يقال إن السياسي لا يخشى غير المؤرخ. والصحافي هو، بصيغة أو بأخرى، مؤرخ للمرحلة. لذلك فحينما ننفض بعض الغبار اليوم عن واحدة من أقوى اللحظات السياسية لمغرب الحسن الثاني، فلكي ننعش الذاكرة أولا، ولكي نعرض لجيل اليوم حكايات من زمن سنوات الرصاص. هي ليست من نسج الخيال، ولكن من صنع الإنسان في إطار الصراع المحموم حول السلطة آنذاك بين ملك شاب، ومعارضة ظلت تمني النفس باقتسام هذه السلطة. خمس سنوات من حكم الحسن الثاني، كانت كافية ليضيق صدر الملك، ويعلن، في واحدة من الأحداث السياسية الأكثر دموية في مغرب الاستقلال، عن حل البرلمان، وإغلاق أبوابه بعد أن تفجرت شوارع الدارالبيضاء وغيرها من المدن، واضطر أوفقير، الجنرال الدموي، لضرب المتظاهرين بالسلاح الثقيل حيث سقط القتلى بالآلاف. ولم يكن غريبا أن يعترف الحسن الثاني بعد ذلك أنه هو من أعطى أوامره من أجل استتباب الأمن. تفجرت الدارالبيضاء. وخرج التلاميذ للتظاهر. سقط القتلى. وامتلأت سجون المملكة بأولائك الذين اعتبرهم الحسن الثاني رؤوس الفتنة. ثم عاش المغرب حالة استثناء بإنهاء العمل بأول برلمان انتخب في أول تجربة بعد الاستقلال. وهي الحالة التي ستستمر إلى أواسط سنوات السبعينيات، مع ما رافق هذه الرحلة من محاولات انقلابية ظلت تستهدف شخص الملك. وبموازاة كل هذه الحركية السياسية العلنية، كانت خلايا التنظيمات السرية تنظم نفسها، خصوصا في صفوف الطلبة الذين رأوا أن الأحزاب السياسية وقتها أضحت تقليدية، والحياة السياسية في حاجة لدماء جديدة هي التي ستلد بعدها منظمة 23 مارس، ومنظمة إلى الامام، وشهداء الشعب. ظلت المعارضة البرلمانية، التي كان يقودها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ترى أن تلك «الشاشية» التي يرتديها النواب البرلمانيون في الجلسات الافتتاحية التي يترأسها الملك، هي رمز للعبودية. وأن ذلك اللباس التقليدي لم يعد مناسبا للمرحلة، لذلك سيقرر الاتحاديون والملك يستعد لافتتاح جلسات البرلمان، ليتركوا الجلباب والشاشية ويرتدوا بذلة عصرية بدون ربطة عنق، لكي لا ينعثوا في المقابل بالبرجوازية الصغيرة. لقد شكل هذا الموقف وقتها، الحدث السياسي الأبرز الذي غطى على كل ما حملته كلمة الملك في افتتاح البرلمان. وسجل المتتبعون أنها بداية معركة لن تنتهي بين الحسن الثاني والمعارضة، التي كانت قد حاولت إسقاط حكومة السيد احمد ابا حنيني سنة 1964 وهي تنجح في تقديم ملتمس للرقابة، رأى فيها الكثيرون بعد ذلك بداية شد الحبل بين طرفي الصراع حول السلطة : الملك ومعارضته، وهو الشد الذي سيقود إلى انتفاضة الدارالبيضاء، وإلى الإعلان عن حالة الاستثناء. لم يقبل الحسن الثاني بالأمر. ورفض أن يتابع نواب الأمة الجلسة من داخل القاعة العامة، حيث خصصت لهم قاعة جانبية. أما تبعات كل ذلك فهي أن الملك هدد باعتقال كل الفريق الاتحادي بعد أن «خرج عن ملة الجماعة». ولأن الملك هو أمير المؤمنين بنص الدستور، فإنه مضطر لتحريك قضية الخروج عن ملة الجماعة. أصل الحكاية لم تكن هذه المحطة بين الحسن الثاني وعدد من رجال حزب الاستقلال ثم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعد ذلك، غير فصل من فصول الصراع. لقد سبق أن دخل الطرفان في مواجهة صريحة