(5) "تَعتبِر الشيعةُ الإمامية اثني عشر إماما أوصياء وخلفاء النبي – صلى الله عليه وسلم - الذين استجمعوا شرائط الإمامة والخلافة الكاملة،[1] ويَعُدُّ أهل السنة أربعة من الخلفاء الراشدين، ومنهم من يضيف إليهم عمر بن عبد العزيز،[2] إلا أن ورود الحديث الصحيح الذي يقول فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "يكون اثنا عشر أميرا"[3] بصيغ مختلفة، قد فجر جدالا واسعا بين الشيعة وأهل السنة حول المقصود بالاثني عشر أميرا: إذ رأى فيه الشيعة تعزيزا لاعتقادهم بإمامة الأئمة الاثني عشر، فيما ذهب أهل السنة يتأولون – ما وسعهم الجهد- تلك الأحاديث ودفع الاستشكال الناجم عنها "ووجه الاستشكال أن هذا الحديث ناظر إلى مذهب الاثنا عشرية الذين أثبتوا اثني عشر إماما"،[4]، هذا الاستشكال وما نتج عنه سأعمل – في هذه المقالة- على بسطه واقتراح حله. أحاديث الاثني عشر خليفة أو إماما وقفة مع التنزيل[5] 1- روايات الشيعة: يعقد الكليني في كتاب الكافي بابا لسرد هذه الروايات سماه: "ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم – عليهم السلام-"[6] ومما جاء فيه: أ- عن سليم بن قيس قال: "سمعت عبد الله بن جعفر الطيار يقول: كنا عند معاوية أنا والحسن والحسين، فجرى بيني وبين معاوية كلام فقلت لمعاوية: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم أخي علي بن أبي طالب أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد علي فالحسن بن علي (...) ثم ابني الحسين من بعده (...) فإذا استشهد فابنه علي بن الحسين ثم ابنه محمد بن علي، ثم تكملة اثني عشر إماما: تسعة من ولد الحسين".[7] ب- عن أبي الجارود عن أبي جعفر بن عبد الله الأنصاري قال: دخلت على فاطمة وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها، فعددت اثني عشر آخرهم القائم، ثلاثة منهم محمد، وثلاثة منهم علي".[8] ج- عن أبي جعفر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - "إني واثني عشر من ولدي وأنت يا علي زر الأرض، يعني أوتادها وجبالها، بها أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم ينظروا"،[9] وعنه أيضا قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "من ولدي الاثنا عشر نقيبا نجباء محدثون مفهمون آخرهم القائم بالحق، يملأها عدلا كما ملئت جورا"[10] وفضلا عن هذه الأحاديث المروية بطرقهم، تستمد الشيعة البراهين على إمامة الاثني عشر من مظان أخرى:[11] أ- القرآن الكريم: "إذ صارت الآيات القرآنية التي ورد فيها بشكل عادي الرقم (12) موضع اهتمام المتكلمين الشيعة".[12] كقوله تعالى (وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا)[13]. ب- من كتب أهل الكتاب وبخاصة اليهود: فيروي الكليني عن أبي الطفيل قال: أقبل يهودي على علي فقال: إني أريد أن أسألك عن ثلاث وثلاث وواحدة (...) قال: فسل: قال: أخبرني عن محمد – صلى الله عليه وسلم - كم له من إمام عدل؟ فقال: يا هاروني إن لمحمد – صلى الله عليه وسلم - اثني عشر إمام عدل، لا يضرهم خذلان من خذلهم (...) ومسكن محمد - صلى الله عليه وسلم - في جنته مع أولئك الاثني عشر الإمام العدل (كذا)، فقال: صدقت، والله الذي لا إله إلا هو إني لأجدها في كتب أبي هارون كتبه بيده، وإملاء موسى عمي عليهما السلام"،[14] ويحتج الشيخ مرتضى العسكري بما جاء "في سفر التكوين، الاصحاح 17/ رقم 18- 20 من الثوراة المتداولة في عصرنا: "وإسماعيل أباركه وأثمره وأكثره جدا جدا، اثني عشر إماما يلد وأجعله أمة كبيرة".[15] ج- من مرويات أهل السنة. 