في كتابه «Conditions de l’éducation» ، يدق مارسيل غوشي ناقوس الخطر حول كون التقدم الذي تشهده المجتمعات المعاصرة يسهم في انزياح التواصل بين الأجيال، خاصة على مستوى نقل التقليد بينها، وكذلك في تراجع المؤسسة التربوية بمفهومها التقليدي. مارسيل غوشي يعرض في هذا الحوار مع المحلل النفسي والأنثربولوجي شارل ميلمان بعض أفكاره في الموضوع وفي مجالات أخرى لها علاقة بالهوية الإنسانية. < ترى الفيلسوفة حنا أرند أن الحل النهائي لمشكل التربية يوجد في انقطاع سلسلة التواصل. هل تشاطرانها التحليل نفسه؟ مارسيل غوشي: عندما نعالج رهانات التربية، أقول إنه بات من المستعجل إنهاء المسألة عن طريق اعتماد تحليلات لا تبالغ في نقد «اللاوضع» المعاصر. صحيح أن القطيعة التي نعرفها كبيرة جدا، إلا أننا اعتدنا حتى الآن على اعتبار التحولات التاريخية أشياء تحدث بعيدا عنا. كما أننا كنا مقتنعين بأن جل القطيعات الاجتماعية تجد أصلها في الظروف الاجتماعية وحدها. < وهل كان في الأمر خديعة؟ مارسيل غوشي: التحولات التي تقع الآن ليست فقط من الحجم غير المعتاد، بل إنها نابعة، على الخصوص، من تغيير حدث على مستوى البراديغم الأنثربولوجي الذي يرتبط بعدد معين من العلامات الأساسية، من قبل العلاقات بين الجنسين، والتربية... وعليه، لا يجب أن ننساق وراء الحنين، الذي يعمي الأبصار. بالرغم من كل شيء، لسنا في وضع يصعب الخروج منه. يجب ألا نخلط بين المشاكل الصعبة، التي تتطلب كثيرا من الوقت، وتلك التي ستتطلب ما يكفي من الوقت لتجاوزها وبين مشاكل لا يمكن حلها البتة. شارل ميلمان: لا بد من الإشارة أولا إلى أن المنقول هو ما نسميه تقاليد. وأولئك الذين يمكنهم، في كل فترة، أن يقدموا أنفسهم على أنهم الأكثر رجاحة عقليا والأكثر اطلاعا على الأمور من غيرهم، كانوا، إلى حد ثورتهم ضد التقاليد، يعبرون على الارتباط الكبير بهذه التقاليد. وخلافا للشخص المعاصر، كان الفرد، إلى حد العصر الحالي، يتميز بانقسامه بين ارتباطه بالتقاليد وبين الثورة عليها. والتقدم كان نتيجة ترتبت عن مدى فاعلية هذه الثورة. مبدئيا، أفضل شيء يمكن نقله إلى الآخر هو روح الثورة. إلا أن الانطباع الذي يلازمنا دائما هو أن روح الثورة آخذة في الاحتضار. والقطيعة الأولى والأكثر إثارة من غيرها هي أنه لم يعد هنالك الكثير من الشباب المسكونين بالرغبة في التحول الاجتماعي وبروح الثورة. < في كتابك «Conditions de l’éducation»، تؤكد كثيرا، سيد غوشي، على «المستقبل الافتراضي» للإنسان. ماذا تعني بذلك؟ م.غ: ممكن أن نتكلم، فعلا، عن فعل «التحويل إلى العالم الافتراضي»، لماذا؟ لأن الإنسانية تطرح نفسها بإلحاح. إنها أكبر خطوة نحو الأمام في السنوات الأخيرة. لكن المشكل هو أنه عندما نحتفل بالبعد الإنساني من خلال إعفائه من ضرورة تأسيس نفسه بنفسه، نكون أسدينا إليه خدمة سيئة. والرهان كله – الذي ليس رهانا مرتبطا فقط بالتحليل النفسي بل كذلك بالبعد الأنثربولوجي وبشكل واسع – هو معرفة ما إذا كان بالإمكان إعفاء الإنساني من التكون بكل معنى الكلمة... ش.