منذ كان الحسن الثاني وليا للعهد. وقد كتب أكثر من متتبع كيف أن الأمير مولاي الحسن ظل يعتبر أن ما قام به من أجل الاستقلال أكبر من كل الأدوار التي قام بها الوطنيون. ولذلك سيطلب مباشرة بعد تكوين أول حكومة في الاستقلال قادها عبد الله ابراهيم، وكان في صفوفها عبد الرحيم بوعبيد وزيرا للاقتصاد والمالية، الرفع من مصروفه وهو وقتها في باريس بعد أن فتح في العاصمة الفرنسية مكتبا كان يجري من خلاله اتصالاته مع الجهات النافذة. وهو المكتب الذي كان عليه أن يؤدي أجور تلك الشخصيات السياسية والإعلامية والأمنية التي اشتغلت إلى جانب الملف المغربي. لقد طلب محمد الخامس من وزراء حكومته أن يصرف للأمير مولاي الحسن ما يحتاجه لكي يستمر هذا المكتب في أداء مهامه، وإلا فسدت كل الأشياء التي كسبها المغرب. غير أن بعض الوزراء تحفظوا على الأمر حينما اكتشفوا أن ديون الأمير لم تكن فقط بسبب هذا المكتب وأجور الأمن والمخابرات التي اخترقها، ولكن لأن الأمير مولاي الحسن دخل في جملة من الصفقات والامتيازات لفائدة شركات فرنسية وأمريكية. والحصيلة هي أن حكومة بداية الاستقلال ستكتشف أن ذلك «الصندوق الأسود» الذي ستصرف منه ديون ولي العهد، لم يكن يتوفر إلا على ثلاثين ألف دولار، وتلك كانت مجرد قطرة في بحر ديون الأمير. كان الخلاف بين الطرفين بمثابة رماد تحت النار. وظل الوطنيون يقارنون بين اسلوب تدبير الملك محمد الخامس وولي عهده، لذلك لم يأخذ الحسن الثاني ما يكفي من الوقت لتدبير الأزمة، ورأى أن الانتفاضة في حاجة لقمع دموي، لم يكن بطله غير الجنرال محمد اوفقير الذي ظلت مروحياته تسقط القتلى من سماء الدارالبيضاء. لقد تدخل الجيش، بقوة كبيرة مستعملا الأسلحة الثقيلة. ومع ذلك لم يسيطر على الوضع إلا بعد أيام. والنتيجة قتلى وجرحى ومعتقلون. وقد اشتعلت الانتفاضة في ظل أوضاع اقتصادية ومالية بالغة الخطورة اتسمت بتجميد الأجور، والطرد الجماعي التعسفي للعمال في القطاع الخاص، واعتقال حميد برادة، رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، المنظمة التي ستشكل البديل للشباب المغربي بعد أن اكتشف أن الأحزاب التقليدية تخلت عن مهامها، ثم محاكمته. وفشل الحكومة في حل المشاكل المستعصية. دورية وزارة التعليم تشعل الفتيل ستشكل دورية أصدرتها وزارة التعليم تلك النقطة التي ستفيض الكأس. إنها الدورية التي أصدرتها وزارة التعليم ليوم 19فبراير من سنة 1965. والتي راهنت على تقنين سن الالتحاق بالسلك الثاني الثانوي للتلاميذ الذين يبلغ عمرهم أقل من 17 سنة وإحالة ما فوق 17 سنة على التعليم التقني. وهي الدورية التي رفضها المشتغلون في قطاعي التعليم الأصيل والعصري ، وهي التي دفعت الآباء والأبناء للاحتجاج ابتداء من 22 مارس، في مظاهرات سلمية عفوية باغتت الجميع بحجمها واتساعها في كل من الدارالبيضاء وفاس ومكناس ومراكش وتاونات. لقد كانت الخطة الخمسية الأولى، التي كانت حكومة احمد ابا حنيني قد وضعتها قد فشلت. ووصل عدد المعطلين في مدينة الدارالبيضاء لوحدها إلى عشرات الآلاف. أما إبعاد التلاميذ الذين وصلوا سن السابعة عشر من مدارس التعليم الثانوي، فلأن داء السياسة قد وصلهم، وإلحاقهم بالتعليم التقني. كان مبرر الملك هو ربط التعليم