في غياب موقف استراتيجي لا شيء يؤكّد أنّ العرب استوعبوا الدّرس من مجمل الأحداث التي شهدتها المنطقة. التّاريخ هنا غير مفصول عن الحاضر. من كان يصدّق أنّ تداعيات الأحداث ستجعل قادة الجهاد الأفغاني الذّين عبّروا عن الثورة الأفغانية خلال الحرب الباردة سيتعرّضون للاغتيال الواحد تلو الآخر من قبل مجاهدين من طراز أمريكي مختلف وبعمليات انتحارية ينشدون من خلالها معانقة الحور العين؟! وجدت واشنطن نفسها في مواجهة طالبان بعد أن كانت مشكلتها الرئيسية هي مواجهة القاعدة. واليوم تدرك واشنطن كم كلّفها جهد دعم المجموعات الديوباندية ضد المجاهدين الأفغان باللوجيستيك والدّعم السياسي للهيمنة على نفط المنطقة والتحكّم بممرات الغاز لا سيما الآتية من بحر قزوين. بالأمس قضى الشاه مسعود غيلة واليوم برهان الدّين ربّاني وكلاهما من خيرة قادة الجهاد الأفغاني في فترة الذّروة، كما لا زالت أفغانستان مجالا مفتوحا لكل الاحتمالات. تلك هي نهاية ملحمة الثورة الأفغانية حينما استهانت بالتّدخّل الأمريكي؛ لا دولة للمجاهدين ولا لطالبان!؟ وفي العراق الذي كان في منأى عن القاعدة تحوّل بمجرد الاحتلال إلى مرتع خصب لكل أشكال الإرهاب والتدمير الممنهج للإنسان والبنيان العراقيين. هذا في حين تحدثت واشنطن يومها عن أنّ المسألة تتعلّق بنزهة يكتنفها شيء من طقس تقديم الزهور للفاتح الدّيمقراطي. وبات الاحتلال اليوم في العراق هو العامل الأول في إعاقة تولّد البديل الديمقراطي. وإذ لم يستوعب العرب كل هذه الدّروس فلسبب بسيط، أنهم منذ ذلك العهد لا يمتلكون مشروعا استراتيجيا ولا نظرة ثاقبة للمستقبل ولا زالوا ينظرون لأنفسهم ككيانات وظيفية تتفاعل مع الاستراتيجيا الأمريكية في المنطقة ويتعاونون بمنطق العمولة والصفقات وأحيانا بلا مقابل. إنّ حالة العالم العربي اليوم تستدعي مقاربة متعدّدة وبعيدة المدى. ومثل هذه المقاربة لا تتحقّق إلاّ في ضوء رؤية استراتيجية شمولية. الأمر الذي قلّما يلقى اهتماما في سياق عادة ما يغلب عليه التحليل السياسي. وحتّى التحليل السياسي هنا لم يعد يقدّم رؤية حقيقية لأنّه لا ينطلق من معطيات بقدر ما ينطلق من موقف اصطفافي محسوم، يكاد يشارك عموم المتلقّي للإعلام ، الإحساس نفسه والحمولة نفسها من المعطيات. فأزمة الصّحافة اليوم عندنا لا تقلّ خطورة عن وضعيتها في العالم ، حيث تسود ظاهرة إعادة عرض جديد الصحافة نفسها في الصّحافة كما لو أنّ الأحداث أصبحت لا تبرح عالم الصّحافة. أصبحت مخاطبة الصحافة لنفسها ودورانها في محيط صناعتها الخبرية مظهر يتكرّس بفحش في العالم عموما وفي منطقتنا بصورة أكثر سذاجة. إن إشاعة الخبر مقطوع السّند إلى حدّ الشهرة مما عالجه أهل الحديث والدّراية في ديار الإسلام قبل قرون، حتى أنهم اعتبروا أنّ الشهرة لا تجبر الضّعيف. غير أنّ ما يجري اليوم على صعيد تناقل الأخبار والمعلومات يؤشّر على أنّنا دخلنا عصر هشاشة المعلومة واضمحلال فعالية الوسائط. * * * ثمة ركائز أساسية تتحكم في السياسة الخارجية للدول