أثار وصول الإسلاميين إلى السلطة في عدة مناطق من العالم العربي، بعد ما سمي الربيع العربي، ويثير أسئلة عدة حول قضايا السلطة والحكم والمسألة الدينية والتعددية داخل الحقل الإسلامي نفسه. الكتاب الذي تنشره «المساء» على حلقات يفتح ملف الإسلاميين بين الدين والسلطة ويحاول تقديم إجابات عن العديد من الأسئلة التي طرحها الإسلاميون منذ ظهورهم إلى اليوم: كيف تعامل الإسلاميون مع قضية الخلافة؟ وكيف تم الانتقال من التنظير للخلافة إلى التنظير للدولة الوطنية؟ ولماذا تأخر الاعتراف بالديمقراطية كثيرا لصالح الشورى؟ وما علاقة ممارسة الحكم بالنص؟ وهل يشكل وصول الإسلاميين إلى السلطة نهاية الرحلة أم مجرد بداية لتفجير قضايا جديدة؟.٫ تباينت المواقف حيال انهيار الخلافة بين علماء ومصلحي المرحلة، والتي صبّت جميعُها في محاولة تفسير حالة التّيه التي أصيب بها العقل والعاطفة العربيان معا وتحديد الموقف إزاءها. ويمكن تحديد ثلاثة مواقف كبرى رسمت الإطارَ النظريَّ الذي تحركت في إطاره قضية الخلافة حتى النصف الأول من القرن العشرين، مع العلم أننا نجد داخل كل موقف تفصيلات مختلفة. الموقف الأول عبّر عنه جمال الدين الأفغاني (1838 - 1897) وهو موقف جاء في الفترة التي بدأت تشهد غروب الخلافة العثمانية، ولذلك تركزت كل جهود الأفغاني على إنقاذ هذا البناء، مع محاولته إصلاحَه من الداخل وتداركَ سقوطه الوشيك.. لقد ربط الأفغاني ما بين ضرورة المحافظة على الخلافة وبين محاربة الاستبداد السياسي، لذلك علّق تأييده للسلطان عبد الحميد الثاني على قيام هذا الأخير بمجموعة من الإصلاحات الجوهرية، من بينها الاعتراف بنوع من اللا مركزية والحكم الشوري التمثيلي والسير في طريق الحرية، إضافة إلى «تعريب» الدولة أو، على الأقل، إشراك العرب في الحكم بشكل فعلي. أدرك الأفغاني أن عمق المشكلة يوجد في الاستبداد السياسي وأن بداية المشكلة بدأت قبل قرون من ذلك التاريخ، عندما تحولت الخلافة إلى ملك عضوض، لكنه فضّل الانتظار وراهن على السلطان عبد الحميد، لأن التحدي الرئيس الذي كان يشغله هو التحدي الاستعماري الأجنبي، وعندما يئس من السلطان قرّر خلع بيعته من عنقه، وقال لهذا الأخير: «أتيت لأستميح جلالتك أن تقيلني من بيعتي لك، لأني رجعت عنها، بايعتك بالخلافة، والخليفة لا يصلح أن يكون غير صادق الوعد».. وقام بجولات في عدة بلدان إسلامية للبحث عن زعيم يمكنه أن ينفذ ما يحلم به هو، لكن أمانيه فشلت جميعها، وهذا ما جعل أحدَ الباحثين يَخلُص من قراءة تجربة الأفغاني إلى أن هذا الأخير «صرَف حياته بكاملها يفتش عن حاكم مسلم يمكنه بواسطته العمل على إحياء الإسلام، على غرار تلك الشراكة بين الحاكم والفيلسوف التي تخيّلها الفارابي كبديل للملك الفيلسوف المثالي، الذي لم يكن يظهر إلا نادرا». أما الموقف الثاني فقد عبّر عنه محمد رشيد رضا (1865 1935) فرغم أن كتابه «الخلافة» -الذي كان في الأصل مجموعة مقالات نشرت في مجلة»المنار» قد ظهر قبل انهيار الخلافة بشكل رسمي عام 1924 بحوالي عامين، إلا أنه كان يدرك أن الوضع الذي