بعالم الشغل، الذي كان في حاجة لمتمرسين، أكثر من حاجته لمتعلمين تعليما عاما. أما التفسير الذي قدمته المعارضة فهي أن تلاميذ المؤسسات الثانوية أصبحوا يشكلون خطرا على النظام لأنهم انشغلوا بالسياسة وانخرطوا في عدد من التنظيمات السرية التي ولدت منها منظمة 23 مارس، وإلى الأمام. سقط القتلى. واعتقل الآلاف من التلاميذ والطلبة. ولم يجد الحسن الثاني من صيغة لاحتواء الأزمة غير التفكير في حل البرلمان في السابع من يونيو، وإعلان نفسه الحاكم المطلق بعد ثلاثة أشهر من اشتعال فتيل الدارالبيضاء. لكن قبل ذلك اختار أن يؤنب المدرسين الذين اعتبرهم وراء ما حدث بعد أن وصفهم ب «أشباه المثقفين». كما عاتب النواب البرلمانيين في خطاب ناري بعد أن طالبوا بإحداث لجنة لتقصي الحقائق. «إنكم لو كنتم مؤمنين مثلي بالديمقراطية في الحقيقة، يقول الحسن الثاني في خطابه، «لما ضيعتم أوقاتكم في سفاسف الأمور. أقول لكم أيها النواب، أيها المنتخبون، إنكم متشبثون بالحصانة فقط، ومتشبثون بما تتقاضونه كل شهر من الدولة. أطلب منكم أن يكون لكم ضمير مهني كاف لكي تعطوا لهذه الدولة، وذلك الشعب المقابل للشيء الذي تتقاضونه». تلك كانت هي الإشارة الأولى على أن القادم أقوى. والقادم لم يكن غير قرار إعلان حالة الاستثناء، وحل البرلمان، وتوقيف الحياة السياسية في بلد خارج للتو من حكم المستعمر الفرنسي. لقد عاش المغرب الكثير من الأحداث السياسية بسرعة كبيرة. فقد تم التصويت على الدستور في 1962. ونظمت أول انتخابات تشريعية في 1963. وقدمت المعارضة ملتمس رقابتها ضد حكومة ابا حنيني في 1964. وتم حل البرلمان والإعلان عن حالة الاستثناء في 1965، ليحتد الصراع بين المؤسسة الملكية والأحزاب السياسية. بوطالب والخطيب ضد قرار الملك يحكي عبد الهادي بوطالب في «قرن من السياسة»، بعد أن كلفه الحسن الثاني بكتابة خطاب حل البرلمان والإعلان عن حالة الاستثناء، «أنه لم يكن مقتنعا بهذا الاختيار». لقد تلقى دعوة من الحسن الثاني وهو في مدينة إفران. وهما بالقصر الملكي لهذه المدينة التي كان يعشقها، قال الملك الراحل لضيفه «إن الأمور لا تسير نحو الأحسن. والديمقراطية التي أخذنا بها معطلة. والبرلمان لا ينتج شيئا. إنه لا يزال عقيما. فلم يصدر عنه أي مشروع قانون، ولا مقترح. والبلاد فيها فساد». لذلك أريد، يقول الحسن الثاني، أن يكون حل البرلمان والاعلان عن حالة الاستثناء، بمثابة خطوة من اجل الأصلاح. كان رد بوطالب واضحا «أن المغرب بلد ديمقراطي، وفيه برلمان. ولا شك أن حالة الاستثناء ستطعن في النظام المغربي، خصوصا من لدن خصومه في الخارج». ولذلك اقترحت عليه، يضيف عبد الهادي بوطالب، أن يقوم بحل البرلمان والدعوة لانتخابات سابقة لأوانها، بدلا من حالة الاستثناء. لكن الحسن الثاني رفض. واختار الإعلان عن حالة الاستثناء، التي سكت الدستور المغربي عن المدة التي يمكن أن يستمر فيها، وهو ما كان يعني أنها قد تمتد لسنوات دون أن يكون لأحد القدرة على المطالبة بإلغائها. ولذلك امتدت لخمس سنوات وجد الحسن الثاني أنها قد تقتل الحياة السياسية في البلد أكثر مما تحركها، خصوصا وأن المدة الفاصلة بين 1965 والإعلان مجددا على إعادة الروح في الحياة السياسية عرفت محاولتين