العظمى إزاء ما يجري في المنطقة. وهي ركائز تساعد على تحليل ما يجري حتى حينما يشحّ الإعلام عن تقديم المعطيات: النفط وإسرائيل. ففي موضوع النفط لا حاجة للإطناب فيما يمثّله من أهمية في مجمل السياسات والاستراتيجيات الكبرى. وفي كل مناطق للنّزاع لا بد أن يوجد برميل نفط أو مشروع للتنقيب على النفط أو احتياطي مستقبلي تؤكّده الدّراسات والأبحاث. وسواء أكان الصّراع معنا هو ذو طبيعة عرضية حول المنطقة أو معركة استباقية مع الصين وروسيا حول سوق النفط في الشرق الأوسط، فإنّ الأمر يؤكّد اليوم وإلى حدود نضوب النّفط في المنطقة أنّ السياسات تظلّ هي نفسها. هذا ناهيك عن أنّ توفر المنطقة على احتياطي مستقبلي يزيد من فعل الهيمنة. وفي العراق كما في منطقة المغرب العربي يوجد ما يؤكّد على وجود احتياطي كبير دفع فرنسا أن تقود معركة الإطاحة بالقذّافي كجائزة أمريكية بعد أن كانت واشنطن قد داست على صفقات تجارية فرنسية كبرى مع بغداد قبيل غزو العراق. وتزداد أهمية النّفط اليوم بالنسبة لواشنطن وأوربا بشكل ملفت للنظر بعد مؤشّرات العجز في موازنات تلك الدّول والأزمة الاقتصادية الحادّة التي تحتاج إلى العودة إلى سياسة الاحتلال والتّدخّل. لم يكن الاحتلال بمعناه الكلاسيكي نزهة ارتضاها الغرب لنفسه بل كان الأمر يتعلّق بحاجة اقتصادية كبرى مكّنت الدّول الغربية من تحقيق قدر من الرفاهية. ومع افتقاد هذا المستوى من الرفاهية وبدء اهتزاز الاجتماع السياسي الغربي على قاعدة مؤشرات الأزمة الاقتصادية الكبرى، كان لا بدّ للعودة إلى تقاليد الاحتلال وإن بعناوين وكيفيات أخرى أكثر مخاتلة. يحتاج الاقتصاد الغربي من أجل تحقيق عودته إلى مستويات الرفاهية التقليدية إلى تدخّل اقتصاد الرّيع. وليس أمامه سوى عسكرة الاقتصاد بافتعال مناطق أزمات لتصريف تجارة السلاح والتّدخّل للاستيلاء على الثروة مقابل تحقيق انفراجات سياسية لشعوب المنطقة. تدار فصول اللعبة بذكاء خارق. لن تتخلّى الدّول الكبرى عن المنطقة لأنها وبكل بساطة لن تتخلّى عن النّفط. قد نحتمل تغييرا في السياسة الغربية تجاه إسرائيل في حال نضب النفط في المنطقة. لكن يبدو أن موضوع إسرائيل مستقلّ إلى حدّ ما عن موضوع النّفط وإن كان وجود إسرائيل قد أدّى بالضّرورة إلى كل أشكال الوظائف الأخرى بما فيها توفير جبهة متقدّمة للغرب في المنطقة. يتعلّق موضوع إسرائيل بقوّة وحجم اللّوبي الإسرائيلي الذي يعمل ويهيمن على شتّى القطاعات الحيوية بمن فيها الصناعة النفطية. كما يتعلّق بالمستقبل الأمني لأوربا حال توافد المهاجرين عليها من إسرائيل، أي عودة المسألة اليهودية إلى قلب أوربا. وبالعودة إلى الماضي قليلا يتأكّد أنّ الأوربيين كانوا قد صفّوا المسألة اليهودية في أوربا على مذبح الفلسطينيين، مما يؤكّد أنّنا كنّا أمام حالة من الترانسفير الأوربي النّاعم لليهود إلى فلسطين بعد أن كان مقترحا على هرتزل أن يتم ذلك إلى أوغاندا. البيئة الأوربية غير مؤهّلة دينيا لاستقبال هذه الجموع اليهودية التي هاجرت منها إلى