برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    الحكومة تعفي استيراد الأبقار والأغنام من الضرائب والرسوم الجمركية    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية        إسرائيل: محكمة لاهاي فقدت "الشرعية"    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط، اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله        بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"العدل والإحسان" ومرشدها بين حقائق الواقع وأوهام السيد ادريس هاني 4/4
نشر في هسبريس يوم 14 - 02 - 2012


بسم الله الرحمن الرحيم
"الخلافة" وجدل "الدولة المدنية"
من وقوفنا على ترجيعات السيد هاني حول "العدل والإحسان" ومرشدها يؤسفنا أن نقرر حقيقة مفادها أنه يحتاج إلى بذل جهد نفسي كبير للاستفاقة من سكرة التمركز حول الذات، وأنه يملك تصورا مشوها للتصور "العدلي" لأطروحة "الخلافة" ، وقد كان لزاما عليه ليقارب الموضوع بدقة وموضوعية أن يتحرر من تحفظاته المذهبية – التي نتفهمها في سياق التحليل التاريخي لفترات زمنية معينة- على نظام الخلافة بإطلاق ليلتصق بالتربة المغربية حيث تشتغل "العدل والإحسان"،وحتى إن بدا أنه ينتقد من موقع "الحفاظ على استقرار النظام في المغرب" فإنه في حقيقة الأمر لا يبرح أرضية الدوافع الطائفية، لذلك فهو يحسب نظرة الجماعة إلى قضية "الخلافة" نظرة جامدة ،وإن هي طورت خطابها لجأ إلى سلاح الاتهام بالروغان والحكم على النوايا،كما فعل عندما أعلنت الجماعة أنها لا تبغي عن "الدولة المدنية" بديلا،وكما كان دأبه غالبا لم يُحِل السيد هاني ولو على نص واحد للسيد عبد السلام ياسين يشهد لانتقاداته على تصور الرجل لمسألة "الخلافة"،وهي انتقادات من قبيل قوله:
1-"وقد ظلت "العدل والإحسان"و"حزب التحرير" وحدهما من لم يُفطما عنها – أي الخلافة- فغرقا في حرج شديد"،ونقول للسيد هاني:شتان بين التصور التسطيحي والتبسيطي والقافز على الواقع لدى "حزب التحرير" عن "الخلافة" وبين تصور "العدل والإحسان" الذي يحتفل بالمخبر لا بالمظهر وبالجواهر لا بالقشور،ويراعي الأولويات ومنطق التدرج والمرونة،ويعلق إطلاق وصف الخلافة على حصول شرط الرشد السياسي والديني،وأعظم تسطيح هو إبداء الحزب لخصومة واضحة للدمقراطية بإطلاق لأنها في زعمه "نظام كفر،لا علاقة لها بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد،وهي تتناقض مع أحكام الإسلام تناقضا كليا في الكليات وفي الجزئيات،وفي المصدر الذي جاءت منه،والعقيدة التي انبثقت عنها،والأساس الذي قامت عليه،وفي الأفكار والأنظمة التي أتت بها،لذلك فإنه يحرم على المسلمين أخذها،أو تطبيقها،أو الدعوة لها تحريما جازما"1، فأين هذا من قول السيد ياسين:"تفطن المستضعفون إلى أن أهمّ مَا تفَوَّق به المستكبرون في الأرض استقرارُ الحكم على قاعدة الديمقراطية،فصيحة العصر ديمقراطية،وجواب الإسلام ترحيب بديمقراطية تخْنُق الاستبداد"2 وبالتالي فإن أحق من عليه أن يشعر بالحرج هو حزب التحرير وحده لا الجماعة.