2- روايات أهل السنة: أ- يروي الإمام البخاري عن جابر بن سمرة – رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول: يكون اثنا عشر أميرا، فقال كلمة لم لأسمعها، فقال أبي: إنه قال كلهم من قريش".[16] ب- ويروي الإمام مسلم عن جابر بن سمرة – أيضا- قال: "دخلت مع أبي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثني عشر خليفة"،[17] وفي رواية أخرى: "لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة"،[18] وفي رواية أخرى: "لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة"،[19] وفي رواية أخرى: " لا يزال هذا الدين قائما حتى تقوم الساعة، أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة".[20] ج- يروي ابن حبان عن سفينة عن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: الخلافة ثلاثون سنة وسائرهم ملوك، والخلفاء اثنا عشر".[21] د- وفي المسند عند الإمام أحمد: عن مسروق قال: كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- وهو يقرؤنا القرآن فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن: هل سألتم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كم يملك هذه الأمة من خليفة، فقال عبد الله بن مسعود: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فقال: اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل"،[22] وفي رواية أخرى: "إن هذا الدين لن يزال ظاهرا على من ناوأه لا يضره مخالف ولا مفارق حتى يمضي من أمتي اثنا عشر خليفة"،[23] وفي رواية أخرى: "لا يزال هذا الأمر صالحا حتى يكون اثنا عشر أميرا"،[24] وفي رواية أخرى: "لا يزال هذا الدين مواتيا أو مقاربا حتى يقوم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش".[25] ه- ويروي أبو داود عن جابر بن سمرة قال: "سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يزال هذا الدين قائما حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليهم الأمة".[26] تفضي المقارنة بين هذه الروايات إلى إبداء الملاحظات التالية: أولا: إن هذه الروايات لا تتعارض على اختلاف صيغها. ثانيا: إنها تصف الدين (أو الإسلام أو أمر الناس أو الأمر) بالعزة والمنعة والظهور والصلاح في مدة خلافة هؤلاء الاثني عشر. ثالثا: إنها تُعلِّق انقضاء أمر الدين واندراس معالمه على مضي الخلفاء الاثني عشر (أو على قيام الساعة كما في الرواية الأخيرة عند مسلم). رابعا: أفادت رواية أبي داود معنى زائدا وهو: اجتماع الأمة على أولئك الخلفاء. فمن هؤلاء الخلفاء المذكورون في هذه الأحاديث؟ يُسلمنا الجواب عن هذا السؤال إلى ذكر اختلاف الفريقين في التأويل. وقفة مع التأويل لم تُثِر روايات الشيعة إشكالا في التأويل، فهم يقطعون بكونها تمثل نصا جليا على إمامة الأئمة الاثني عشر بالإسم، وأما أهل السنة فلم يؤمنوا بصحتها إطلاقا، من هنا ارتبط إشكال التأويل بروايات أهل السنة. أولا: تأويل الشيعة: ترى الشيعة أن الأحاديث التي يرويها أهل السنة في الاثني عشر أميرا تنصر مذهبهم وتؤيده، فقد قال الشيخ محمد تقي الحكيم: "والحقيقة أن هذه الأحاديث لا تقبل توجيها إلا على مذهب الإمامية في أئمتهم"،[27] ويعرفون أولئك الأئمة الاثني عشر بأسمائهم وهم[28]: 1- علي ابن أبي طالب: ولد بعد عام الفيل بثلاثين سنة وتوفي ليلة الأحد إحدى وعشرين من شهر رمضان سنة أربعين للهجرة (40 ه) وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكانت إمامته – في اعتقاد الشيعة- ثلاثين سنة وخلافته أربع سنين وتسعة أشهر. 2- الحسن بن علي بن أبي طالب: قيل ولد سنة ثلاث من الهجرة (3 ه) من شهر رمضان وتوفي في