لإسقاط نظام الملك في 1971 و1972. لقد رفضت جل الهيئات السياسية وقتها ما اختاره الملك. واعتبر المتتبعون أن فترة الاستثناء قوت حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في البلد أكثر مما ضربته. ولذلك كان الاتحاد قويا ما بعد حالة الاستثناء، على الرغم من أن الانتخابات كانت لا تمنحه أغلبية المقاعد بسبب حالات التزوير والفساد التي عرفتها جل الاستحقاقات الانتخابية التي انطلقت في أواسط السبعينيات. وفي كتاب سيرته الذاتية «مسار حياة»، يستحضر الراحل عبد الكريم الخطيب حكايته مع الحسن الثاني بشأن حل البرلمان الذي كان يترأسه باسم الحركة الشعبية. فبعد أن استدعاه الحسن الثاني رفقة السيد الشرقاوي، الذي كان رئيسا لمجلس المستشارين، لإشعاره بقرار الحل، وأن يسلم مفاتيح البرلمان لأوفقير، الذي كان متحمسا لقرار الاستثناء، رفضت الأمر، يقول الخطيب. وهو ما استغرب له الملك الراحل، الذي ظل يعتقد أن الخطيب رجل القصر سيكون أول المتحمسين لقرار الاستثناء، في الوقت الذي لم يبد المحجوبي أحرضان أي اعتراض على قرار الملك. والحصيلة هي أن الخطيب ترك خلف ظهره الحركة الشعبية وراح يؤسس، بعد أن عادت الروح للحياة السياسية المغربية، حزبه الجديد «الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية»، الذي سيتم تجميده بعد ذلك احتجاجا على تدخل السلطة وتزويرها لنتائج الانتخابات. لذلك لم يشارك الخطيب في عدد من المحطات السياسية احتجاجا على تزييف إرادة الناخبين، كما كتب ذلك في كتاب سيرته الذاتية، قبل أن يعود في بداية التسعينيات إلى فتح حزبه في وجه الحركة الإسلامية التي ولد منها حزب العدالة والتنمية. 23 مارس وإلى الأمام فتحت عملية إشراك الجيش في قمع انتفاضة الدارالبيضاء في 23 من مارس من سنة 1965 النقاش بين عدد من الضباط الشباب حول الدور الموكول للمؤسسة العسكرية، حيث تساءلت شريحة واسعة من ضباطها الشباب عن مهمة الجيش هل هو حماية الوطن أم قتل أبنائه. لتتناسل الأسئلة عن الأوضاع السياسية والاجتماعية. وهي نفس الأسئلة التي شكلت وعي ضباط دفعهم بعد ذلك للقيام بمحاولتين انقلابيتين سنتي 1971 و1972 . المحاولتان اللتان انتهتا بإعدام الضباط المتورطين، الذين كان أغلبهم منحدرا من أصول أمازيغية ما ساعد على تشكل حركات أمازيغية. أما الأحزاب السياسية، والتي حملت كامل المسؤولية للدولة فيما وقع، فقد دخلت في جمود سياسي وتنظيمي بعد إعلان حالة الاستثناء حيث عرفت قواعدها تذمرا دفع بالبعض منها لنهج العمل المسلح، في الوقت الذي اختارت فيه العناصر الطلابية والشبابية، والتي كان لها موقف مندد بسياسة المفاوضات التي تنهجها الأحزاب مع الملك، البحث عن بديل فكري وتنظيمي، خصوصا بعد هزيمة العرب في 1967 ، وقيام الثورة الثقافية في الصين، وأحداث ماي 1968 بفرنسا. والنتيجة هي أن شباب من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والحزب الشيوعي المغربي وقتها اختاروا ان يؤسسوا تنظيم 23 مارس، ثم حركة «إلى الأمام». بعد أن أصبح الاتحاد الوطني لطلبة المغرب هو الخلية الكبرى للعمل السياسي في بلد يعيش حالة الاستثناء. هي حكاية من زمن سنوات الرصاص التي عرفت القتل والاعتقال والنفي والسجون. لم يكن أبطالها غير نظام الحسم الثاني وأحزاب اليسار المغربي، ثم جيل الطلبة الذين وجدوا أن سبل الإصلاح هي تغيير النظام.