وصلته الخلافة العثمانية المتصدعة آيل فيها لا محالة إلى السقوط، ولذلك كان يسعى من وراء تلك المقالات إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه منها. وقد رأى رشيد رضا أن السبب في كل ما حل بالخلافة يعود إلى غياب المرجعية الموحدة لدى أهل السنة، المرجعية التي توفر لهم التحاكم إليها واللياذ بأكنافها، وهو في تفسير ذلك يقارن غياب تلك المرجعية لدى السنة بما هو حاصل لدى الشيعة، إذ يقول: «لا يوجد في علماء أهل السنة، مجتمعين ولا منفردين، من يبلغ في الزعامة واتباع الشعب له مبلغ مجتهدي علماء الشيعة، ولاسيما متخرجي النجف منهم، فأولئك هم الزعماء لأهل مذهبهم حقا، ويقال إنهم أفتوا في هذه الآونة بتحريم انتخاب الجمعية الوطنية، التي أمرت بها حكومة الملك فيصل لإقرار المعاهدة بين العراق والدولة البريطانية، فأطاعها البدو والحضر من الشيعة، وقد كان ميرزا حسن الشيرازي، رحمه الله تعالى، أصدر تحريم التنباك فخضع لها الشعب الإيراني كله». وواضح أن رشيد رضا في هذه الفقرة يُلخّص صورة الوضع برمته في المرحلة التي كانت فيها الخلافة «تترنّح»، ذلك أن علماء أهل السنة فقدوا زمام السيطرة بشكل كامل على مجريات الوضع السياسي في الإمبراطورية العثمانية لفائدة قواد الجيش ورجال السياسة، الذين كانوا يسعون إلى خدمة مصالحهم على حساب مصلحة الأمة بشكل عام، وإن مر ذلك عبر التواطؤ على إسقاط الخلافة. بيد أن تراجع دور علماء أهل السنّة لم يأت اعتباطا وإنما كان نتيجة غياب الاجتهاد وتحول الدين إلى رسوم شكلية وطقوس بالية، بسبب تراجع دور التعليم الديني، وهذا ما يكشفه رشيد رضا بعد تلك الفقرة نفسها، إذ يقول إن «علماء الدين أُبعدوا عن السياسة وعن الحكومة، فصار أكثر أهلها وأنصارها من الجاهلين بالشريعة، وتولى هؤلاء أمر التعليم وإعداد عمال الحكومة به وانكمش العلماء إلى زوايا مساجدهم أو جحور بيوتهم ولم يطالبوا بحقوقهم ولا استعدوا لذلك بما تقتضيه حال الزمان». يريد رشيد رضا أن يقول -بلغة اليوم- إن انهيار الخلافة وما لحقه من فصل الدين عن الدولة قد بدأ داخل أجهزة الدولة العثمانية نفسها من خلال فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، وتم التمهيد لذلك عبر إبعاد العلماء عن أداء أي دور في توجيه مؤسسات الدولة أو حتى سماع مواقفهم وآرائهم، وبذلك فقدوا سلطتهم على الدولة والمجتمع في وقت واحد، مقارنة بعلماء الشيعة، الذين وإن ظلت القطيعة بينهم وبين الدولة الحاكمة حاصلة، فإن نفوذهم الروحي على المجتمع بقيّ قائما. لقد نافح رشيد رضا عن بقاء الخلافة الإسلامية حتى لو لم تتوفر جميع شروطها الشرعية، حفاظا على وحدة الأمة لأن «وحدة الإمامة بوحدة الأمة»، حسب تعبيره، غير أنه اقترح كبديل عن إبقاء الخلافة في يد الترك أو نقلها إلى العرب في شبه الجزيرة العربية -لموانع ذكرها في كتابه- أن يتم نقلها إلى «منطقة وسطى من البلاد يكثر فيها العرب والترك والكرد، كالموصل المتنازع عليها بين العراق والأناضول وسورية»، على أن يتم تفويض «حزب الإصلاح» مهمة وضع نظام الخلافة العظمى.