آخر صفر سنة سبع وأربعين (47 ه) وهو ابن خمس وأربعين سنة وستة أشهر، وكانت إمامته ست سنين وخمسة أشهر. 3- الحسين بن علي بن أبي طالب: استشهد في العاشر من شهر محرم سنة إحدى وستين للهجرة (61 ه) وهو ابن ست وخمسين سنة وخمسة أشهر، وكانت إمامته ست عشرة سنة وعشرة أشهر وخمسة عشر يوما. 4- علي بن الحسين زين العابدين: ولد سنة ثمان وثلاثين للهجرة (38 ه)، وتوفي سنة أربع وتسعين للهجرة (94 ه) وكانت إمامته إحدى وخمسة وخمسين سنة. 5- محمد بن علي الباقر: ولد سنة تسع وخمسين (59 ه)، وتوفي سنة أربع عشرة ومائة للهجرة (148 ه)، وكانت إمامته إحدى وعشرين سنة. 6- جعفر بن محمد الصادق: ولد سنة ثلاث وثمانية للهجرة (83 ه)، وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة (148 ه)، وكانت إمامته أربعا وثلاثين سنة. 7- موسى بن جعفر الكاظم: ولد سنة ثمان وعشرين ومائة للهجرة (128 ه)، وتوفي سنة ثلاث وثمانية ومائة (183 ه)، وكانت إمامته خمسا وثلاثين سنة وشهورا. 8- علي بن موسى الرضا: ولد سنة إحدى وخمسين ومائة (151 ه)، وتوفي سنة ثلاث ومائتين للهجرة (203 ه)، وكانت إمامته عشرين سنة وسبعة أشهر. 9- محمد بن علي الجواد: ولد سنة خمس وتسعين ومائة للهجرة (195 ه)، وتوفي سن عشرين ومائتين (220 ه)، وكانت إمامته سبع عشرة سنة. 10- علي بن محمد الهادي: ولد سنة أربع عشرة ومائتين (214 ه)، وتوفي سنة أربع وخمسين ومائتين (254 ه)، وكانت إمامته ثلاثا وثلاثين سنة وسبعة أشهر. 11- الحسن بن علي العسكري: ولد سنة اثنين وثلاثين ومائتين (232 ه)، وتوفي سنة ستين ومائتين للهجرة (260 ه)، وكانت إمامته خمس سنين وثمانية اشهر وخمسة أيام. 12- محمد بن الحسن المهدي: وهو الذي تعتقد الشيعة ولادته سنة خمس وخمسين ومائتين وغيبته الكبرى سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ورجوعه في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملأت جورا.[29] إلا أن ولادة ابن للحسن بن علي العسكري لم تكم محل إجماع من الشيعة على ما يحكيه النوبختي في "فرق الشيعة" ،فينبه على أن الشيعة تفرقت بعد وفاة الإمام الحادي عشر إلى أربع عشرة فرقة منها: - فرقة قالت إن الحسن بن علي لم يمت وإنما غاب وهو القائم ولا ولد له ظاهر - وفرقة قالت إن الحسن بن علي مات وعاش بعد موته وهو القائم ولا ولد له - وفرقة: توفي الحسن بن علي والإمام بعده أخوه جعفر - وفرقة:الإمام بعد الحسن بن علي جعفر وصية من أبيه لا من أخيه - وفرقة:الإمام بعد الحسن هو محمد بن الإمام علي الهادي،والحسن مات ولا عقب له - وفرقة قالت ولد للحسن ولد سماه محمدا وهو المهدي الذي غاب وسيظهر في آخر الزمان. الغيبة والمهدوية وترتب عن القول "بغيبة الإمام الثاني عشر" أربع قضايا: - الأولى ذات طبيعة فلسفية وكلامية مؤداها:هل الحجة تقوم بالإمام الظاهر الحي أم بالإمام الغائب. - والثانية ذات طبيعة نفسية وسلوكية لها صلة بشيوع عقلية الانتظار. - والثالثة ذات بعد فقهي وسياسي تتعلق بآلية العمل في أزمنة"الغيبة". - والرابعة ذات طبيعة غيبية واعتقادية. - فمن حيث القضية الأولى : بالرغم من أن أغلب آراء الشيعة الاثناعشرية تواطأت على القول بقيام الحجة بالإمام الغائب،فإن الطريقة التي احتج بها علي بن موسى الرضا على الواقفية يفهم منها أنه لا يقول بقيام الحجة بالإمام الغائب بل بالحي الظاهر، إذ قال:"ان الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حيّ يُعرف" و" من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية.. إمام حيّ يعرفه.. وقد قال رسول الله (ص): من مات وليس له إمام يسمع له ويطيع