عندما دعا الاتحاد الوطني لطلبة المغرب إلى إسقاط نظام الحسن الثاني
في غشت من سنة 1963، وخلال المؤتمر الوطني الثامن لمنظمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ستخرج هذه المنظمة، التي أصبح لها وجود كبير، ليس فقط بين طلبة الكليات والجامعات، ولكن فيما بين تلاميذ المؤسسات الثانوية، عن صمتها وتعلن صراحة أنها مع ضرورة إسقاط النظام. ولذلك فحينما اشتعلت انتفاضة الدارالبيضاء في 23 مارس من سنة 1965، كان لا بد أن توجه أصابع الاتهام ل «الأوطيم».. لقد كان الاتحاد الوطني لطلبة المغرب قد بلغ، بعد ست سنوات من تأسيسه، النضج الكافي بتواجده في جل المؤسسات الجامعية الكبرى. وفي غشت 1963 وخلال المؤتمر الوطني، ستعلن المنظمة صراحة أنه «اليوم، وبعد التجارب التي شهدها بلدنا والتي كانت مطبوعة بأحداث هامة من قبيل المعركة ضد الدستور الملكي، والقمع المعمم في القرى ضد كل قوى المعارضة، والضربة الموجهة للحزب التقدمي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بات وجود النظام في حد ذاته هو العقبة في وجه تحقيق تطلعات الجماهير الشعبية وفي وجه أي إمكانية للتقدم». ولذلك «يعلن المؤتمر الثامن للاتحاد الوطني لطلبة المغرب أن إلغاء النظام، هو الشرط المسبق لإخراج البلد من الأزمة المفتوحة أو الكامنة التي يتخبط فيها باستمرار منذ الاستقلال، في الواقع يتجلى الوجه الحقيقي للنظام الملكي المغربي في السلوك اللاوطني لأقلية إقطاعية تغتصب السلطة وتدافع عن المواقف الاستراتيجية للاستعمار الجديد في هذه الشروط، فإن المؤتمر الثامن للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وعيا بالمسؤوليات التي تقع على كاهل الطلبة في الطور التاريخي الجديد الذي يدخله نضال شعبنا، يعلن أن الطلبة المغاربة سيوجهون جهودهم نحو تحقيق الهدف الأساسي لشعبنا : سقوط النظام الحالي وتسلم السلطة من طرف المنظمات الشعبية والثورية والديمقراطية، الممثل الشرعي لشعبنا». كان نشاط الاتحاد الوطني لطلبة المغرب قد امتد إلى الثانويات وتنامت نضالية شباب المدارس، فاستشعر النظام الخطر وصدر ظهير في 21 يونيو 1963 يمنع على الاتحاد الوطني لطلبة المغرب تنظيم التلاميذ. قبل أن تتعرض المنظمة الطلابية منذ 1964 للمحاكمة بقصد حلها، وهو ما رفضته محكمة الرباط في 30 ديسمبر من نفس السنة.. وقد لعبت هذه المنظمة الطلابية دورا كبيرا في انتفاضة الدارالبيضاء التي أسقطت بسلاح الجيش سبعة قتلى وعددا من الجرحى. فيما كان عدد المعتقلين يقارب 200 جلهم من رموز المنظمة التي كان يجب أن تؤدي ثمن اختياراتها وهي تعلن صراحة أنها مع إسقاط نظام الحسن الثاني. وبعد أسبوع من بداية الاضرابات التلاميذية، والمظاهرات الشعبية، سيعترف الملك بالأسباب الاقتصادية والاجتماعية للاستياء الشعبي، ويقول في خطاب كان يعني به رجال التعليم وطلبة الجامعات: «أقول لكم إنه لا أخطر على أي دولة من الشبيه بالمثقف، وأنتم أشباه مثقفين، وليتكم كنتم جهالا».
هؤلاء صنعوا حركة «23 مارس» ومنظمة «إلى الأمام»