إسرائيل. وبما أنهم رفضوا حلّ تفكيك الكيان الصهيوني لصالح دولة فلسطينية تتّسع للجميع كما كانت تاريخيا، فإنّهم مهتمون بخطورة مجرد إعلان الدولة الفلسطينية وإغراقها في بحر من التماطل. قبل أيام فاق الشارع الفلسطيني مدهوشا قبل الشارع العربي على خبر مشروع محمود عبّاس في التّوجه إلى الأمم المتّحد بطلب تمتيع الفلسطينيين بدولة كاملة العضوية في الأمم المتّحدة. وهو الطّلب الذي كانت نتائجه محسومة لولا أن محمود عبّاس كان يسعى للفت الأنظار. لا أحد يشكّ في أن الأمر يتعلّق بتجميل سمعة رئيس السلطة الوطنية في المستقبل أكثر ما يعني الفلسطينيين في شيء. ولكن معرفة المعرّف أوقفتنا في سياق عربي ملتهب على موقف أمريكي وأوربي شديد التّطرف والامتعاض من مشروع محمود عبّاس. لقد علّق مشروع إقامة الدّولة الفلسطينية على تفاهمات بينية بين الفلسطينيين وإسرائيل لن تقوم أبدا. وهو هدر للوقت والسياسة والكرامة والإنسان الفلسطيني لا حدود له كما عوّدتنا إسرائيل. يجري هذا في سياق حرص غربي كبير على تشجيع بعض من الثّورات العربية بانتقائية تؤكّد على ثوابت وأهمية الجغرافيا السياسية في تدبير العلاقات الخارجية الغربية مع المنطقة. حينما زار نبيل العربي دمشق محمّلا بمبادرة عربية أو تحديدا بمبادرة قطرية رفضها السوريون، وسأل السوريين عن الأوضاع في سوريا، سأله الأسد عن فلسطين وأي دور ستضطلع به جامعة الدّول العربية في موضوع الدّولة الفلسطينية. وإذا تجنّبنا لعبة الكلمات، فإنّ كل أولئك الذي انخرطوا في الحملة الأمريكية لإسقاط سوريا، فقدوا كلّ عنادهم في موضوع الدولة الفلسطينية كما لم يؤثّر هذا على علاقتهم بواشنطن التي لوّحت بالفيتو ضد مشروع الدولة الفلسطينية. أظهر العرب وجامعة الدول العربية ضعفا وهشاشة في تدبير المسألة الفلسطينية ولم يستعملوا أيّة ورقة لفرض مشروعهم على الأمم المتحدّة مما يعني أن ما يبدو من اهتزازات في المنطقة لا يشكّل ورقة ضغط ضدّ المشروع الهيمني ، بل إنّ هشاشة الدول العربية واطمئنان الولايات المتحدةالأمريكية لموقفها التقليدي تجاه القضية الفلسطينية كما وارتياح إسرائيل مسبقا للقرار الأممي ، يؤكّد على أنّ ما يجري اليوم في المنطقة العربية لا يمنح القضية الفلسطينية أوراقا جديدة ولا يرقى بها إلى القضية المركزية في العمل العربي المشترك. ما يجري اليوم ليس الدفع بالقضية الفلسطينية إلى مستوى الحلّ النّهائي بل المطلوب كما كان دائما تصفيتها. وقد بادر محمود عباس إلى مشروع طلب إعلان الدّولة الفلسطينية ولكنّه فعل ذلك في سياق من الضّعف العربي. بل لا نكاد نقف على تناسب بين تراكمات الفعل الاستسلامي منذ أوسلو وبين مشروع الدّولة الفلسطينية على وجود التباس في زمنية عرض المشروع وشروطه. لقد علّق هذا الأخير آمالا على الدّور العربي وتحديدا الدّور الخليجي في غياب الدّور المصري وانشغال دمشق في أوضاعها الدّاخلية. وقد أظهر فشل محمود عبّاس عينة عمّا يمكن أن يجنيه العرب في زمانهم الخليجي وفي غياب الأدوار العربية