مات ميتة جاهلية" [30] - ومن حيث القضية الثانية فقد انتشرت عقلية الانتظار،ومن ثم انزوت مراجع التقليد بعيدا عن الاهتمام بالشأن السياسي العام، واستقالت من كل مهمة تغييرية وأرجأتها إلى ظهور "إمام الزمان" الغائب الذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملأت جورا، ولذلك لم تضع الشيعة في حساباتها "إمكانيات الوصول إلى الحكم، ولهذا كانوا يعتبرون فرصة الدولة عندهم هي فرصة دولة الإمام المهدي"،[31] وكان مرمى طرف الفقهاء إذا فسدت الأوضاع أن يتقدموا بالنصح إلى الحاكم ويحذروه مغبة التمادي في الظلم ،وظهرت عقلية الانتظار حتى في مناقشة قضايا فقهية كالخمس ومصرفه والجهاد وإقامة الجمعة،ولقد حمل الدكتور علي شريعتي مسؤولية انتشار عقلية الانتظار السلبي للدولة الصفوية، ووصف هذا الانتظار بأنه هو"الاستسلام الروحي والعملي والعقائدي للأمر الواقع والوضع السائد ،تبرير الفساد في الأرض،والنظر للأمر الواقع وكأنه قدر لا يمكن رده،إلغاء الدور المسؤول للإنسان ،اليأس من من كل إصلاح وتغيير وإدانة أي محاولة في هذا المجال بدعوى استحالتها قبل ظهور الإمام"[32] ،ودعا جماهير الشيعة للعودة إلى ما سماه" التشيع العلوي" وهو تشيع الانتظار الإيجابي،وقال في وصفه:"هو الإعداد الروحي والعملي والعقائدي من أجل الإسلام والثورة وتغيير العالم،أمل يعين على الإيمان القاطع بزوال الظلم وانتصار الحق والعدل،وسيادة الطبقة المحرومة والمستضعفة على العالم،حيث وعد الله بأن يرث المستضعفون الأرض،إنه ثقة بانتصار الجماهير والناس الصالحين الذين كرسوا أنفسهم من أجل الثورة العالمية"[33] ،وشارك شريعتي في التنبيه على مخاطر الانتظار السلبي مفكر شيعي آخر هو مهدي بازركان الذي قال:" لنسأل أنفسنا من ننتظر؟الإمام الغائب؟وما نعني بالقيام والثورة؟ومن أجل ماذا؟ (...)إن هذا الطرح لمسألة الإمام الغائب أصبح بلاء علينا نحن المسلمين في الظاهر والكسالى وطلاب الراحة في الواقع،وهذا الموقف يعني أن نترك الظالمين والغاصبين يفعلون ما يشاؤون،ويحكمون كما يريدون،دون أن نتصدى لمنعهم حتى في حالة الدفاع"[34]،وعززت هذه المراجعات والتصحيحات جهود الخميني النظرية لإنجاح الثورة. هذا الانتظار السلبي الاستسلامي عانى أهل السنة مثله قديما تحت عنوان"عقيدة الجبر" التي عمل كثير من الحكام الأمويين على نشرها والترويج لها،فإن أراد حاكم أن ينهب المال العام تعسف في إفهام المسلمين أن مالهم هو مال الله(كلمة حق يراد بها باطل) ،وإن أراد أن يعهد بولاية العهد لابنه قال لهم:"إن الله أرى أمير المومنين في ابنه رأيا حسنا " وإن عارض معارض اتهم بشق عصا الطاعة،ومفارقة الجماعة، ومعاكسة"قدر الله"،وهكذا دواليك. - ومن حيث القضية الثالثة ذات البعد الفقهي والسياسي فهي المتعلقة بآلية العمل في أزمنة"الغيبة" فقد مر بنا ذكر تسالم الشيعة على اعتزال العمل السياسي، ولقد عقد الكليني في قسم الأصول من كتاب الكافي بابا سماه: "باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام" يروي فيه عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبد الله جعفر الصادق: إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عز وجل: ﴿فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾،[35] قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الذين ينتظرون في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم"،[36] ويروي عنه أيضا لما سأله المنصور: إذا أصبحت وأمسيت لا أرى إماما أئتم به ما أصنع؟ قال: "فأحب من كنت تحب، وأبغض من كنت تبغض حتى يظهره الله عز وجل"،[37] وعن زرارة بن أعين قال: أبو عبد الله: لابد للغلام من غيبة، قلت: ولم؟ قال: يخاف... قال زرارة: فقلت: وما تأمرني لو أدركت ذلك الزمان؟ قال" أدع الله بهذا الدعاء...".[38] فغاية ما في هذا المثال لنصوص كثيرة مما يتحتم عمله عند "غيبة "الإمام الوصية: أولا: بالتفقه في الدين. ثانيا: بالثبات على التولي والتبري على المنهاج الأول الذي كانت عليه الشيعة زمن الأئمة. ثالثا: بالدعاء والتوجه إلى الله العلي القدير. وحاصل هذه الوصايا الانصراف إلى الماهيات التربوية والتعليمية فقها وإفتاء وتسليكا. ولذلك بدأ الخميني تحركه نحو الإطاحة بالشاه وتأسيس الجمهورية الإسلامية بالعمل على زحزحة جماهير الشيعة عن عقلية الانتظار والعزوف عن المشاركة في العمل السياسي، فشرع – منذ أوائل الستينات من القرن الماضي- يلقي دروسه الفقهية على طلبة علوم الدين بالنجف ،وسعى من وراء تلك الدروس إلى إثبات أن نيابة الفقهاء عن الإمام الغائب وولايتهم عامة تشمل أمور الدين والدنيا والحكم، وهذه الفكرة هي صلب نظرية "ولاية الفقيه" وهي نظرية قال عنها الإمام الخميني: "وليس الموضوع جديدا ابتدعناه وإنما المسألة بحثت من أول الأمر".[39] وهو يحيل بذلك على سابقة الشيخ الكركي(870ه - 940ه) في تناول مسألة نيابة الفقهاء العامة عن "الإمام الغائب". وبدأ الخميني أيضا قبل أن ينتقل بالنظرية إلى ميدان العمل بتشخيص سمات المرحلة التي قضاها الشيعة في انتظار الإمام الغائب فيقول: "في السابق لم نعمل ولم ننهض سوية لتشكيل حكومة تحطم الحكام الخائنين المفسدين وبعضنا قد أبدى فتورا حتى في المجال النظري"،[40] وقال: "قد مر على الغيبة الكبرى لإمامنا المهدي أكثر من ألف عام... وفي طول هذه المدة المديدة هل تبقى أحكام الإسلام معطلة؟... الذهاب إلى هذا الرأي أسوء في نظري من الاعتقاد أن الإسلام منسوخ"،[41] أما وقد بلغ الظلم مداه وأشرفت أحكام الإسلام على الاندراس فإن "النضال من اجل تشكيل الحكومة توأم الإمام بالولاية"،[42] وأمام انتفاء النص على من يخلف الإمام الغائب فإن أي شخص استجمع شرائط الأهلية للحكم – وجماعها العدالة والعلم بالقانون الإسلامي فضلا عن العقل والبلوغ وحسن التدبير- يصبح أهلا للولاية على الناس "ويلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي صلى الله عليه وسلم منهم ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا". والشاهد عند الخميني في هذا النص "أن المنصب الذي منحه الأئمة للفقهاء لا يزال محفوظا لهم، لأن الأئمة كانوا على علم بأن هذا المنصب لا يزول عن الفقهاء من بعدهم بمجرد وفاتهم".[43] واللافت للنظر أن الشيخ محمد رضا المظفر أدرج الاعتقاد بولاية الفقيه ضمن عقائد الإمامية فيقول: "وعقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط أنه نائب عن الإمام في حال غيبته وهو الحاكم والرئيس المطلق له ما للإمام في الفصل بين القضايا والحكومة بين الناس والراد عليه راد على الإمام"[44]، وأدرجها الدستور الإيراني في مادته الخامسة ونص عليها بالقول: "تكون ولاية الأمر في غيبة الإمام المهدي – عجل الله تعالى فرجه- في جمهورية إيران الإسلامية للفقيه العادل التقي العارف بالعصر والشجاع المدير والمدبر الذي تعرفه أكثرية الجماهير وتتقبل قيادته، وفي حالة عدم إحراز أي فقيه لهذه الأكثرية فإن القائد أو مجلس القيادة المركب من الفقهاء جامعي الشرائط يتحمل هذه المسؤولية".