وأفرج عنه بموجب قرار عفو أصدرته السلطات الجديدة. ولم يلبث «العرّاب» أن غادر روسيا في الفترة بين العامين 1992 و1993 متوجهاً إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. ويُعتقد أن إيفانكوف انخرط في نشاط المافيا الروسية في القارة الأمريكية، ثم تمكن من شغل موقع بارز فيها، أهّله لزعامتها في فترة قياسية، ومعلوم أن هياكل الجريمة المنظمة الروسية الناشطة في الولاياتالمتحدة تضم أصلاً مهاجرين من دول ما عرف بالاتحاد السوفياتي . الزعيم الوحيد تمكنت الأجهزة الأمريكية من اعتقاله وترحيله عام 2004، بطلب من النيابة العامة الروسية التي اتهمته بقتل شخصين من الرعايا الأتراك في مطعم «فيدان» بموسكو عام 1992. ولكن، ما إن ظهر «الياباني» في قاعة المحكمة، حتى تراجع الشهود عن أقوالهم وأكدوا أن «هذا الرجل ليس هو من أطلق النار». ولم تستطع محكمة موسكو إدانته، مما اضطرها إلى إطلاق سراحه. وكان يمكن لهذه المحاكمة أن تمر بهدوء، لكن هذا «العرّاب» المعروف بدمويته أدرك أن الحادث يدل على تربص البعض به، وأكد بعض المقربين منه أن معطيات توافرت لديه، حول تورط بعض زعماء تشكيلات المافيا في محاولة الزج به في السجن لسنوات طويلة بغية التخلص منه بعدما شعروا بأنه منافس قوي. كانت حادثة المحاكمة هذه، إيذانا ببداية «حرب المافيات» كما وصفتها مصادر أمنية، إذ شهدت المدن الروسية -عقب ذلك- عمليات اغتيال وتصفية حسابات وتفجيرات عدة، لم يلبث «الياباني» أن غدا بنتيجتها الزعيم الأوحد، متربعا على رأس هرم المافيا، حتى موته. اللافت أن عدة مؤشرات ظهرت بعد ذلك، وعززت فرضية ضلوع الأجهزة الأمنية في «تصفية العراب». فالحرب بين تشكيلات الجريمة المنظمة لم تلبث أن أطلت برأسها بقوة فور الإعلان عن استهدافه. إذ لم تكد تمر أيام على إعلان تعرض «الياباني» لمحاولة اغتيال (قبل تأكيد موته) حتى ظهرت تسريبات، نقلت بعضاً منها صحيفة «كومسومولسكايا برافدا» حول إعداد لائحة بأسماء 35 من زعماء «المافيا الجورجية» لقتلهم انتقاماً ل»الزعيم». أنشطة متنوعة في نهاية العهد السوفياتي كان مجرد ذكر «عصابة سونتسوفا» كفيلاً بأن يبعث على الرعب. ولا تمتلك الجهات المختصة معطيات محددة تشير إلى تاريخ تأسيس المجموعة، لكن الأكيد أن «الياباني» أسسها إما في الفترة الأخيرة من سجنه قبل الإفراج عنه، أو بعد خروجه من السجن مباشرة. و «سونتسوفا» هو اسم حي يقع في جنوب العاصمة الروسية، لكن المفارقة أن العصابة التي حملت اسم هذا الحي غدت أشهر من الحي ذاته بكثير. تعتبر «مافيا سونتسوفا» واحدة من أكبر تشكيلات الجريمة المنظمة في موسكو. وهي تسيطر على أكثر من عشر مناطق في العاصمة، وتفرض سيطرتها على عدد كبير جداً من الشركات والمؤسسات المهمة في المدينة، يبلغ عدد أفرادها الأساسيين بحسب تقدير الأجهزة الأمنية ما يقارب الألف عنصر مدربين جيداً على استخدام الأسلحة بأنواعها المختلفة. والعصابة متخصصة في مجال العقارات، لكن نشاطها الحقيقي يمتد إلى قطاعات كثيرة أخرى، وتنشط «سونتسوفا»، أيضاً، في مجال عمليات غسل الأموال المتحصلة من تجارة المخدرات، عبر عدد كبير جداً من «المشروعات النظيفة» التي تديرها. ويقع قطاعا الخدمات الفندقية والنظافة العمومية في دائرة اهتمام العصابة، بما في ذلك العائدات من جمع القمامة وهي مبالغ خرافية كما يؤكد عاملون في الأجهزة المختصة.