الكبرى. واقتراح ساركوزي بأن يكون للفلسطينيين موقع المراقب في الأمم المتّحدة يجري في سياق الموقف التقليدي من هذه القضية التي يراد لها التّصفية عن طريق الاختناق وإغراقها في دوّامة انتظاراتها والحلول الترقيعية الشّحيحة. * * * لقد وقف الغرب في البداية متردّدا حيال ما يجري في تونس ومصر. وحتّى لا ننسى، فإنّ التّاريخ يسجّل اصطفاف الغرب ضدّ الثورة إلى أن أدركوا بعدها مقدار إصرار الشّارع العربي على التّغيير. وحدث أن دخلوا بعد ذلك على الخطّ للسيطرة على مسارات هذه الثّورة. لم تعد الاستراتيجيا الأمريكية تهتم بإيقاف الثورات بقوة ولكن باتت تسعى للاستثمار في قلب الحدث. هكذا وعلى سبيل الابتزاز راهنت على دور خليجي في تمويل الكثير من الأعمال القذرة في زرع الفوضى في المنطقة والهيمنة على ضمير الثورة العربية في مقابل تمتيعهم بالاستثناء من هذه الثورات. على هذا الأساس قدّر أن توضع الثورة اليمنية بين قوسين لأنها ظلّت عصّية على التّدخّل الأجنبي والمبادرة الخليجية نفسها، كما قدّر أن يتمّ تجاهل كلّ أشكال القمع والتّدمير الذي يلحق بالشعب البحريني ، حيث أعرب أوباما وهو يوزّع خريطة التأييد للثورات العربية بأن البحرين صديقة لكننا نسعى للحوار مع المعارضة. فالقضية هنا تخضع لتوزيع المصالح والصّداقات ولا علاقة لها بالتّحرر. وفي تقسيم الأدوار كنّا أمام شكل من التّندّر الأمريكي على العقل العربي حيث جعل راعي الثورة العربية دولا لا تتمتّع أصلا بدستور ولا برلمانات ولا بوضع حقوقي في حدّه الأدنى. ولم يجد الرئيس المخلوع زين العابدين بنعلي مأوى بعد فراره من تونس إلاّ في بلاد الخليج التي تدعوا اليوم إلى حرّية الشعوب العربية. ففي ليبيا التي ظلّ القذّافي فيها يلبّي كل الرّغبات الأمريكية والأوربية ، احتفظت واشنطن بموقف المحايد في بداية الأزمة لتدخل على الخطّ بعد تمكين الثّوار من السيطرة الكاملة على بنغازي ومن ثمّة الانطلاق باتجاه طرابلس. كان القذّافي قد أصبح صديقا لواشنطن ولدول حلف النّاتو قبل سنوات. وقد كان الغرب شريكا في تكريس استبداده. وفي سوريا يزداد الضّغط عليها من قبل واشنطن وأدواتها لعدم تمتيعها بالوقت الموضوعي لإجراء تغييرات مطروحة في شكل مراسيم وأيضا لاستكمال الحوار الوطني المفتوح والذي يعدّ أضخم حوار وطني تشهده دولة عربية. وطبيعي أنّ الدول التي استكثرت على الفلسطينيين منحهم حق العضوية في الأممالمتحدة كدولة افتراضية، لن يسمحوا باسترجاع الجولان. وإذا كان الغرب يضغط على سوريا لأسباب تتعلّق بموقفها من القضية الفلسطينية وقضايا أخرى لها صلة بالمنطقة وبعلاقتها الاستراتيجية مع محور الممانعة، فكلّ ذلك من أجل إضعاف سوريا وعزلها وليس تقويتها. وفي غياب أي بديل حقيقي حتّى اليوم من شأنه أن يحول دون سقوط سوريا في حرب أهلية، تبدو القضية مجرد ضغوط مشدّدة يختبر فيها صمود سوريا وليس محاولة للإطاحة بها نظرا لخصوصية موقعها عن سائر البلدان العربية مثل ليبيا. ذلك لأنّ الغرب يعرف الكثير عن القذّافي الذي سقط في