في الوقت الذي كان فيه مسلمو الإيغور يسحقون كانت 1100 شركة صينية تقيم المعرض الثالث لمنتجاتها في دبي لم أفاجأ كثيرا بانفجار غضب المسلمين في شنغيانغ، ذلك أنني أحد الذين عرفوا معاناة الإيغوريين منذ أن زرت بلادهم قبل ربع قرن، ووقفت على آثار الذل والقهر والفقر في حياتهم. وقتذاك نشرت عنهم عدة استطلاعات في مجلة العربي طورتها في وقت لاحق وصدرت ضمن سلسلة عالم المعرفة بالكويت في كتاب عنوانه الإسلام في الصين. كانت تلك الزيارة بداية علاقة لم تنقطع مع الإيغوريين، سواء في باكستان المجاورة، أو في تركيا التي لا يزالون يعتبرون أن ثمة نسبا يربطهم بها، رغم أن بلادهم صارت شنغيانغ (المقاطعة الجديدة) بعد شطب الاسم الأصلي وحظره، بحيث لم يعد أحد يجرؤ على أن يذكر اسم تركستان الشرقية الذي كان معترفا به قبل أن تبتلعها الصين في أواخر القرن التاسع عشر. أول إشارة فتحت عيني على حقيقة معاناة المسلمين الإيغور وقعت في اليوم الأول من وصولي إلى عاصمتهم أورومشى، إذ سألت عن فرق التوقيت لكي أضبط ساعتي، وفوجئت بأن كثيرين هناك ضبطوا ساعاتهم على توقيت باكستان لا الصين. وهو ما أثار فضولي، لأنني طوال الوقت ظللت أتحرى إجابة السؤال، لماذا يعتبر الإيغوريون أنهم جزء من العالم الذي تمثله باكستان، وليسوا جزءا من البلد الذي يعيشون في رحابه منذ نحو 150 عاما؟ كنت قد حملت معي من الكويت حقيبة ملأتها بالمصاحف متوسطة الحجم، بعدما أدركت من زيارة سابقة للاتحاد السوفياتي وقتذاك أن المصحف هو أثمن هدية يمكن أن يقدمها القادم من العالم العربي أو الإسلامي إلى من يصادفه من أبناء البلاد الشيوعية. ولا أنسى منظر أحد الأئمة حين قدمت إليه نسخة من المصحف، فظل يقبله وهو يبكي، ولا مشهد الشاب الذي جاءني ذات مرة ليتوسل إلي أن أعطيه مصحفا لكي يقدمه مهرا لمحبوبته التي ينوى الزواج منها. ذهبت إلى صلاة الجمعة في المسجد الكبير بأورومشى، ولاحظت أن أغلب المصلين يرتدون الثياب البيضاء وأغطية الرؤوس من ذات اللون، لكن الواحد منهم يؤدي الحركات من ركوع وسجود وهو صامت تماما، وقيل لي إن أغلبهم لا يعرف كلمة واحدة من القرآن، وإنهم يعتبرون الجمعة يوم عيد، فيتطهرون ويستحمون ويرتدون الثياب البيضاء، ويتعطرون قبل ذهابهم إلى المسجد، ثم يصطفون ويؤدون الحركات بكل خشوع دون أي كلام. وأذكر أنني قلت وقتذاك إن هؤلاء أكثر ورعا من كثيرين يحفظون الكلام. لكن صلواتهم تخلو من أي أثر للخشوع. لم تتوقف السلطات الصينية عن محاولة تذويب المسلمين الإيغوريين في المحيط الصيني الكبير وطمس هويتهم. آية ذلك مثلا أنها قررت منذ سنتين نقل مائة ألف فتاة إيغورية من غير المتزوجات (أعمارهن ما بين 15 و25 سنة) وتوزيعهن على مناطق مختلفة خارج شنغيانغ. الفتيات كن يجبرن على السفر، دون أن تعلم أسرهن شيئا عن مصيرهن، وكان ذلك من أسباب ارتفاع نسبة الاحتقان ومضاعفة مخزون الغضب بينهم. وفي الأسبوع الأخير من شهر يونيو الماضي قام العمال الإيغور بتمرد في مصنع للألعاب مقام قرب مدينة شنغهاي في جنوب البلاد، وهؤلاء عددهم سبعمائة شخص، كانوا قد هاجروا إلى مناطق «كونغدوغ» التي أقيم المصنع بها. وقد أعلنوا تمردهم لسببين، الأول أن أجورهم لم تصرف منذ شهرين، والثاني أن إدارة المصنع رفضت أن تخصص مساكن تؤوي المتزوجين منهم، التمرد أخذ شكل الإضراب عن العمل. لكن رد الفعل من جانب إدارة المصنع كان عنيفا، إذ تجمعت أعداد كبيرة من العمال الآخرين الذين ينتمون إلى أغلبية الهان (قدر عددهم بخمسة آلاف) واقتحموا مكان تجمعهم «لتأديبهم»، واشتبك معهم الإيغوريون الغاضبون. وحسب شهود عيان، فإن الاشتباك استمر من التاسعة مساء إلى الخامسة في صباح اليوم التالي، حين تدخلت الشرطة وفضته. البيان