[45] والجدير بالذكر أن نظرية الولاية العامة للفقيه في زمن "الغيبة" لم تسلم من المعارضة والانتقاد، ولم تكن محل إجماع من طرف كل فقهاء الشيعة، وكان من أبرز المعارضين لها في زمن الخميني المرجع الديني آية الله شريعتمداري الذي صرح – بعد قيام الثورة- لجريدة "السفير" اللبنانية قائلا: "إن المبدأ الذي نسعى إليه هو أن يحكم الشعب نفسه، هذه الجمهورية الإسلامية لأنه لا يجوز أن يحكم فرد واحد أو طبقة واحدة"،[46] وعلى إثر صدور كتاب الإمام الخميني "الحكومة الإسلامية" صدر للشيخ محمد جواد مغنية كتاب "الخميني والدولة الإسلامية" ينتقد فيه المذهب الفقهي القائل بالولاية للفقيه في زمن الغيبة ويؤكد على أن ما أجمع عليه علماء الشيعة وورد النص بشأنه هو الولاية الخاصة التي يتولى الفقيه بموجبها "ولاية الفتوى والقضاء على الأوقاف العامة، وأموال الغائب، وفاقد الأهلية مع عدم الولاية الشخصية، وإرث من لا وارث له"،[47] ولا يرى من شرط الحكومة الإسلامية أن يتولى قيادتها الفقهاء، بل إن "أية دولة أحسنت العمل فهي مسلمة حتى ولو كان رجالها من غير الفقهاء، وإن أساءت فما هي من الإسلام في شيء حتى ولو تخرج أعضاؤها من النجف أو الأزهر".[48] وكان الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين قد قام بتقييم نظرة كثير من علماء الشيعة لمسألة الولاية العامة للفقيه فاستنتج بأنهم "لا يرون لهذه النظرية أية قيمة علمية"،[49] ونظر إلى مسألة المرجعية الدينية خارج إيران من زاوية علاقة الشيعة بمجتمعاتهم الأصلية ذات الأكثرية السنية معتبرا أن الدور الذي يعطى حاليا للمرجعية عند الشيعة " دور مبالغ فيه"،[50] ورأى في إسباغ صفة الولاية العامة على المرجع الفقيه والقول بإمكان كونه بديلا عن النظام والحكومة اتجاها غير مسلم به فقهيا عند أكثرية الفقهاء وتوسيعا لمفهوم المرجعية "بحيث أنها تكون دولة داخل المجتمع، وهذا الاتجاه خطر بصراحة"،[51] لذلك نصح الشيخ شمس الدين الشيعة أن يندمجوا في كل محيط وطني في مجتمعاتهم الوطنية أحكامهم الشرعية كسائر المسلمين يأخذونها من فقهائهم، من مرجعهم"،[52] والبديل الذي اقترحه الشيخ هو الدعوة إلى "ولاية الأمة على نفسها" عوضا عن أطروحة "الخلافة" لدى أهل السنة، وأطروحة "ولاية الفقيه" لدى الشيعة. ومهما قيل فإن" ولاية الفقيه"كآلية من آليات العمل في زمن"الغيبة" ما زالت أولا تعيش مخاض الصراع بين الفقيه والشورى وليس أدل على ذلك من الاضطرابات الداخلية التي عرفتها إيران بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة،وثانيا يمكن اعتبارها شكلا من أشكال المراجعات بالعدول عن القول بشرطي العصمة والنص في من يتصدى للإمامة الدينية أو الزمنية . وإذا كان الإمام الخميني قد انطلق من مُسَلَّمة شيعية اثنا عشرية وهي"غيبة الإمام الثاني عشر" لتسطير "ولاية الفقيه" ،آخذا بعين الاعتبار واقع استخذاء الشيعة وفتورهم وانتظاريتهم السلبية،،فإن عالما سنيا كبيرا هو الإمام الجويني قد دُفِع إلى مناقشة مسألة "خلو الزمان عن الإمام أو الخليفة " "بهواجم المحن والفتن"،[53] إذ "عَمَّ من الولاة جورها واشتطاطها ،وزال تَصَوُّن العلماء واحتياطها، وظهر ارتباكها في جراثيم الحطام واختباطها ،وانسلَّ عن لِجام التقوى رؤوس الملة وأوساطها ،وكثر انتماء القراء إلى الظلمة واختلاطها ،فهل ينظرون إلا الساعة ان تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها"[54]. فافترض خلو الزمان عن الإمام/الخليفة لا لغيبته ولكن لعدم استجماعه لشرائط الخلافة الكاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. الإمام الجويني: خلو الزمان عن الإمام عرض الإمام الجويني لمسألة انتفاء وجود الإمام المستجمع لشرائط الولاية والحكم والسياسة في كتابه "غياث الأمم في التياث الظلم" فقال وحُقَّ له ذلك: "ونأتي بالعجب العجاب إن شاء الله عز وجل"،[55] ، وبمنهج التوقعات المستقبلية أدار الكتاب على ثلاثة أركان: الركن الأول: القول في الإمامة وما يليق بها، وهذا الركن خادم للذين يليانه وهو لهما بمثابة الممهدات، قال إمام الحرمين: "إن هذا المجموع مطلوبه أمران: أحدهما: ببيان أحكام الله عند خلو الزمن عن الأئمة، والثاني: إيضاح المتعلق بالعباد عند عرو البلاد عن المفتين المستجمعين لشرائط الاجتهاد".