لم تعد الأحزاب السياسية التقليدية تقوم بدورها بعد أن دخلت مباشرة بعد الإعلان عن حالة الاستثناء بحل مجلس النواب في يونيو من سنة 1965 في ما يشبه السبات الشتوي. وضاق الطلبة والعمال درعا بحالة الجمود السياسي الذي أراده الحسن الثاني لمغرب خارج للتو من براثن الاستعمار، لذلك كان لا بد من البحث عن البديل الذي انطلق سريا، قبل أن يعلن عن نفسه، سواء في اتجاه إسقاط النظام بالقوة، أو بالطرق السلمية. غاب حزب الاستقلال ومعه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ولم يعد يرسم ملامح الحياة السياسية غير منظمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، التي ستصدر بلاغات نارية عقب مؤتمراتها. كما ظلت المنظمة النقابية الاتحاد المغربي للشغل تقوم بمهام سياسية أكبر في ظل الجمود الذي تسببت فيه حالة الاستثناء. غير أنه خلف هؤلاء، كان عدد من مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والحزب الشيوعي المغربي وبعض الأطر الجامعية ترسم ملامح توجه آخر انطلق سريا قبل أن يعلن عن نفسه في مستهل السبعينيات. ولأن هذه العينة من الطلبة والمناضلين اليساريين قد عاشت واكتوت بنار انتفاضة 23 مارس 1965، فقد اختار تيار منهم أن يسمي نفسه بهذا الاسم استحضارا لروح القتلى، الذين أسقطتهم الأسلحة الثقيلة للجنرال محمد أوفقير. كان لا بد لهذا الجيل أن يستمد حمولته السياسية والنضالية مما يقع من حوله. لقد خسرت الأنظمة العربية حربها ضد إسرائيل في 1967، مما فتح الأعين على حقيقة هذه الأنظمة، التي ظلت تخشى على نفسها من السقوط. كما أن انتفاضة ماي 1986 بفرنسا كانت دافعة قوية للشباب المغربي لأخذ العبرة والدروس. نفس الدروس التي حملتها الثورة الثقافية لماو تسي تونغ. هذا بالإضافة إلى الأفكار الشيوعية الماركسية اللينينية، والتروتسكية التي كانت تجد لها في الجامعات المكان الطبيعي. بدأت أولى خلايا هذه التنظيمات السرية، التي لم تكن تخفي في أدبياتها ضرورة إسقاط النظام لكن دون عنف، في مدن الدارالبيضاء وفاس ومراكش والرباط، قبل أن يصبح لها وجود في بعض المدن الفرنسية، خصوصا بعد أن اختار عدد من الطلبة الذين اضطهدهم النظام الهجرة والعيش في المنفى. اليوم، لا بد للجيل الجديد أن يعرف أن عددا من هؤلاء الذين اختاروا العمل السري في منظمة إلى الأمام أو 23 مارس عادوا للانخراط في الحياة السياسية بعد سنوات من الاعتقال والنفي والتعذيب خلال ما اصطلح عليه بسنوات الرصاص. لقد تشكلت منظمة إلى الأمام في خليتها الأولى، كما كتب الباحث المصطفى بوعزيز في مؤلفه: «مقدمة لدراسة الحركة الماركسية اللينينية المغربية فيما بين 1965 و1979» من ابراهام السرفاتي، وعبد اللطيف زروال وعبد اللطيف اللعبي ورايمون بن حاييم وزهور بن شمسي وأمين عبد الحميد. أما حركة 23 مارس، فقد تكونت خليتها الأولى من مصطفى مسداد ومحمد الحبيب الطالب ومحمد المريني وسيون اسيدون واحمد حرزني ومحمد مجاهيد ومحمد بن سعيد ورشيد سكيرج وعبد السلام الجبلي ومحمد مخلس وحميد برادة ورافاييل مرغي. قبل ان ينضاف الى هذه الخلية كل من محمد البردوزي ورشيد فكاك وعبد القادر الشاوي وعبد العزيز موريد وصلاح الوديع والطاهر المحفوظي ومصطفى السليماني وفاروق الشاومي ومرية سدراتي وليلى الشاومي، ثم عبد الله ساعف واحمد اخشيشن.