الرسمي ذكر أن اثنين من الإيغوريين قتلا، ولكن الإيغوريين أصروا على أن الذين قتلوا من شبابهم يتراوح عددهم بين خمسين ومائة، أما الذين تم اعتقالهم أو فقدوا فقد قدر عددهم بالمئات. المهم أن هذه الأخبار حين وصلت إلى شنغيانغ، فإن أهالي العمال بدؤوا يسألون عن أبنائهم وبناتهم الذين لم يعرف مصيرهم. وحين مر أسبوع واثنان دون أن يتلقوا جوابا، فإنهم خرجوا في مظاهرة سلمية رفعت فيها صور المفقودين، وحين تصدت لهم جموع الهان ورجال الشرطة حدث الصدام الدموي الذي قال البيان الرسمي إن ضحاياه كانوا 150 من الإيغوريين، في حين ذكرت تقديرات الطرف الآخر أن عدد القتلى يزيد على أربعمائة منهم. لم تكن هذه بداية غضب سكان الإقليم الأصليين، ولكنها كانت حلقة في سلسلة الصدامات التي لم تتوقف منذ أن اجتاحت الصين تركستان الشرقية في عام 1933 وضمتها رسميا في عام 1949. وظلت كل انتفاضة للإيغوريين تقابل بقمع شديد بدعوى أنهم انفصاليون تارة وإرهابيون أخيرا، حتى قيل إن ضحايا القمع الصيني قدر عددهم بمليون مسلم ومسلمة. الانتفاضة هذه المرة كانت أكبر من سابقاتها، الأمر الذي اضطر الرئيس الصيني إلى قطع اجتماعاته في قمة روما والعودة سريعا إلى بكين لاحتواء الموقف المتدهور في شنغيانغ. إذ من الواضح أن المسلمين هناك ضاقوا ذرعا بإذلالهم وحرمانهم من تولي الوظائف الرسمية، ومنعهم من صوم رمضان وأداء فريضة الحج ومصادرة جوازات سفر كل الإيغوريين لعدم تمكينهم من الحج إلا عبر الوفود التي تنظمها الحكومة، وتشترط أن يودع الراغب في الحج ما يعادل ستة آلاف يورو لدى الحكومة (وهو ما يعني إفقار أسرته)، وأن تتراوح سنه ما بين خمسين وسبعين سنة. مأساة شعب الإيغور (الكلمة في اللغة القديمة تعني المتحد أو المتحالف لأنهم كانوا في الأصل عدة قبائل ائتلفت في ما بينها) تكمن في ثلاثة أمور، الأول أنهم يعيشون في قبضة دولة كبرى ظلت متماسكة عبر التاريخ، لم تتعرض للتفكك كما حدث مع الاتحاد السوفياتي مثلا. الثاني أن بلادهم الشاسعة (1.6 مليون كيلو متر مربع تمثل خمس مساحة الصين وثلاثة أضعاف بلد مثل فرنسا) تتمتع بوفرة ثرواتها الطبيعية. إذ يقدر احتياطي النفط لديها بنحو ثمانية مليارات طن، ويجري في الوقت الحاضر استخراج 5 ملايين طن منه كل يوم. هذا إلى جانب أنها تنتج ستمائة مليون طن من الفحم الحجري. وبها ستة مناجم يستخرج منها أجود أنواع اليورانيوم، إضافة إلى وجود معادن أخرى على رأسها الذهب، والأمر الثالث أنهم مسلمون، ينتمون إلى أمة منبوذة في العالم، وتمثلها أنظمة لاهية ومهزومة سياسيا وحضاريا. هم ليسوا مثل البوذيين في التبت الذين يتعاطف العالم مع قضيتهم. ولا مثل كاثوليك إيريان الغربية الذين وقفت الدول الكبرى مع استقلالهم عن إندونيسيا. ولا وجه لمقارنتهم باليهود الذين واجهوا مشكلة في أوربا فقررت الدول المهيمنة حلها عن طريق تمكينهم من اقتلاع شعب فلسطين وإقامة دولة لهم على أرضهم. استطرادا من هذه النقطة -وللعلم فقط- فإن حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية في العام الماضي 2008 وصل إلى 133 مليار دولار. وهذا الرقم يزيد سنويا بمعدل 40 ٪، وللعلم أيضا فإنه في الوقت الذي كان فيه مسلمو الإيغور يسحقون كانت 1100 شركة صينية تقيم المعرض الثالث لمنتجاتها في دبي. للعلم كذلك، قال لي أحد المسلمين الصينيين الذين يجيدون العربية إنه يكلف بمصاحبة وفود الحج الرسمية التي تزور الدول العربية بعد أداء الفريضة، وتلتقي بقادتها ومسؤوليها. وقد فجع صاحبنا لأنه أثناء تلك اللقاءات فإن أحدا من القادة العرب لم يحاول أن يسأل الوفود التي رافقها عن أحوال المسلمين في الصين، الذين تقدرهم المصادر التركية بستين مليونا، نصفهم من الإيغور.