الحلقة 14 شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، قهروا القمع والمعتقلات منذ ستينيات القرن الماضي، واستماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل. ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة. في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها. لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ». وقع اختيارنا على عبد الواحد سهيل كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازال قائدا سياسيا تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات. يفتح لنا صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء مرتعا خصبا لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات.... عبد الواحد سهيل شخصية بارزة في حزب عريق. حزب ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد، قبل أن يحمل، أخيرا، اسم حزب التقدم والاشتراكية. عبد الواحد سهيل، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون. من معين هذا المناضل، ومن تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب. دبابات أوفقير في مواجهة تلاميذ الدار البيضاء يمكن اعتبار الأحداث التي وقعت بمدينة الدارالبيضاء في الثلث الأخير من شهر مارس 1965 محطة تستلزم الوقوف لإعادة قراءتها بكثير من التروي . كانت أحداث مارس 1965 إدانة شعبية لسياسة التعليم وإدانة لسياسة الحكومة آنذاك. جاءت الانتفاضة في ظل أوضاع اقتصادية ومالية بالغة الخطورة اتسمت بتجميد الأجور والطرد الجماعي التعسفي للعمال في القطاع الخاص، واعتقال حميد برادة رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ومحاكمته، وفشل الحكومة في حل المشاكل المستعصية للمغاربة، وفي ظل احتقان سياسي بين الأحزاب والملك وفي قبة البرلمان تحديدا، صراع لم تكن فيه الغلبة لأحد. كان يوم 22 مارس يوم احتجاج وإضراب رفعت فيها شعارات تطالب بالتعليم لأبناء الشعب صدح بها تلاميذ لا تتجاوز أعمارهم السابعة عشرة ربيعا. في شوارع مدينة الدار البيضاء، بعد انطلاقتهم من مجموعة من المدارس كثانوية مولاي عبد الله ومحمد الخامس والخوارزمي والخنساء وغيرها من المؤسسات التعليمية ...انتفاضة التلاميذ سرعان ما ستتحول الى انتفاضة شعبية بعد التحاق الجماهير بصفوف الصبية الصغار دعما لمطالبهم ورفعا للظلم المسلط عليهم. وارتبطت انتفاضة 23 مارس1965 أساسا بمدينة الدار البيضاء ، التي كانت تعج بساكنة كبيرة العدد، جلها فئات مهمشة وفقيرة قادمة من البادية،وكذا باستعمال الأسلحة الثقيلة من اجل إخماد المظاهرات التي انطلقت من عدة ثانويات وفي أكثر من حي. وظهر جليا محدودية رجال الأمن في عودة الهدوء ، فلجأ القصر للجيش الذي تدخل بشراسة وعنف كبيرين واستعمل الأسلحة حتى الثقيلة منها بقيادة الجنرال الدموي أوفقير. ومع ذلك لم يسيطر على الوضع إلا بعد أيام. والنتيجة قتلى وجرحى ومعتقلين. ولتفريق تجمعات التلاميذ وتشتيت مظاهراتهم السلمية التي انظم اليها بعض المواطنين ، تدخلت الشرطة بقسوة ووحشية وقامت باعتقالات واسعة شملت أطفالا تضررت أجسادهم الصغيرة من تدخلات رجال الأمن والسيمي العنيفة. ودفاعا عن فلذات أكبادهم، لم يجد المواطنون بدا من التدخل واضعين أجسادهم درعا واقيا لبناتهم وأبنائهم. ولم يزد ذلك قوات القمع إلا إصرارا على التمادي في ساديتهم و في معاملاتهم الوحشية مستهدفين الجميع بما فيهم الآباء والأمهات. لم يكن الصبية يطالبون سوى بمقعد في المدرسة حاول قرار وزير التعليم مصادرته منهم . نعم كانت انتفاضة الثاني والعشرين من مارس 1965 تستهدف قرار وزير التعليم يوسف بلعباس القاضي بطرد التلاميذ من المدارس والثانويات لاعتبارات عمرية.فقد اتخذت الحكومة إجراءات تقضي بأن يطرد من المؤسسات التعليمية التلاميذ البالغون من العمر 15 سنة من السنة الأولى والبالغون من العمر 16 سنة من السنة الثانية والبالغون 17 سنة من السنة الثالثة. بحيث أن التلاميذ الذين لم يتمكنوا من الالتحاق بالتعليم الابتدائي أو الثانوي في السن المحدد لظروف ما، أصبحوا مهددين بالطرد. في صباح اليوم الموالي، أصبح الجو متوترا، حيث استمر الإضراب ومظاهرات التلاميذ المحتجين ضد قرار الطرد من المدارس، كما أن هذه الإجراءات مست الآلاف من العائلات في جميع مدن المغرب، وهو الأمر الذي أدى إلى اندلاع هذه الانتفاضة، وسرعان ما عززت صفوف المتظاهرين بآلاف من الشباب . وفيما بعد أطلقت المسيرات الاحتجاجية للتلاميذ والطلبة فيمدن مغربية أخرى. كنت شاهدا على انفجار غضب الجماهير الشعبية الثائرة في الدارالبيضاء. فسني آنذاك كان يقارب الخامسة والعشرين. أذكر حينها أنني ذهبت في وفد إلى المحجوب بنصديق الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل طالبا أن تبادر هذه المنظمة النقابية إلى دعوة العمال إلى إضراب عام. كان شمعون ليفي ضمن محاورينا، ممثلا للاتحاد المغربي للشغل.