سياسات واشنطن قبل فترة، لكنه لا يعرف عن سوريا التي لم تعتمد عليها في تكوين جيشها ولا في التّسلح ولا في بناء استراتيجيتها. لا يهم الغرب اليوم أن تشيع الدّيمقراطية في العالم العربي. ولن يعارض قيامها إذا لم تتجاوز بضعة مطالب سياسية داخلية. ولهذا تحديدا بات الغرب يعاقب الشعب البحريني لأن هذا الأخير عبّر عن مواقف ذات أبعاد قومية كبرى في مناسبات عديدة. كما عاقب ثورة الشعب اليمني لأنها رفضت أصل التّدخل الأجنبي على الرّغم من أنّ المسيرات فيها تعدّ يوميّا بمئات الآلاف. فها هنا يتمّ التحريض على بشار الأسد والإفتاء بجواز قتله وهناك يعاد إخراج علي عبد الله صالح من تحت الرماد وإعادته لليمن لكي يهلك الحرث والنّسل!؟ وقد أكّدت كل خطابات أوباما أنه ينظر إلى المنطقة بحسب الحلفاء والأعداء حتى وإن كان يتخلّى عن حلفائه في الأوقات العصيبة، وليس بحسب البلدان الديمقراطية وغير الديمقراطية. شيء آخر يغيّبه التحليل وهو في نظري على أهمية كبرى. يتعلّق الأمر بنوع من التنافس أو لنقل حربا باردة بين الحليفين: أمريكا وإسرائيل في المنطقة. لنتذكّر قليلا ما الذي جرى بين تل أبيب وواشنطن عشية انهيار سلطة حسني مبارك. كانت تل أبيب قد انتقدت بشدّة واشنطن على موقفها المتخاذل من أصدقائها. وفي تعبير بعض قادتها أنهم لم يعودوا يفهمون شيئا. وهذا طبيعي ما دام أنّ إسرائيل فشلت منذ 1973م وبعد صفقة الصّلح في كامب ديفيد أن تعرف كلّ شيء عن الجيش المصري الذي ظلّ بشكل ما تحت الرعاية الأمريكية. بدأ الموقف الأمريكي يتغيّر جذريا حينما حاول مبارك أن يتحرّش بالمؤسسة العسكرية لصالح إسرائيل. وذلك معناه أنّ الأمر يتعلّق بهيمنة إسرائيلية على مصر من خلال الهيمنة على المؤسسة العسكرية وهذا ما لم تكن ترضاه واشنطن. فهذه الأخيرة حليف استراتيجي لإسرائيل. لكن على شرط التّحكم قدر الإمكان في دواليب اللعبة وتقاسم منافذ السيطرة على المقدّرات والمعلومة في الشرق الأوسط. إن إسرائيل تدرك كما ازداد خوفها من مستقبل هذا الحلف المقدّس مع تراجع القوّة الأمريكية أمام أقطاب عالمية جديدة لها علاقات مميزّة مع خصومها، كما ازدادت خشيتها من مستقبل حليف يواجه الكثير من الأزمات السياسية والاقتصادية. وتجسس إسرائيل على التكنولوجيا الأمريكية رغم تمكين هذه الأخيرة لإسرائيل من التفوق التكنولوجي على جيرانها ، لن يمنع من تجسسها على السياسة الأمريكية ومحظوراتها. اقتضى الأمر منذ ذلك العهد أن تتقاسم إسرائيل وواشنطن الهيمنة غير المعلنة على مصر بشكل يجعل مبارك ومجموعته الأمنية تحت الهيمنة الإسرائيلية فيما تظلّ المؤسسة العسكرية تحت الرعاية الأمريكية. وحتى قبيل سقوط مبارك كان طنطاوي في زيارة إلى واشنطن. فالسؤال الذي لم يجاب عنه حتى الآن وتظاهرت حياله إسرائيل بحيرة من أمرها هو أنّ حسني مبارك وحسب مصدر آخر يقال جمال مبارك كان قد أبلغ عبد اللطيف المناوي رئيس قطاع الأخبار قرار عزل المشير طنطاوي. وكان المناوي قد رفض إذاعة الخبر. فلقد أحسّ مبارك أن طنطاوي ليس