2-ويربط السيد هاني بين قول "العدل والإحسان" بالدولة المدنية وبين الحراك الشعبي في المغرب،سواء من حيث الشكل والزمن "فالخلافة التي تورط فيها خطاب الجماعة باتت ثقيلة" أم من حيث المضمون والمحتوى إذ "تحولت الخلافة على منهاج النبوة إلى الدولة المدنية على منهاج مونتيسكيو بين عشية وضحى الحراك الشبابي لعشرين فبراير"،نعم ستبدو "الخلافة"-على التفصيل الذي سنذكره بعد حين- ثقيلة على السيد هاني الذي لا يحق له أن يتحدث بالوكالة عن كل الباحثين والدارسين والمؤرخين حتى يوهمنا أن ذلك الثقل المدعى أمر مسلم به،أما حكاية "تورط" خطاب الجماعة في القول بالخلافة فمردود عليها:
- أولا:لأن الذي يقع في ورطة هو الذي لا يقف على أرضية تصورية صلبة تستند إلى دلائل وحجج من المنقول والمعقول.
- ثانيا:لا نريد للسيد هاني ولا لغيره أن يقول إن الخلافة تورط فيها أيضا خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم مادام أن الحديث المرجعي المعتمد هو الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن حذيفة بن اليمان قال:قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلْكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلْكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة" ثم سكت3 .
- ثالثا:نحب أن نلفت الانتباه إلى مسألة على درجة كبيرة من الأهمية وهي ضرورة التفريق بين مقام الحديث عن مجال حضاري إسلامي عام له خصائص تميزه عن المجالات الحضارية التي عرفها العالم وفي هذا المقام يحضر الكلام عن الخلافة والمرحلة التأسيسية والأحداث التي ارتبطت في تاريخ المسلمين بالفتنة الكبرى وما تلاها من انقلاب نزع عن "الخلافة" صفة "الرشد" التي أُضْفِيت عليها خلال حكم الصحابة الأربعة الكبار- رضي الله عنهم- :أبي بكر وعمر وعثمان وعلي،وبين مقام الحديث عن المجال الحضاري المغربي الخاص وتحت هذا المقام يندرج الكلام على الدولة القطرية أوالدولة المدنية ولا يحضر الكلام عن الخلافة، ومشكلة السيد هاني هي عدم التفريق بين المقامين.
- رابعا:إن حديث "الخلافة" المذكور فهم منه بعض فقهاء "الأحكام السلطانية" أن الأمر يتعلق بإضفاء طابع الشرعية على "المُلك العاض والجبري" لذلك لم يروا بأسا في إطلاق اسم "المُلك" على"الخلافة" أو العكس،بينما رأى آخرون أن الأمر يتعلق بتحذير من كوارث سياسية ستقع في تاريخ المسلمين،وهذا الفهم هو الذي تؤيده وقائع التاريخ وسياق النص الحديثي الذي يميز بين الاسمين،واعتبر الأستاذ عبد السلام ياسين القول بانتفاء التمييز كِذبة انطلت على الأجيال؛فقد" اعتاد الناس أن يسمعوا عن الخلافة الأموية والعباسية وهلم جرا، وعاشوا على سراب الأسماء دون فحص ناقد للمسميات،سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم مُلْكا عاضا ومُلْكا جبريا وسماها "المؤرخون" الرسميون خلافة"4،ويبرز الفرق بين "الملك العاض" و"الملك الجبري"؛فالملك العاض هو" الذي يعض على الأمة بالوراثة وبيعة الإكراه"5 ،والملك الجبري هو "القهر الجبري أي الدكتاتوري بلسان العصر"6، ويعتبره أفظع من العاض"لأن الجبر إن كان يلوح بشعارات الدين كما كان يفعل الملك العاض فقد أفرغ أجهزة الحكم والإعلام والتعليم وأفرغ قوانين الحكم من كل معاني الإسلام"7.
