لم أتطرق إلى مأساة تدمير المغول لحضارتنا لمجرد إثارة شجون تاريخية انتهت، أو أحقاد نرجو أن يكون قد عفّ عليها الزمن.. بل لنستفيد منها اليوم، ونحن نعيش -سنة وشيعة- ظروفا شبيهة بتلك الظروف. وهذه بعض أهم دروس الكارثة، في ما أظن: 1 - هذه الكارثة تطبيق تاريخي بشع لمبدأ «تكفير المخالف». إنك إذا اعتبرت أن غيرك من أصحاب القبلة كفار، وأن دارهم دار كفر.. ربما هانوا عليك، وأسلمتهم إلى عدوهم، وقلت: كفار يقتل بعضهم بعضا. ولا كذلك إذا اعتقدت أنهم مسلمون، لهم حقوقهم التي شرعها لهم الدين. وقد رأينا، فيما سبق من السلسلة، مشكلة التكفير ونماذجها عند الفريقين. ومن أخطر متعلقات التكفير: فكرة تجدها عند بعض أهل العلم، ناهيك عن العامة، وهي قول السني مثلا: إن النصراني أو اليهودي خير من هذا الرافضي، فهو أكفر منه، لكذا وكذا. أو قول الشيعي: إن أهل الكتاب خير من النواصب، لأن الأوائل كفروا ولم يؤذوا آل البيت، وهؤلاء كفروا وآذوا.. ويجعلون أهل السنة كلهم نواصب. إن ميزان الحكم على الطوائف يختل أحيانا عند أهل الفرق، فيعتبر بعضهم أن المشرك أو الكتابي خير من المسلم المخالف. فهذه المفاضلة خطرة، إضافة إلى كونها خطأ. 2 - إن حادثة إسقاط التتار لبغداد وقعت سنة 656 للهجرة. فكان الأمر قريبا، لذلك نقل عشرات العلماء والمؤرخين والمؤلفين تواطؤ ابن العلقمي مع الغزاة. لذلك لا يمكن إنكار ذلك، ولا ينكر الشيعة أيضا ذلك، لكن بعضهم يجادل في هذه الحادثة بالباطل. وهذا خطأ، إذ لا يمكن أن نصلح شيئا من أمورنا إذا كنا نفزع إلى إنكار أو تأويل كل تاريخ أو واقع لا يعجبنا ولا يرضاه هوانا. لذا دعا الأستاذ حب الله -وهو عالم ومفكر إمامي رصين- الشيعة إلى الاستفادة من هذا التاريخ، فقال: «لسنا نعصم أفراد الشيعة ولا جماعتهم عن خطأ ارتكبوه عبر الزمن، ونفتح الباب لمناقشة أخطاء الشيعة التاريخية، في القضايا كافة التي قيل فيها الكثير، من الغزو المغولي ونصير الدين وابن طاوس، مرورا بالتحالف الصفوي - الغربي ضد الدولة العثمانية، وصولا إلى ما يقال اليوم عن تحالف بين الشيعة وأمريكا.. فهذه الموضوعات جميعها قابلة للنقاش، فلم يزعم شيعي عصمة الشيعة بالمطلق، ولا أفرادهم، بمن فيهم كبار علمائهم ومراجعهم وسياسييهم. لكن هذا أمر، والصورة الإقصائية والتخوينية للشيعة أمر آخر. إننا نعتقد أن على الشيعة ألا يحجموا عن الاعتراف بأخطائهم التاريخية عندما تقوم عليها الحجة، وتثبت بالشواهد المؤكدة، وألا يحاولوا طمس حقائق التاريخ أو التلاعب بها لمصالح مذهبية أو طائفية». 3 - هذا من جانب، ومن جانب آخر على أهل السنة أن يعرفوا أن عمل ابن العلقمي لم يكن مخططا جماعيا للشيعة. لذلك لا معنى لتحميل المذهب، في جميع الأزمنة والأمكنة، وزر صنيع ابن العلقمي. يقول الأستاذ محمد المشهداني: «إن تصرفات الوزير ومواقفه لا ترضي حتى العلويين أنفسهم، لأنهم عرب أولا، ومن بني هاشم، إضافة إلى ذلك فإن المغول، بصفتهم غزاة وأعداء، كان هدفهم بغداد وما فيها، وإنهم لم يميّزوا بين علوي وعباسي، لأنه لم يكن هدفهم تنصيب علوي، أو خلع عباسي، رغم ما أشار عليهم الوزير بذلك، كما ذكرته بعض المصادر». 