متعاونا في قمع الثورة. وإسرائيل يهمها إفشال الثورة وعدم التّخلي عن مبارك. وكان المناوي قد بلّغ الخبر إلى المشير ، فكان أن تغذّى به قبل أن يتعشّى به. عزل المناوي بعد ذلك لا يؤثّر في شيء بتمكينه من السفر إلى لندن. وباستيلاء الجيش على السلطة في المرحلة الانتقالية تكون إسرائيل قد فقدت الكثير من خيوط اللعبة في القاهرة. وتستمر عملية "فرك الأوذان" ضدّ الشقاوة الإسرائيلية في مصر من قبل واشنطن مما أدّى إلى عملية قتل الجنود في سيناء في عملية استفزازية أدّت إلى تطورات في الموقف كان نتيجتها اقتحام السفارة في العمارة، تعبيرا عن غضب ، وهو أمر من ناحية أخرى يرضي المؤسسة العسكرية للخروج من حالة الاحتقان الشعبي تجاه تحرّش إسرائيل بالمؤسسة العسكرية. يدرك المشير أن إسرائيل نوت يوما عن طريق مبارك التّخلّص منه، وهو مهتم اليوم بالموقف الأمريكي أكثر مما هو مهتم بالموقف الإسرائيلي. على أساس هذا التقسيم الاستراتيجي للعمل بين إسرائيل وواشنطن ، ندرك ما يخفيه الموقف التركي شديد الالتباس. إن كنّا لن نضيع التحليل في شكل المسرحية السياسية التي يلجأ إليها أوردوغان كلّما واجه تصلّبا في الموقف الإسرائيلي ، فإن ما يفسّر استقواءات أنقرة هذه الأيام هو تنسيقها الكامل مع واشنطن في تصورهما لمستقبل التوازنات الاستراتيجية في المنطقة. ومثل قطر تماما فإنّ أنقرة لا تثور لفظيا ضدّ إسرائيل إلا إذا حققت لواشنطن والنّاتو إنجازا على أرضها. وبعد فترة صمت أعقبت موقفها من إسرائيل عشية استيلاء الجيش الإسرائيلي على سفينة مرمرة، عاد تفجّر العلاقة مرة أخرى بين أنقرة وتل أبيب بسبب رفض هذه الأخيرة تقديم اعتذار للأتراك. لكي يمنح اوردوغان غطاء لتصعيده أو لنقل لقنبلته الدخانية تلك فتح تركيا للناتو كي تزرع رادارات ضد الصواريخ تستهدف كلا من إيران وروسيا. وبعدما كان اوردوغان قد قرر تخفيض العلاقات الديبلوماسية مع تل أبيب بعد حادثة مرمرة يطالعنا مرة أخرى بقرار تخفيض العلاقات مرة أخرى مع إسرائيل، إلى حد لم نعد ندرك المدى الذي بلغته تلك العلاقة الإستراتيجية التي تحتمل هذا التخفيض التدريجي غير النهائي. لكنّ أيّا كان الأمر فأنقرة عاجزة عن قطع كل روابطها مع إسرائيل بعد أن كانت أول دولة إسلامية تعترف بهذا الكيان . فالمسألة تتعلّق من ناحية بالموقف الإسرائيلي من تركيا قائم على خلفية التعاطي مع أنقرة على أساس التبعية لا التعاون والصفقات. لأن إسرائيل تعتبر أن تعاون تركيا مع تل أبيب قائم على أساس الاستسلام لبريطانيا وليس القناعة المبدئية. وإسرائيل تدرك خطوط الصّدع داخل تركيا ووجود أزمات عميقة يعانيها الأتراك وهو البلد متعدد الأعراق والأديان والطوائف. وقد كانت رسالة تل أبيب واضحة بما فيه الكفاية حينما أجلست السفير التركي على كرسي منحدر في اللقاء الذي جرى بينه وبين المسؤول الإسرائيلي. المعنى المباشر هنا هو إشعار تركيا بمكانتها المتواضعة في الشرق الأوسط . فتركيا تحاول أن تلعب أدوارا أكبر من حجمها الاستراتيجي. فهي تريد أن