ولقد ارتبط شأن أولية الاستبداد في تاريخنا بالسعي الحثيث إلى ترسيخ"جبرية" بتخريجات دينية وعقدية، لذلك لم يتحرج القتلة من اعتبار مجرد الانتهاء من"مشكلة" الحسين "فتحا من الله"،عن حميد بن مسلم قال:"دعاني عمر بن سعد فسرحني إلى أهله لأبشرهم بفتح الله عليه وعافيته"8 وبعد أن نجا علي بن الحسين زين العابدين من القتل،أُدخل على عبيد الله بن زياد فقال له:"ما اسمك؟(قال علي) قلت:علي بن الحسين،فقال:أو لم يقتل الله عليا؟(كذا الله هو الذي قتل)،قلت:كان أخي يقال له علي أكبر مني قتله الناس،قال ابن زياد:بل الله قتله"9،وأُدخلت زينب أخت الحسين على ابن زياد فقال لها:"الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثثكم،فقالت:الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وطهرنا تطهيرا،لا كما تقول أنت،قال:فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك"10،فحسب ابن زياد الله هو الذي قتل وهو الذي صنع،تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا،ولما أدخل السبايا ومعهم علي بن الحسين على يزيد قال:يا علي أبوك الذي قطع رحمي،وجهل حقي،ونازعني سلطاني،فصنع الله به ما رأيت"11
ولقد ظل "المنطق الجبري" ملازما للأسر التي تعاقبت على حكم المسلمين،فقد جاء في خطبة لأبي جعفر المنصور يوم عرفات:"ايها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه،أسوسكم بتوفيقه وتسديده،وأنا خازنه على فيئه،أعمل بمشيئته وأقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه،وقد جعلني الله عليه قفلا إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني،وإذا شاء أن يقفلني قفلني"12 وهكذا فإن أراد حاكم أن ينهب المال العام تعسف في إفهام المسلمين أن مالهم هو مال الله(كلمة حق يراد بها باطل) ،وإن أراد أن يعهد بولاية العهد لابنه قال لهم:"إن الله أرى أمير المؤمنين في ابنه رأيا حسنا " وإن عارض معارض اتهم بشق عصا الطاعة،ومفارقة الجماعة، ومعاكسة "قدر الله".
ووجد المستبدون -الذين توسلوا بالجبرية لاستغفال الجمهور- عند المعارضات المسلحة التي كانت تسعى إلى تقويض فكرة الدولة عمليا وفلسفيا الذرائع الكافية في اعتقادهم لقمع المعارضات السلمية،والمعلوم أن الدولة من ضروريات الاجتماع الإنساني،وفكرة اللادولة واللاسلطة فكرة"خوارجية" تلقفتها الكثير من تيارات الجمود والحرفية،وطورتها اتجاهات اشتراكية وماركسية حتى ظهرت في الفكر السياسي مدرسة قائمة لها مفكروها ومنظروها هي "المدرسة الفوضوية"،وانتشرت فكرة اللادولة بشكل آخر في التشيع التقليدي الذي ظل لقرون طويلة أسيرا لعقلية الانتظار،ومن ثم انزوت مراجع التقليد بعيدا عن الاهتمام بالشأن السياسي العام، واستقالت من كل مهمة تغييرية وأرجأتها إلى ظهور "إمام الزمان" الغائب الذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملأت جورا، ولذلك لم تضع الشيعة في حساباتها "إمكانيات الوصول إلى الحكم، ولهذا كانوا يعتبرون فرصة الدولة عندهم هي فرصة دولة الإمام المهدي"13، وكان مرمى طرف الفقهاء إذا فسدت الأوضاع أن يتقدموا بالنصح إلى الحاكم ويحذروه مغبة التمادي في الظلم ،وظهرت عقلية الانتظار حتى في مناقشة قضايا فقهية كالخمس ومصرفه والجهاد وإقامة الجمعة،ولقد حمل الدكتور علي شريعتي مسؤولية انتشار عقلية الانتظار السلبي للدولة الصفوية، ووصف هذا الانتظار بأنه هو"الاستسلام الروحي والعملي والعقائدي للأمر الواقع