م: أشاطرك تحليلك. فلم يعد هنالك من إلحاح تجاه الوسط الاجتماعي أكثر من الإصرار على ضمان الراحة الذاتية. السعادة، على الطريقة الإسكندنافية مثلا، ترسم نموذج مجتمع آمن بشكل تام. في هذا الإطار، من البديهي القول إنه لم يتبق لدينا إلا هذا الخليط الغريب بين التضامن المفروض والبحث الشخصي على الخلاص الاجتماعي. يبدو الأمر كما لو أن ثنائية جديدة تبرز إلى الوجود، وهي ثنائية التضامن الاجتماعي المفروض والفردانية المفرطة. البحث الشخصي عن الارتياح والسعادة صار من علاماته المميزة اليوم كونه يتم داخل جماعات صغيرة، في مجال تلخصه عبارة سيغموند فرويد حول «نرجسية الاختلافات الطفيفة». < كيف يمكن للفرد أن يعيد تكوين نفسه بينما النظام التقني، الذي تحدث عنه جاك إيلول، يفصله في وقت مبكر عن «حواسه الخمسة»، أي عن إدراكاته الطبيعية؟ م. غ: الحقيقة – ونتساءل هنا هل من الضروري التأكيد على هذا الأمر؟ - تتجاوز بكثير ما ذهب إليه إيلول، لأن صاحب كتاب «Le Bluff technologique» لم يقارب التقنية إلا باعتبارها بديلا عن العمل وتضخيما له. لقد تعمقنا، بشكل كبير، في الحقيقة الإنسانية إلى حد أننا صرنا نضاعف العلاقات الإنسانية الأساسية من قبيل علاقة الأم بطفلها، والعائلة بالتربية. مجتمعاتنا تصالحت مع المعطى التقني الذي ظل، منذ ماركس حتى الستينيات، يعتبر تهديدا كبيرا. أما اليوم فقد أصبحت التقنية مكملا طبيعيا مندمجا في الصيرورة الإنسانية التي لم تعد تطرح الأسئلة كما في السابق... ش.م: تعودنا، حتى اليوم، على الدوران حول قطب مزدوج؛ من ناحية أولى هنالك النموذج المثالي، ومن ناحية ثانية هنالك الموضوع الذي يأمرنا برغبته خلسة من أي أحد منا. وكما كان الموضوع مقسما بين الانضمام إلى التقليد والثورة عليه كذلك كانت الإنسانية منخرطة في عملية دوران مزدوج بين الطبقات الشعبية المرتبطة بالدفاع عن شرفها وبين طبقات مهتمة بشؤونها الجارية. وأما الحدث الجديد فيتمثل في كون هذين القطبين – النموذج المثالي والموضوع، سبب الرغبة – تلاشيا حد أنهما صارا مستعصيين عن الفهم لدى الأجيال الشابة، التي سبق آباؤها إلى التخلي عن النموذج المثالي. أما الموضوع – سبب الرغبة- فإن الآباء عاجزون عن العثور عليه لأنهم لم يحرموا من شيء أبدا، لما كانوا أطفالا. < النقل أو التحويل كان يعني الأب. ما عسى المحلل النفساني يقول عن الآثار المترتبة عن اختفائه؟ هل التربية ممكنة في غياب راعي الرمزية هذا؟ ش.م: إنها استعارة جميلة. توظيف الرمزي مكان القطيع تبدو لي استعارة ملائمة. لكن، وكما نعاين ذلك منذ القرن التاسع عشر، أضحى الأب غير مرغوب فيه، كذلك الشأن بالنسبة إلى الجنس والمسؤول وممارس الجنس، الذي يأتي ليزعج، على نحو منتظم، النظام العائلي أو غيره. مارسيل غوشي كان مصيبا حين ذكر بما قاله فرويد في هذا الاتجاه: التعارض بين إيروس وتاناتوس، أي لازمة اندفاعة الموت. ورغم الكبت النفسي المنغمس فيه هؤلاء الشباب الذين تحدثت عنهم فإنهم يتميزون بشيء مثير. وهو أنهم يدبرون، مرحلة بعد أخرى، حاجة فيهم إلى الالتزام، إلى الوفاء الخالص، إلى اللامبالاة المطلقة التي يمكنها أن تذهب إلى حدود بعيدة، لكن دون أن ينظموا طريق حياة واضحا. إنها تطلعات إلى تبادلات سلمية لا نعرف التفكير فيها كي نجعلها في خدمة تنظيم اجتماعي أفضل. عن مجلة «ماريان»