4 - إن التحالف مع الأجنبي غير محمود العواقب أبدا، ولا نكاد نعرف في تاريخنا الإسلامي أحدا استعان بغير المسلمين على إخوانه المسلمين.. فأفلح أو بلغ مقصوده، وإن فعل فإلى حين، ثم ينقلب عليه الأمر، من الداخل أو الخارج. يصدق هذا على الدول والطوائف والأفراد. إن المغول حين دخلوا بغداد لم يميزوا بين سني ولا شيعي. قال المؤرخ الغساني: «راح تحت السيف الشيعة والسنة معا، وأمم لا يحصون». وقال ابن الوردي المؤرخ: «نكبت الإمام والأمة، وسفكت دماء الشيعة والسنّة». هل استفاد الشيعة من هذا الدرس؟ ربما أطلت في الكلام عن كارثة سقوط بغداد، وما ذلك إلا لأن الأمر يمكن أن يتكرر في كل حين وزمان، إن لم يكن قد حدث قريبا. إن مشكلة الشيعة هي -في بعض نواحيها- مشكلة الأقليات في كل مكان وزمان.. فالأقلية قد تراودها أحيانا أحلام السيطرة واكتساب أسباب القوة، وربما كان في سلوك الأكثرية واستئثارها بالسلطة ما يسوغ لها الرغبة في الانتقام واسترجاع ما تعتبره حقها. ولما كانت أقلية، بمعنى أنها أضعف من أن تغلب الأكثرية، فإنها تجد نفسها مدفوعة إلى الرهان على الأجنبي، للاستقواء به على الخصوم من أهل البلد.. فهذا الإغراء أبدا قائم، وهو خطير جدا، لأنه سهل، إذ يوجد دوما من يتربص بالأمة وبخيراتها.. لكن نتائجه كارثية في إشاعة الفوضى، وتدمير الأوطان، وتكريس الكراهية بين أبناء الدين الواحد والوطن الواحد.. ثم إنه رهان خاسر، في الأغلب الأعم، لأن الأكثرية لا تستسلم ولا تسكت، والأجنبي لا يدوم ولا يقر له قرار، فهو يبتغي مصالحه، لا يهمه لا التسنن ولا التشيع، ولا الإسلام أصلا، بل ولا أيّ دين، في الغالب. وقد أوضح شريعتي، رحمه الله، في بعض ما كتبه كيف أن التشيع تنازعه تاريخيا أمران: مراعاة الحق أو ابتغاء المصلحة. ويرى أن التشيع الصفوي هو تشيع قصير النظر، لأنه يقدم المصلحة -كما يراها- على احترام الحقيقة. بينما موقف التشيع العلوي هو الانحياز إلى المبدأ، مهما كلّف الأمر. ومن جهة أخرى، يبدو أن بعض الشيعة على الأقل لم يستفد شيئا من هذه المأساة عدا الشماتة بالمسلمين. يقول الخطيب: «لا تزال الشيعة إلى هذه العصور المتأخرة تتلذذ بالشماتة وتتمتع بالعداوة للإسلام بما حل به في نكبة هولاكو. ومن شاء فليقرأ ترجمتهم للنصير الطوسي في جميع كتب التراجم التي ألفوها». وترى مثالا لهذا التشفي من كتاب الخونساري «روضات الجنات»، فيقول عن الطوسي وهولاكو: «من جملة أمره المشهور، المعروف المنقول، حكاية استيزاره للسلطان المحتشم في محروسة إيران هولاكو خان بن تولي خان بن جنكيز خان، من عظماء سلاطين التتارية.. ومجيئه في موكب السلطان المؤيد، مع كمال الاستعداد، إلى دار السلام بغداد، لإرشاد العباد، وإصلاح البلاد، وقطع دابر سلسلة البغي والفساد، وإخماد ثائرة الجَور والإلباس، بإبادة دائرة ملك بني العباس، وإيقاع القتل العام في أتباع أولئك الطغاة، إلى أن أسال من دمائهم كأمثلة الأنهار، فانهار بها في ماء دجلة، ومنها