والوضع السائد ،تبرير الفساد في الأرض،والنظر للأمر الواقع وكأنه قدر لا يمكن رده،إلغاء الدور المسؤول للإنسان ،اليأس من من كل إصلاح وتغيير وإدانة أي محاولة في هذا المجال بدعوى استحالتها قبل ظهور الإمام"14 ،ودعا جماهير الشيعة للعودة إلى ما سماه" التشيع العلوي" وهو تشيع الانتظار الإيجابي،وقال في وصفه:"هو الإعداد الروحي والعملي والعقائدي من أجل الإسلام والثورة وتغيير العالم،أمل يعين على الإيمان القاطع بزوال الظلم وانتصار الحق والعدل،وسيادة الطبقة المحرومة والمستضعفة على العالم،حيث وعد الله بأن يرث المستضعفون الأرض،إنه ثقة بانتصار الجماهير والناس الصالحين الذين كرسوا أنفسهم من أجل الثورة العالمية"15 ،وشارك شريعتي في التنبيه على مخاطر الانتظار السلبي مفكر شيعي آخر هو مهدي بازركان الذي قال:" لنسأل أنفسنا من ننتظر؟الإمام الغائب؟وما نعني بالقيام والثورة؟ومن أجل ماذا؟ (...)إن هذا الطرح لمسألة الإمام الغائب أصبح بلاء علينا نحن المسلمين في الظاهر والكسالى وطلاب الراحة في الواقع،وهذا الموقف يعني أن نترك الظالمين والغاصبين يفعلون ما يشاؤون،ويحكمون كما يريدون،دون أن نتصدى لمنعهم حتى في حالة الدفاع"16.
ومن مصاديق التفكير المسرف في التبسيط اعتبار عدم المشاركة في الانتخابات المنظمة حسب قوانين انتخابية معدة على مقاس الأنظمة المستبدة نوعا من رفض فكرة الدولة،فضلا عما في ذلك من خلط معيب بين المشاركة السياسية والمشاركة الانتخابية،والحقيقة أنهما مختلفان ولا يجوز بحال اختزال المشاركة السياسية في المشاركة الانتخابية.
- خامسا:لقد كان التمييز بين"الخلافة" و"المُلك" حاضرا بوضوح في عقول الصحابة رضي الله عنهم،فسلمان الفارسي عندما سأله عمر الفاروق رضي الله عنه:أمَلِك أنا أم خليفه؟ أجابه قائلا:" إن أنت جَبَيْت من أرض المسلمين درهما أو أقلَّ أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة"،وقال له صحابي آخر:" يا أمير المؤمنين! إنَّ بينهما فرقا. قال: ما هو؟ قال: الخليفة لا يأخذ إلا حقا، ولا يضعه إلا في حق. وأنت بحمد الله كذلك. والمَلِك يعْسِف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا"17، ودخل سعد بن مالك على معاوية بن أبي سفيان فحياه قائلا: "السلام عليك أيها المَلِك، فغضِب معاوية فقال: ألا قلت السلام عليك يا أمير المؤمنين؟ قال سعد: ذاك إن كنا أمَّرناك، إنما أنت مُنتَز"18، وبذلك يظهر أن اسم"الخلافة" يتنزل على معاني احترام حقوق الإنسان،واحترام المال العام،والتصدي للحكم باختيار حر من الناس،وعلى أضداد هذه المعاني يتنزل مفهوما "الملك العاض والجبري" من نهب للمال العام والتلاعب به واحتكار للثروة ،وانتهاك لحقوق الإنسان،واستبداد ومصادرة لحق الناس في اختيار من يحكمهم. وإلى معاني التمييز بين "الخلافة" و"الملك" نظر حديث الدكتور محمد عابد الجابري- رحمه الله- عن "حقائق حول الخلافة في الإسلام" فذكر منها " والحقيقة الخامسة أن لقب "الخليفة" كان مرتبطاً بالبيعة بعد الشورى، أي مرهوناً باختيار كبار القوم (أهل الحل والعقد)، وهذا لم يكن ينطبق إلا على الأربعة الأُوَل"19، وحديثه أيضا عما أصاب "العقل السياسي العربي" ابتداء من الدولة الأموية مرورا بالعصر العباسي وصولا إلى واقعنا السياسي المعاصر من أزمات جعلت ذلك العقل مُنحبسا في ثُلاثية: أيديولوجيا الجبر الأموي ، وأيديولوجيا التكفير الخارجي،وميثولوجيا الإمامة الشيعية20.