تشعر الغرب بأنها حليف يتقاسم معه النفوذ على المنطقة. كما تريد أن تحسس الغرب بأنّ تعاون أنقرة مع إسرائيل كان من أجل التحاق تركيا بأوربا. وإسرائيل ترفض أن تكون مجرد استحقاق في علاقة أنقرة مع الغرب. ويبدو أن المهمة أصعب بكثير على تركيا لأنها ستجد منافسين كبارا لن يسمحوا لتركيا بدور طليعي في المنطقة. فالغرب يدرك تماما أن تركيا في وضعية هشّة للقيام بهذا الدّور. وهم وحدهم يدركون مكامن ضعف تركيا. وكيف سيكون هذا الدّور إذا كانت أنقرة تحتاج إلى النفط والغاز. فهي ليست الدّولة الأقوى في المنطقة من حيث الثروة النفطية أو القوة العسكرية أو العامل الجيوستراتيجي كما تتمتّع به إيران. وليس كل العرب يرضون بنفوذ تركي جديد في بلادهم. فتاريخ بدء اللعبة التركية في المنطقة كان منحة سورية لأنقرة بموجبه خولت أنقرة مهمة الوساطة في المفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتل أبيب باءت بالفشل. كما منحت شرف التّوسط في الملف النووي الإيراني بين طهران والغرب. تشعر أنقرة اليوم أنها فقدت كلّ هذه الامتيازات بعد أن سحبت منها كلّ من دمشقوطهران دور الوسيط الذي مكّنها من وضع قدم في الشّرق الأوسط من دون عناء. فشلت تركيا في الامتحان السوري. على الرّغم من أنها تدرك كما أدركت قوى سياسية كبيرة داخل تركيا أنّ مغامرات أوردوغان وميله المخاتل لسياسة واشنطن من شأنه أن يهدّد الاستقرار في تركيا. ذلك أنّ أي انفراط لعقد الدّولة في سوريا سينعكس مباشرة على تركيا التي ينشط فيها حزب العمال بوجود ملايين من الأكراد ليست علاقتهم بنظام أنقرة على ما يرام مع وجود 25 تركي علوي لن يغفروا لأوردوغان لعبته الطائفية المقنّعة ضدّ بشّار الأسد. فضلا عن ملف لواء الإسكندرون النّائم والمسألة الأرمنية وقضية قبرص والنزاع مع اليونان . باختصار، إن تركيا من دون الغرب تبدو في دوّامة. لذا فهي في حاجة إلى التّوازنات. لكنها تفكر في بدائل لكسر العزلة القادمة حولها في الشرق الأوسط. إن الزيارة التي قام بها اوردوغان إلى كل من القاهرةوتونس وليبيا لا تعتبر ناجحة مائة بالمائة. ومهما حاول أن يعزّزها بطاقم اقتصادي كبير رافقه في جولته تلك ، فلقد أظهرت مواقف الإخوان المسلمين في مصر أن تركيا غير مؤهّلة لقيادة العالم العربي وبأنّ نموذجها لا يصلح لمصر ولكل العرب. غير أنّ الحراك التركي في المنطقة سرعان ما أقلق دولا خليجية كانت حتى فترة قريبة تراهن على دور تركي منافس للدور الإيراني. ومثل قطر والرياض يدركان أن تركيا ستكون منافسا لهما في ليبيا على الرّغم من موقف تركيا السّابق المذبذب من نظام القذّافي. وحيث أدركت هذه الدّول خلو هذه السّاحة من أي تواجد إيراني بات الوجود التركي يقلقهم كثيرا. فبالنسبة لدول الخليج يرفضون تدخلا تركيا إلاّ في المناطق التي لا يكون لهم فيها نفوذ أو في المناطق حيث يوجد النفوذ الإيراني. ولا نستبعد تحريضا إسرائيليا ضد النفوذ التركي في هذه المناطق. وقد أظهرت بعض التحليلات في بعض الصحف الخليجية موقفا من ازدواجية