«لو كان العالم دولة واحدة لكانت إسطنبول عاصمتها» نابليون بونابرت تركيا -التي تحولت عبر عقود الجمهورية إلى دولة إقليمية منحرفة عن عمقها التاريخي الممتد عبر قرون من الحكم الإسلامي (1299/ 1924 م)- كادت تصبح دولة طرفية هامشية، تابعة للكتلة الغربية، أو أداة من أدوات التأثير على الجنوب الشرقي في فترة الحرب الباردة لتسخر خدمة للتوسعة الغربية نحو الشرق. كانت تركيا وما زالت عضوا بارزا في حلف الناتو، لكنها مع نهاية الحرب الباردة ومع بداية التسعينيات من القرن المنصرم بدأت تبحث لها عن رؤية سياسية مغايرة، وإن اعتبرت -وفق الرؤية الغربية- جسرا جديدا تمر عبره سياسات العولمة والشره الغربي المتجدد نحو الشرق، وفتحت عليها أزمات متعددة جاءتها من رياح الحرب الإيرانية العراقية، والأزمة في البلقان، وهذا ولّد لدى ساستها شعورا بضرورة حماية الذات والاستقرار في خضم الفوضى العارمة. فهل استطاعت التجربة التركية الحديثة -مع حزب العدالة- أن تتجاوز الخطوب وتعيد صياغة خطابها السياسي وفق رؤية ذكية، تسمح بعبور الذات إلى عالم الاستقرار والقوة، بعيدا عن الهامشية والأفول؟ وهل لنا أن نعد ذلك التحول الذي ستقرره هذه الدراسة نمطا جديدا من أنماط التجربة الإسلامية الفاعلة القادرة على التعامل بجدية ووعي مع متغيرات العالم بواقعية لها سند شرعي؟ أم إن الخطاب التركي السياسي يعد خرقا لأبجديات التصور السياسي الإسلامي، القائم على تنفيذ غايات الشرع بعيدا عن المصلحة الإقليمية المقزمة لمشروع الإسلام الخالد؟ على اعتبار أن السياسة الخارجية التركية لا تعتمد على ترجمة النص الشرعي القائم على حمل رسالة الإسلام وحماية الفكر الإسلامي الممثل لمشروع نهضوي؟ خصوصا ونحن نتحدث عن علاقات تركية بالغرب أو علاقتها ب(إسرائيل). تركيا الحديثة انقضى قرن كامل من التاريخ عاشت فيه تركيا غربة حقيقية عن المشروع الإسلامي، ولكن بدايات القرن الحالي منحت تركيا الحديثة فرصة كي تقدم أنموذجا فريدا في السياسة الخارجية، مثل -لها- تحولا استراتيجيا في الواقع (الجيو/سياسي) عبر عنه -بشكل واضح- وزير خارجيتها الحالي «أحمد داوود أوغلو» في كتابه الفريد «العمق الاستراتيجي». ولعل المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه هذه الاستراتيجية النوعية يتمثل في إخراج تركيا من كونها بلدا طرفا أو هامشيا ينحصر دوره في كونه عضوا في محاور، وأدوات إلى بلد «مركز» يناغم بين مختلف علاقاته الخارجية المتعددة، ولا يغفل رؤيته لاستنهاض منطق الشهود الحضاري المتجذر في أعماق التاريخ المغاير للواقع الحداثي المتجدد. ولا تبدو هذه الغاية سهلة حينما تفسر على أنها حالة توفيقية بين متناقضين لم يجتمعا منذ قرون، فالسلخ الكمالي للجمهورية التركية الحديثة عن تاريخ العثمانيين الممتد الطويل جعلها (أي تركيا) تقف على الأعراف، تنتظر القرار النهائي كي تلد الشرق أو تطلقه إلى غير رجعة، فتصبح غربية الهوى والثقافة. تركيا وصراع الهوية تنبه العثمانيون القدماء في بدايات القرن المنصرم إلى مخاطر هذا التوجه (نحو الغرب)، فدعوا إلى فكرة الجامعة الإسلامية «السلطان عبد الحميد الثاني» للتصدي للغرب ولليهود. تركيا والدولة العبرية: ولكن، هل يمكن الحديث عن مرحلتين متغيرتين في السياسة الخارجية التركية دون التطرق للعلاقات التركية-الإسرائيلية على وجه الخصوص؟ وهل الانحراف الاستراتيجي الذي مس المعادلة التركية عبر قرن كانت له علاقة بدولة الكيان؟ والتغير (السيو/جغرافي) في منطقة الشرق الأوسط (بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية) التي خرجت تركيا منهما مكسورة منهكة؟ لقد بدأ التأثير الصهيوني المباشر على صانعي القرار في تركيا القديمة مبكرا، حيث تحكي القصص أن رجل الأعمال اليهودي الإنجليزي «موشي منيفوري» قد حصل على ضمانات عثمانية لإنشاء مستعمرات في فلسطين عام 1839م، ثم تضاعف عدد اليهود ليصبح عام 1840 عشرة آلاف يهودي، ثم قام موشي عام 1859 بشراء أراض خارج أسوار القدس، وبقي هذا الجهد الصهيوني العابث مستمرا حتى جاء «ثيودر هرتسل»، مؤسس المشروع الصهيوني، عام 1901م، ليطلب بشكل رسمي توطين اليهود في فلسطين. بدت تركيا أكثر جرأة في توطيد علاقاتها مع الكيان الصهيوني، مع مؤسس تركيا الحديثة (مصطفى كمال أتاتورك)، الذي رفع مبدأ السلام في الداخل والخارج. وسرعان ما ترجمت تركيا هذا الشعار إلى واقع جديد في علاقاتها بمنظومة الدولة المتشكلة بعد الحربين العالميتين، فقامت بالاعتراف بدولة الكيان عام 1949، وبدأت في تبادل السفراء مع دولة الاحتلال عام 1952، ثم وقعت معها مجموعة من الوثائق الخطيرة، أمنية واقتصادية، أهمها: وثيقة أمنية عام 1951، ومعاهدة حزام المحيط عام 1958. لكن انضمام تركيا إلى حلف الناتو عام 1952 جعلها أقرب إلى المعسكر الغربي الداعم لإسرائيل، وكأنها لم تعد دولة شرقية أبدا. لكن هذا التناغم والتقارب بين تركيا العلمانية لم يكن دائم الاستقرار بل شابته محطات تنغيص كثيرة؛ فمثلا، مالت إسرائيل بسياستها تجاه قبرص عام 1963 مراعاة لمصالحها وتنكرا واضحا لكافة التنازلات التركية، كما أن تركيا وقفت في عام 1967 موقفا رافضا للعدوان الإسرائيلي على الضفة الغربية، غير أن هذه الحوادث الجزئية لم تعصف باستراتيجيات التوافق بين النظامين، ذلك أن العلمانية التركية بقيت مرتبطة بالمؤسسة العسكرية، أما الهامش السياسي فبقي مرهونا بالمواقف الخاصة من نحو رفض تركيا الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل وعدم قبول تركيا للعدوان على لبنان 2006 أو على غزة 2008، وإن كانت هذه التواريخ جاءت في عصر غير ( كمالي)، أي في عصر أردوغان، لكن الخيوط العامة للسياسة التركية حتى اللحظة لم تنفلت من أسر المؤسسة العسكرية؛ ولنا أن نقف على محطات عديدة تؤكد هذه الحقيقة، فقد أيدت تركيا مبادرة روجرز 1970، وأيدت وقف إطلاق النار 1979، واعترفت بمنظمة التحرير 1975 وفتحت مكاتب لها، ثم اعترفت بالدولة الفلسطينية 1988، ودعا تورغوت ازال عام 1991 إلى مؤتمر دولي للسلام، هذه الخطوات العريضة الخارجية التركية لا تتعارض مع الموقف الدولي من القضية الفلسطينية، ومن هنا فهي لا تمثل انقلابا أو نشازا أو تحولا، بل تؤكد على ثوابت سياسية عبر عقود، ولذلك فقد سارعت تركيا إلى عقد اتفاقية تعاون أمني استراتيجي مع الكيان المحتل لم تزل فاعليته قائمة حتى اللحظة، فقد زودت إسرائيل تركيا بأجهزة إلكترونية عسكرية متطورة من صنع شركة التا عبر تعاون مع شركة بوينغ الأمريكية، وهي التي طلبت ذلك من خلال عقد يقضي بتزويد تركيا بأربع طائرات إنذار مبكر من طراز «أواكس»، وفي عام 2010 زودت إسرائيل تركيا بعشر طائرات (هيرون) استخدمت في قصف الأكراد؛ أما على المستوى السياسي، فقد حدث تخلخل في العلاقات الدبلوماسية أدى إلى طرد السفير الإسرائيلي غاني ليفي إثر تعرض أسطول الحرية 2010 لهجوم إسرائيلي أدى إلى مقتل عدد من الأتراك. كانت السطور السابقة محطات سريعة أثبتها مجردة دون تحليل لا لأثبت حالة من التناقضية في الفكر السياسي التركي، بل لأبين مدى صعوبة التوفيق بين المتوقع والمرغوب فيه؛ فمع أن غالبية الشعب التركي لا تعبر عنها هذه السياسة المنتهجة عبر عقود فإن خيوط السياسة لا تستجيب بالضرورة لمتطلبات الواقع، ومن هنا فإن استلام حزب العدالة والتنمية ذي الخلفية الإسلامية للحكم دون أن يحدث خرقا استراتيجيا لهذه المعادلات التي سردناها لا يشير إلى موافقة الحزب لهذه السياسة، ولكنه يفتح بوابة كبيرة على المنطق السياسي الفاعل القائم على عقلية الرفض وجدولته عبر سياسات تبريد الساخن كما في تعليق اتفاقات التعاون العسكري وفتح ملفات جديدة من شأنها أن تفتر العلاقات بين تركيا وإسرائيل. وفي هذا الجانب، اهتمت تركيا بملفات بعيدة عن صلب العلاقة بين البلدين، مثل الملف السوري والإيراني وكسر الحصار عن غزة؛ أما في الجانب الاقتصادي فقد تحولت تركيا إلى أسواق مشرقية لتصبح دولة مثل العراق أكبر سوق للواردات التركية.