وفي واقعنا المعاصر سنجد من يهيم " على وجه الآمال الحالمة بأمجاد العباسيين وشوكة آل عثمان، رحم الله الجميع، فيقبع في سجن الأمية التاريخية"21،وسنجد حتى من أبناء الحركة الإسلامية من " يفكرون ويوصون ويجتهدون في حدود نمط الحكم الأموي، والمجد العباسي، والشوكة العثمانية، والفقه الفروعي، والعقيدة الجدلية عند علماء الكلام، والدفاع بلا تمييز عن تاريخ المسلمين يحسبونه تاريخ الإسلام"22، ولا ريب في أنه كان من الملوك أفاضل لكنهم كانوا" يَعْبرُون المجال ويبقى النظام بعدهم مستمرا لا فكاك منه"23.
3- في سياق الربط بين "المهدوية و"الخلافة" اتهم السيد هاني السيد ياسين بادعاء "المهدوية لنفسه" فقال:" لقد فعل فعله ابن تومرت مع فارق كبير، في ادعاء المهدوية لنفسه" وهو اتهام باطل لم يأت عليه ولو بدليل واحد من كلام الشيخ، فالمهدوية- يقول السيد هاني-" أمر جلل يخصّ في الاعتقاد المسلم كل الدنيا والعالم" وهذه مغالطة أخرى،لأن الإيمان بالمهدي لا يدخل عند المسلمين جميعهم في مسمى العقيدة التي لا يكون المؤمن مؤمنا إلا بها،وإنما يدخل فقط عند المسلمين الشيعة الإمامية،مع مراعاة الفرق بين نظرة أهل السنة ونظرة الشيعة إلى شخصية المهدي،فهي بالنسبة للأولين شخصية مسلمة مُصلِحة من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ستظهر في آخر الزمان ،برنامجها هو إقامة العدل واقتلاع الظلم،أما بالنسبة للأخيرين فهي –زيادة على الأوصاف المذكورة في النظرة الأولى- شخصية وُلدت واسْتَتَرت عن الأعين وهي تعيش بيننا تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، وستظهر لعامة الناس في آخر الزمان كذلك.
خلاصة القول إن السيد هاني يبعد عن الصواب عندما يصور دعوة "العدل والإحسان" إلى "الخلافة"- في مقام الحديث عن الأمة- تصويرا "كاريكاتوريا" أو"شكلانيا" يركز على المظهر العام لا على الجوهر، وحتى لا تقفز إلى أذهان "هواة التصوير الكاريكاتوري" صور الخيام والجمال والصحراء؛ فإنه يتعين أن ينصرف النظر في مسألة "الخلافة" إلى المعاني لا إلى الأشكال؛وهي معان تقوم على:
- معمار أخلاقي يتأسس على الإيمان بالله والسعي إلى نيل رضاه، والإيمان باليوم الآخر.
- العدل في الحكم والفصل بين السلط،والتركيز على الصيغة "الاشتراطية" و"التعاقدية" للبيعة التي ارتبطت بالخلافة،فالناس هم الأساس في إضفاء "المشروعية" على الحكم،والنظر في مسائل الحكم مفوض إلى الخَلْقِ ولا يدخل في مسمَّى العقائد،وبهذا المعنى تكون الدولة الوطنية أو الأممية المنشودة دولة مدنية بدون أدنى شك أو تردد.
- العدل في توزيع الثروة وتمكين الناس من تحقيق الكفاية في أرزاقهم.
- الشورى وتوسيع الاستشارة مع عموم الشعب وقواه الحية .
