الحلقة 9 شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، قهروا القمع والمعتقلات منذ ستينيات القرن الماضي، واستماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل. ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة. في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها. لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ». وقع اختيارنا على عبد الواحد سهيل كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازال قائدا سياسيا تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات. يفتح لنا صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء مرتعا خصبا لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات.... عبد الواحد سهيل شخصية بارزة في حزب عريق. حزب ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد، قبل أن يحمل، أخيرا، اسم حزب التقدم والاشتراكية. عبد الواحد سهيل، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون. من معين هذا المناضل، ومن تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب. في ضيافة رجال الاستخبارات بكوميسارية المعاريف على غرار باقي الرفاق، لم أكن أسلم من مضايقات البوليس الذي كان بالتأكيد مقتفيا أثر نشاطاتي كطالب في الجامعة، وعضو فاعل في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وكباقي الرفاق، كنت أحتاط دائما واستعمل الحيل وأعتمد على ذكائي للإفلات منهم. في إحدى سنوات الكلية، وفي الفترة الحرجة من الموسم الدراسي، أي فترة الامتحانات، سمعت أن أحد رجال البوليس يسأل عني بإلحاح . لم يكن رجل الشرطة يعلم أن كلية الحقوق، التي كان مقرها آنذاك هو بناية شركة النقل الحالية المقابلة لمسرح سيدي بليوط (ساتيام)، لها باب أمامي وآخر خلفي. و لم يكن بمقدوره الدخول إلى الجامعة التي كانت لها حرمتها آنذاك، على خلاف ما يحدث اليوم. بمجرد ما تناهي إلى سمعي أنه يسأل عني بإلحاح، لم أعد أغادر من الباب الأمامي الذي اعتدت الخروج منه. كنت أملك دراجة نارية من نوع «صوليكس» ألج بها الكلية وأطلب من أحد زملائي نقلها إلى الباب الخلفي. وحين يسلمها لي كنت أغادر على الفور بعيدا عن مراقبة الشرطي الذي ظل على هذه الحال لمدة خمسة عشرة يوما. فهو لم يسبق له أن راني، وبالتالي تعقدت مهمته وظلت مطاردته اليائسة لي على هذا المنوال إلى أن اهتدى إلى فكرة شيطانية. فقد قام يوما بالاتصال بأحد الرفاق وهو عبد اللطيف مؤمل وقدم نفسه على أنه الرفيق إبراهيم. واعتقد مؤمل أن الأمر يتعلق بإبراهيم واحمان وهو مسؤول حزبي في المدينة القديمة. طلب الشرطي من الرفيق مؤمل إخباري بضرورة موافاته عند باب كلية الحقوق. كنت حينها معتكفا بخزانة الكلية التي تعتبر مكاني المفضل بعد المدرجات. فحين أحضر الكلية تكون الخزانة فضائي الثاني بعد المحاضرة. وحين لا أدخل الخزانة أمتطي دراجتي النارية وأنصرف إلى حال سبيلي. كنت في ذلك اليوم مجبرا على قضاء وقت أطول بين الكتب. فقد ولجنا شهر ماي والامتحانات على الأبواب. وهو الظرف الزمني الذي يفضله رجال المخابرات للضغط على الطلبة والنيل من معنوياتهم. جاءني الرفيق مؤمل مسرعا وأخبرني أن الرفيق إبراهيم واحمان المسؤول عن خلية المدينة القديمة في انتظاري. استغربت للأمر لكون الرفيقين معا لم يسبق لهما اللقاء ولا يعرفان عن بعضهما البعض إلا النزر القليل. لم أجد بدا من الخروج من الكلية برفقة الرفيق مؤمل. فربما قد يكون هناك طارئ أو خبر هام علي الاطلاع عليه. حين بلغنا باب الكلية لم أجد المسؤول عن خلية المدينة القديمة، بل كان أمامي رجل غريب عني. على بعد متر واحد منه، قال لي الرفيق مؤمل: -ها هو إبراهيم الذي يسأل عنك. أجبته على الفور وأنا منزعج، أفكر في العديد من السيناريوهات، المحتمل وقوعها، دفعة واحدة: -هذا ليس إبراهيم. لم يترك الشرطي المجال لأخذ المبادرة، فسارع إلى إخراج قطعة معدنية من جيبه، تحمل شعار الأمن الوطني، مقدما نفسه على أنه شرطي. كنت شديد التركيز ساعتها. فبادرته بالقول أن العديد من المواطنين يملكون قطعا معدنية مماثلة وبالتالي فليس كل من يدلي بها يعتبر منتسبا للأمن الوطني. قال لي بهدوء بالغ: أرجوك. لم نشأ استدعاءك إلى الكوميسارية. نريد منك فقط بعض المعلومات الشخصية لأنك متهم بالتحايل على قاصر. كان هذا الاتهام الذي وجهه لي الشرطي ينم عن غباء كاد يدفعني إلى الانفجار ضحكا في وجهه. لكنني تمالكت نفسي وبذلت جهدا لأقول له بلغة الواثق المطمئن من أن القانون كان يحدد حينها سن الرشد في واحد وعشرين سنة: - إنني أنا أيضا ياسيدي قاصر. ولجت الكلية وتركته ببابها بعد أن عبرت له عن احتجاجي وعن رفضي مده بأية معلومة. تبخر الرجل ولم أعد أراه أو أسمع أنه يتعقبني أو يسأل عني. وبعد نهاية الامتحانات، توصلت باستدعاء من قسم الاستعلامات العامة بكوميسارية المعاريف. لم أشأ إخبار والدي أو إزعاجه بأمر الاستدعاء الذي قد يكون لفترة قصيرة ثم أغادر مقر الكوميسارية. وحرصا على ما قد تؤول إليه الأمور، أخبرت أحد أصدقائي بأمر الاستدعاء، منبها إياه إلى عدم البوح بوجهتي، ومصرا على عدم إخبار والدي إلا في حالة عدم العودة. لم يستطع صديقي الصبر لمعرفة ما ينتظرني. لم يكن صديقا فحسب بل كان مقربا جدا من عائلتي. سارع، فور توديعي، إلى الاتصال بوالدي وأخبره بأنني استدعيت من طرف البوليس وبأنني في الطريق إليهم. عند وصولي إلى الكوميسارية استقبلني شرطي اسمه العلوي. كان حكما لكرة القدم على معرفة بوالدي. قال لي دون أن يمنحني برهة لأمد له الاستدعاء الذي توصلت به: تسببت لنا في فضيحة يا ابن الدكالي. لم يتوقف والدك عن الاتصال بي مكيلا لي الشتائم. استغربت كيف تسنى لوالدي الاتصال بالكوميسارية علما أنني لم أخبر أحدا سوى صديقي. وبينما أنا تائه في التفكير فيما يقع، تم إمطاري بسيل من الأسئلة أذكر بعضا منها. فقد كان أول سؤال طرحوه علي، بعد معرفة الهوية الشخصية، هو: - من أنت؟ أجبت: - عضو في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب كجهاز منتخب. وأذكر أيضا أنهم طلبوا مني أسماء أعضاء مكتب الاتحاد، فكان جوابي جاهزا: أنا لا أعمل مع جهاز الاستخبارات الذي يملك وسائلة الخاصة لمعرفة ما يريد. واجهت، بكل إيمان وحزم، أسلوبهم في التخويف الذي كان يرمي قياس مدى استعدادي للعمل معهم، ومدى تحملي وحدود صبري في مواجهة مخططهم. كان أسلوبهم هذا موجها لكل الرفاق الذين اعتقل منهم الكثيرون، خاصة في أحداث 1965. أذكر أنه في تلك المرحلة الساخنة، كان محمد أنيق ملاحقا من طرف البوليس، وحرصنا على إبعاده إلى الرباط. وهو نفس الملاحقة كان يتعرض لها الرفيق عبد العزيز الخالدي الذي كان مسؤولا عن الطلبة. حيث لجا هو أيضا إلى الاختباء تجنبا للتعذيب الرهيب الذي يعقب الاعتقال الذي طال بالفعل رفاق آخرين والعديد من الطلبة في شهر مارس 1965. كان الرفيق شمعون ليفي من بين من ذاقوا كل أنواع سادية البوليس. عرضوه لأشد أنواع التعذيب ما أدى إلى كسر على مستوى قفصه الصدري. كما اعتقلوا الرفيق عبد المجيد الذويب وعبد السلام بورقية ورفيقنا المرحوم عبد القادر المازني الذي أصبح مديرا لثانوية محمد الخامس، ناهيك عن العديد من الشباب. كان كل من يقع بين أيديهم يوجه للزنازن والتعذيب الذي سيشتد شهر أكتوبر 1965 على إثر اختطاف المهدي بنبركة. قمنا حينها بإضرابات استمرت أسابيع نجم عنها ملاحقات يومية. كان الرفيق أحمد سالم في ذلك الوقت بفاس طالبا بالمدرسة العليا للأساتذة. تعرفت عليه خلال الاجتماعات التنسيقية للطلبة. كان مسؤولا طلابيا في فاس إلى جانب الرفاق بهذه المدينة مثل الرفيق العمراني وبوعبيد الذي كان يعرف باسم حمامة بوعبيد.