كان يجلس إلى جانب المحجوب بنصديق. هذا الأخير، وبعد أن استمع مليا إلى مطلبنا، شبه دعوتنا بالطموح الجارف الذي لا يرتكز إلى بصيرة ووعي ، واعتبرنا مندفعين . وقد وجدت شخصيا، بعد مضي سنوات، على أن موقف المحجوب بنصديق كان رزينا وواقعيا. فانتفاضة التلاميذ الصغار تحولت إلى إضرابات شاملة وعامة .كان رد الفعل الجماهيري عنيفا خلال اليوم الثالث . فقد تم الهجوم على السجن المدني، وعلى مراكز الشرطة ، وأضرمت النيران على مخازن التمويل . وتوقف العمال عن العمل وأغلقت المتاجر. باتت الدار البيضاء مسرحا لأحداث خطيرة لم يقو رجال الأمن على صدها. في البداية أعطى الجنرال اوفقير الأمر لرجاله بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين في الأحياء الشعبية . لكنه ما لبث أن استعان بقوات الجيش الملكي التي استعملت الدبابات والأسلحة الثقيلة. كان أوفقير يتتبع الأحداث عبر مروحية تجوب أجواء الدارالبيضاء ويعطي الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين مما خلف سقوط العديد من القتلى ومئات من الجرحى واعتقالات واسعة في صفوف التلاميذ والطلبة وعموم المواطنين . وفي ليلة الثالث والعشرين من 23 مارس سمح أوفقير للدبابات باكتساح شوارع المدن والفتك بالعمال والشباب والعاطلين نساء ورجال. لن أذيع سرا إذا قلت إنني رأيت جثثا متناثرة في كل الشوارع التي مررت بها . جثث لم تعرف طريقها إلى أهلها وذويها. إذ كانت قوات الأمن تحملها على ظهر العربات . وفي أواخر الشهر نفسه، سيلقي الملك الراحل الحسن الثاني خطابا حمل حمل المثقفين ورجال التعليم مسؤولية ماحدث ، وهاجم نواب المعارضة الذين كانوا يطالبون بلجنة للتحقيق. هكذا حسم الملك الموقف اتجاه الطبقة السياسية والأحزاب ، فحل البرلمان وأعلن حالة الاستثناء يوم7 يوليوز 1965، لتقبر بذلك أول تجربة برلمانية عرفها المغرب. ذلك انه بعد شهرين عن الأحداث اتخذ الملك جملة من الاجراءات السياسية منها تعليق الدستور ، وحل البرلمان ، وإقامة حالة استثناء ، حيث أصبحت جميع السلطات في يد الملك، ثم الإختطاف والإغتيال الذي تعرض له الشهيد المهدي بنبركة في 29 أكتوبر 1965 . وهيمن الجمود في الحياة السياسية وأدى ذلك إلى محاولة الانقلاب الفاشلة الأولى في 10 يوليوز 1971 والثانية في 16 غشت 1972 . وتحت غطاء إعادة تنظيم المجال الحضري ولمجابهة التمدن السريع في أكثر من 12 مدينة ،عمدت الدولة للمقاربة الأمنية بخلق عمالات وتعزيز التواجد الأمني بهذه المدن لإحكام القبضة على الساكنة. نعم .اضطرت الطبقة السياسية، كل من موقعه، أن تبحث عن الأسباب وعن تحديد المسؤوليات والتفكير في الحلول ، مع الإختلاف في تقدير الموقف واختلاف في أرقام الموتى والمعتقلين وهوياتهم. كما اضطرت تلك الطبقة للتفكير مليا في هذه«القوى الجديدة» التي شاركت في هذه الانتفاضة والخارجة عن كل تأطير أمني أو نقابي أو حزبي، مما أدى إلى اتخاذ عدة إجراءات من طرف النظام كانت لها نتائج قريبة ، متوسطة وبعيدة المدى على شرائح الشعب وأحزابه ونقاباته وعلى وحدة الوطن أيضا. وفي المقابل، فإن انتفاضة مارس1965 أجبرت الأحزاب على مراجعة خطها وطرق عملها في الميدان السياسي والنقابي وعلى إبراز هويتها الفكرية والإيديولوجية وعلى ضرورة الاهتمام بالشباب داخلها والاهتمام بأنشطة الجمعيات والأندية الثقافية والتربوية. كلها عوامل ساهمت مع أخرى في القفزة النوعية للعمل السياسي وفي توسيع مجال حرية التعبير انتفاضة مارس 1965 ، كونها انتفاضة تلاميذ، تميزت عن الانتفاضات التي سبقتها أو التي تلتها التي كانت إما سياسية محضة أو مطلبية نقابية صرفة، ومع ذلك كان لها انعكاس واضح على حقبة حكم الحسن الثاني برمته في تهميش واضح للمسار الديمقراطي واحتقار لدور البرلمان خاصة والمنتخبين عامة وفي معالجة المشاكل من الزاوية الأمنية فقط، وكذلك في العمل وباستمرار لإضعاف الأحزاب والمنظمات النقابية، وانتهاج القمع والمحاكمات أسلوبا للحد من كل تحرك أو احتجاج. فكانت تلك الحصيلة المهولة للتجاوزات لحقوق الإنسان طيلة 30 سنة رافقها سوء التدبير والتسيير في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. كلها عوامل أثقلت وتثقل اليوم كاهل الحاكمين في إيجاد المخرج لنفق مظلم دخله المغرب سنوات قليلة بعد الاستقلال. ولما استعصى الحل أصبح الترقيع سياسة.