- تقوية المجتمع لينهض بمهام الرقابة على الدولة (إن أسأتُ فقوموني)،لأنه لا يكفي – في عصرنا- التعويل فقط على صلاح الحاكم الفرد دون بناء مؤسسة قوية تعينه(إن أحسنت فأعينوني) وتحمي الحكم الرشيد وتحصنه من الفساد والاستبداد.
- إشاعة الحريات (حرية العقيدة:لا إكراه في الدين)،حرية التعبير ليقول من شاء ما شاء ما لم يرفع سلاحا...
- التحرر من أسر النموذج السلطان الذي أعقب الانقلاب على الخلافة الراشدة وقام على الجباية لا على الهداية.
- جهد جماعي تبذله كل مكونات وتيارات وأحزاب الأمة قاطبة،ولا يمكن بتاتا أن تنهض بمهام بنائها جماعة لوحدها أو حزب أو جمعية ؛ لأن الأمر- نعيد التأكيد- يتعلق بالمجال الحضاري الإسلامي العام وليس بالمجال الحضاري المغربي الخاص،كما أنه ليس من المعقول أن تظل الأشكال القديمة لتنظيم الدولة الإسلامية الأممية حائلا دون الانفتاح على الأشكال التنظيمية الحديثة كالكونفدرالية والفدرالية وهو ما أكده السيد ياسين بقوله:" إن صورة الوحدة يمكن، بل يستحسن لمزايا توزيع المسؤوليات ولمضار الحكومة المركزية، أن تكون من نوع ما يسميه العصر فيدرالية"24.
- الوحدة والتكتل والاجتماع في عالم لم يَعُد يَقبل بالكيانات القَزَمية،فلماذا يمارس البعض من مواطنينا عملية جلد الذات، ويريدون أن يقتلوا فينا كل معنى للأمل الفسيح والتشوف بتفاؤل إلى الأممية بدعوى "طوباوية" الخلافة وهو الوصف الذي ادخروه لها ولم يدخروه "للطوبويات العتيقة والمستحدثة "25 من قبيل "دولة المهدي" و "المجتمع الدمقراطي الحداثي" و"المجتمع اللاطبقي الماركسي" و"المجتمع العربي الاشتراكي الموحد" وأرض "تامزغا" و"دولة المهدي" و"نهاية التاريخ"، فالطموح إلى "الأممية" طموح عابر للقارات، يسكن الأفراد والجماعات،إما أن يكون بحق يسعى إلى خير البشر وإشاعة السلام،وإما أن يكون بباطل فيفضي- كما حدث في التاريخ- إلى الفاشية والنازية والصهيونية والتوسع والاستعمار.
وكم هو حكيم شعار"إسقاط الفساد والاستبداد" الذي اعتمده الحراك الشعبي المغربي لولا أن البعض أراد لتوهجه أن يخبو في"تعامل انتهازي" وينحبس في "سقف شكلاني" يبقينا في دائرة المعجم المخزني،فكان المطلوب هو العمل وفق روح الشعار ،حتى إذا سقط الفساد والاستبداد سَمِّ نظام الحكم خلافة أو سلطنة أو إمارة أو جمهورية أو ما شئت،وفي هذا المعنى ما أبدع ما خطه يراع الشاعر أحمد مطر- وهو من شيعة الحسين حقا وصدقا- فقال:
أوْجِزْ لي مضمونَ العَدلِولا تَفلِقْني بالعُنوانْ .
لنْ تَقوى عِندي بالتَّقوى
ويَقينُكَ عندي بُهتانْ
إن لم يَعتَدِلِ الميزانْ .
شَعْرةُ ظُلمٍ تَنسِفُ وَزنَكَ
لو أنَّ صلاتَكَ أطنانْ !
الإيمانُ الظالمُ كُفرٌ
والكُفرُ العادِلُ إيمانْ !
هذا ما كَتَبَ الرحمانْ .
(قالَ فُلانٌ عنْ عُلا ّنٍ
عن فُلتان عن عُلتانْ )
أقوالٌ فيها قولانْ .