أوردوغان الذي تحدّث كثيرا عن الدولة الفلسطينية لكنه لم يتحدّث عن سوريا. موقف العرب من تركيا كان مبنيا منذ البداية على مزاج سياسي عاطفي. ولكنهم لا يدركون غور اللعبة الاستراتيجية في المنطقة. وقد اتّضح كيف أنّ تغطية باهتة للجولة التركية في الجزيرة أكّد على بدء الامتعاض من الدّور التّركي. وحتى الآن لم نتأكّد إن كان لتغيّر الموقف من تركيا دور في التغييرات التي طالت بعض مسؤولي الجزيرة قبل أيّام فقط. إنّ تراجع تركيا عن تصريحاتها حتى لا أقول مواقفها ضدّ سوريا جاء نتيجة حسابات استراتيجية كبيرة. وقد بدأت تركيا تخسر الكثير من مكتسباتها بفعل تلك التصريحات مما جعلها تراجع لغتها وحماستها للانخراط في لعبة التّدخّل الخارجي في سوريا. هكذا يبدو أنّنا لن نفهم سرّ هذه التّقلّبات في المواقف إن نحن لم نستحضر التقسيم الاستراتيجي للعمل بين واشنطن وتل أبيب للنفوذ في المنطقة ، والحرب الباردة التي تحدث بين الحليفين حول الحدود التي يجب أن تنتهي عندها عملية التّحكم الكامل بالمنطقة. بينما تريد إسرائيل أن تهيمن بنفسها على المنطقة لتفرض حاجة واشنطن إليها وإلى إدارتها للأزمة، تخشى واشنطن من مغامرات إسرائيل تلك التي قد تفرض على واشنطن أن تتخلّى أحيانا عن مصالحها القومية لصالح حماية إسرائيل. أعتقد أن المصلحتين ليستا في منتهى التّماهي المطلق، وهذا ما يقلق إسرائيل من جهة كما يمنحنا فرصة لتفسير أعمق لما يجري في المنطقة هذه الأيام. * * * إنّ الانتقائية في تأييد الثورات وطبيعة المتدخّلين فيها يؤكّد على أنّ الأمر أكثر تعقيدا مما يشاع . كما يستدعي تعاطيا مختلفا مع كل بلد حسب موقعه الجيو- سياسي وموقعه من خريطة الأحلاف، وحينئذ لا يصحّ أن نتحدّث عما يحدث في المنطقة العربية كما لو كان حدثا واحدا فنتبّع من غير تمييز ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. كما أنّ غياب الرؤية الاستراتيجية يجعل الكثير من فصول اللعبة يضيع في فوضى التحليلات السياسية القائمة على التكهّنات وليس المعطيات. ليس العيب في الانتقاء هنا ، ولكن العيب في الاختيارات التي تعكس طبيعة هذه الانتقائية . وحينما تصبح الانتقائية في الموقف الغربي مبنية على حسابات تتعلّق بالمصلحة والهيمنة ، ويضاف إليها موقف الكيانات الوظيفية في المنطقة المتكاملة مع الموقف الغربي القائم على المصلحة الموضوعية المجرّدة عن الضّمير السياسي والحضاري، فلا بدّ أن نجد في المقابل انتقائية مبنية على حسابات تتعلّق بالمصلحة القومية والتحرر الوطني والممانعة. وغير الموقف الانتقائي لا توجد سوى أحلام يقظة نخشى أن تذهب بما تحقّق لدينا حتّى الآن من مكتسبات. أخطأت النّظم العربية حينما أهملت الإصلاحات الدّاخلية ومنحت الكثير من مبررات الاحتقان الاجتماعي، لكن هذا لا يمنع من الحذر من تقلّبات وسذاجة الرأي العام الذي تصنعه الوسائط ، حتّى أنّها تستنفره في سياق التدمير الذّاتي واستغلال الاحتقان الشعبي ومطالبه المشروعة في تحقيق أهداف لعبة الأمم! [email protected]