إلى نار جهنم، دار البوار ومحل الأشقياء والأشرار». لكن بعض أهل السنة يصور أن التحالف مع الأقوياء على حساب المسلمين السنة هو ديدن الشيعة دائما، ويستشهدون على ذلك أول ما يستشهدون بحادثة سقوط بغداد. ألا يعلم هؤلاء أن الشيعة بشر، تتوزعهم نوازع البشر، بما فيها من خير وشر، وما يعتريها من حالات العلو والهبوط.. أحيانا تحركهم، أو تحرك بعضهم، دواع مذهبية ضيقة. وأحيانا يصطفّون إلى جانب المصالح الوطنية والمبادئ الإسلامية العليا.. فشيْطنة الشيعة أمر لا يصح، إذ لا هو يجري على طبائع الإنسان والعمران، ولا التاريخ يؤيده. من تجارب التحام الشيعة بسائر الأمة فمن ذلك أن الصليبيين لما عزموا على احتلال مصر، فقصدوها في جيش عظيم.. رأى الخليفة الفاطمي العاضد أن إخوانه من المسلمين السنّة خير وأقرب رحما من الفرنج الغزاة، وإن كان وزيره «شاور» لم يكن يرى هذا الرأي. قال ابن كثير: «عند ذلك أرسل العاضد يستغيث بنور الدين، وبعث إليه بشعور نسائه يقول: أدركني واستنقذ نسائي من أيدي الفرنج.. فشرع نور الدين في تجهيز الجيوش إلى مصر..». وبعد نور الدين، ولىّ العاضد صلاح الدين الوزارة وخلع عليه خلعة سنية، ولقبه الملك الناصر. فمن هذا أصبح للخليفة الفاطمي وزراء سنّة من أهل الشام. وفي العصور الحديثة، قام الشيخ موسى كاشف الغطاء (ت 1822) بالإصلاح بين الدولة العثمانية ممثلة بوالي بغداد، والدولة القاجارية الشيعية، في شخص محمد القاجاري. وقد وقف شيعة العراق في وجه الاستعمار البريطاني، ففجروا ما يطلق عليه: ثورة العشرين. وأفتى بعض مراجع الشيعة في العراق بالجهاد تحت راية الدولة العثمانية لإخراج الإنجليز، وجاهد تحتها بعضهم كالشيخ محسن الحكيم. وحاول الإنجليز إغراء الشيعة بإعطائهم امتيازات وحقوقا كثيرة، ففشلوا. وكان من المشاركين في الثورة المرجع الكبير محمد تقي الشيرازي، رحمه الله، والذي أعلن الجهاد. وقد زاره القنصل البريطاني، وحاول استرضاءه بترشيح رجل شيعي للحكومة بدل السني القائم، فردّ عليه الشيرازي بقوله: «لا فرق عندي بين السني والشيعي، وإن الكَليدار الموجود رجل طيب، ولا أوافق على عزله». وحين زار الشيخ سامراء ورماه أحد أهالي المدينة السنية بالحجارة، أسرع القنصل الإنجليزي ببغداد، يعرض استعداد حكومته للبطش بالفاعلين، فأجابه الشيرازي: «إن الحادث مجرد عمل صبياني عفوي، وقع من صبيان كانوا يلعبون في الطريق، فلا حاجة إلى أن تدس بريطانيا أنفها في ما لا يعنيها من الأمور». ثم انتهى الصراع مع الإنجليز إلى انتكاسة ثورة العشرين، وتسفير المراجع الثلاثة الكبار، ومن معهم من العلماء، خارج العراق.. وإن كان الشيخ رضا أشار إلى عدم استمرار الشيعة في هذا الطريق، لكن العبرة بقدرة القوم على الالتحام بالأمة، وأنهم فعلا كانوا في فترات من تاريخنا صفا واحدا مع أهل السنة، فلذلك لا معنى للنظر إلى الإمامية باعتبارهم أبدا متعاونين مع الأجانب. ومن أهم الأسر الشيعية بالعراق المعروفة بقربها من أهل السنة وحرصها على الوحدة: آل الخالصي، وهي أسرة جاه وفضل وعلم. يتبع...