لا تَعدِلُ ميزانَ العدْلِ
ولا تَمنحني الاطمئنانْ
د عْ أقوالَ الأمسِ وقُل لي ..
ماذا تفعلُ أنتَ الآنْ ؟
هل تفتحُ للدينِ الدُّنيا ..
أم تَحبِسُهُ في دُكّانْ ؟!
هلْ تُعطينا بعضَ الجنَّةِ
أم تحجُزُها للإخوانْ ؟!
قُلْ لي الآنْ .
فعلى مُختَلفِ الأزمانْ
والطُغيانْ
يذبحُني باسم الرحمانِ فِداءً للأوثانْ !
هذا يَذبحُ بالتَّوراةِ
وذلكَ يَذبحُ بالإنجيلِ
وهذا يذبحُ بالقرآنْ !
لا ذنْبَ لكلِّ الأديانْ .
الذنبُ بِطبْعِ الإنسانِ
وإنَّكَ يا هذا إنسانْ .
كُنْ ما شِئتَ ..
رئيساً،
مَلِكاً،
خاناً،
شيخاً،
دهْقاناً،
كُنْ أيّاً كانْ
من جِنسِ الإنسِ أو الجَانْ
لا أسألُ عنْ شَكلِ السُّلطةِ
أسألُ عنْ عَدْلِ السُّلطانْ .
هاتِ العَدْلَ ..
وكُنْ طَر َزانْ
وختاما نقول أيضا:إن السيد هاني حر في أن يعتنق من الأفكار ما يشاء،وأن ينتقد من يشاء،لأنه لا أحد معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما كان يقول الإمام مالك رحمه الله مشيرا إلى الروضة الشريفة،"كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد" سواء أكان السيد ياسين أم غيره،لكن يطلب إليه أن يطور "مشروعه" كي لا يبقى أسيرا لترداد مقالات الخلاف القديم بلغة عصرية،وإن النقد الذي يُسهم في البناء وتطوير حركة التفكير ،وحسم مادة الجدل للانطلاق إلى العمل، هو الذي لا يعتمد عبارات وأقوال تنطمس الحقيقة فيها تحت غشاء من التفكير الانفعالي،وهو الذي يُقدَّم في حلل زاهية من الإنصاف لا في خِرق بالية من الإرجاف،ويحفظ للأشخاص كرامتهم،ولا يبدد صاحبه الوقت والعمر في تكرار ما في تراثنا من مُخَلَّفات الشَّيْنِ وحواشي البَيْنِ،ولا رد بعد هذا فويل للشجي من الخلي.
الهوامش
1 حزب التحرير، الديمقراطية نظام كفر، يحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها،1990
2 عبد السلام ياسين،تنوير المؤمنات،ص 360
3 مسند الإمام أحمد 6/384،وأورده الألباني في "السلسلة الصحيحة/5".
4 نظرات في الفقه والتاريخ ص 10
5 المنهاج النبوي/12
6 نفسه
7 نفسه،ص 13
8 تاريخ الطبري 3/288
9 نفسه
10 نفسه
11 المنتظم لابن الجوزي 2/199
12
13 محمد حسين فضل الله، "الاجتهاد وإمكانيات التجديد في منهج التفكير"، مجلة المنطلق، عدد 111، ربيع 1995، ص: 82.
14 فاضل رسول،هكذا تكلم شريعتي،ص 181
15 نفسه ص 178
16 مهدي بازركان،الحد الفاصل بين السياسة والدين،ص 39- 40
17 طبقات ابن سعد
18 أي توليت الحكم من غير رضا الناس ،تاريخ اليعقوبي، 2/ 217.
19 "الاتحاد"الإماراتية 28/9/2009
20 الجابري ،العقل السياسي العربي،ص 310
21 نفسه ص 12
22 نفسه ص 43
23 ياسين،الخلافة والملك،ص 59
24 المنها النبوية ص26
25 عبد الله العروي،مفهوم الدولة ص 170


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.