[56] الركن الثاني: في تقدير خلو الزمان عن الأئمة وولاة الأمر، ويقع في ثلاثة أبواب: الباب الأول: في تصور انخرام الصفات المرعية جملة أو تفصيلا،[57] ومثل لانخرام بعض الصفات بشرطي النسب والاجتهاد، ووجه اشتراط النسب ليس غير "تشريف شجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ لا يتوقف شيء من مقاصد الإمامة على الاعتزاء إلى نسب والانتماء إلى حسب"،[58] أما إذا انخرم شرط الاجتهاد فالمقدم عندئذ المتصف بالنجدة والشهامة والكفاية في إدارة أمور الناس إذ "الاستقلال بالنجدة والشهامة من غير المتصف أولى بالاعتبار والاختيار من العلم من غير نجدة وكفاية... وإذا عدمنا كافيا فقد فقدنا من يؤثر نصبه واليا ويتحقق عند ذلك شغور الزمان عن الولاة"،[59] وكأن الجويني يميز بين الأئمة والولاة. فالأئمة من زادوا على صفات الكفاية والكفاءة في إدارة شؤون الناس صفات العلم والاجتهاد ، والولاة من حصلوا شروط النجدة والكفاية ولم يحصلوا شروط العلم والاجتهاد . الباب الثاني: في استيلاء مستول ظاهر بطول شوكة وصولة فإذا كان "المستولي صالحا للإمامة فإن تصور توحد كاف الدهر لا يبارى شهامة ولا يجارى صرامة ولم نعلم مستقلا بالرئاسة العامة غيره فيتعين نصبه"،[60] ويجب عليه ألا يقطع أمرا دون مراجعة العلماء إذ "هم على الحقيقة أصحاب الأمر استحقاقا، وذوو النجدة مأمورون بارتسام مراسمهم واقتصاص أوامرهم. فعالم الزمان في المقصود الذي نحاوله والغرض الذي نزاوله كنبي الزمان، والسلطان مع العالم كلمك في زمن نبي"،[61] الباب الثالث: في شغور الدهر جملة عن وال بنفسه أو متول بتولية غيره، فخلو الزمان عن الأئمة والولاة يحتم على الناس أن يفزعوا إلى علمائهم، فإن صعب جمعهم على واحد وكثروا في جهة من الجهات فالوجه اتباع أعلمهم، فإن استووا في العلم اتفقوا على تقديم واحد منهم، فإن تنازعوا اختلافا يخشى معه الخصومة والفُرقة فالمتعين حينئذ اللجوء إلى الإقراع بينهم.[62] وتصور في الركن الثالث من الكتاب انقراض حملة الشريعة على أربع مراتب: المرتبة الأولى: "اشتمال الزمان على المفتين، فذكر الصفات المرعية في المفتين ليتمهد ببيانها القول في عرو الزمان عنهم".[63] المرتبة الثانية: "إذا خلا الزمان عن المفتين البالغين مبلغ المجتهدين، ولكن لم يَعرُ عن نَقَلة المذاهب الصحيحة عن الأئمة الماضين"[64] فهم الأولى بالاتباع من المستفتين. المرتبة الثالثة: إذا خلا الزمان عن المفتين وعن نقلة مذاهب الأئمة الماضين، وهذا لا يحمل على اعتقاد "خلو الدهر عن المراسم الكلية أو عروه عن حفظ القواعد الشرعية وإنما يعتاص التفاصيل والتقاسيم والتفريع ولا يجد المستفتي من يَنُص على حكم الله في الواقعة على التعيين"،[65] وهذه المرتبة والتي قبلها نادرتا الوقوع والحدوث – في رأي الجويني-.[66] المرتبة الرابعة: خلو الزمان من أصول الشريعة "ومضمون هذه المرتبة تقدير دروس أصول الشريعة... وعلى هذا التدريج تبدأ الأمور الدينية والدنيوية وتزيد حتى تبلع المنتهى، ثم تنحط وتندرس حتى تنقضي وتنصرم كأن لم تعهد"،[67] ويؤذن بلوغ هذه المرتبة "بانقضاء التكاليف عن العباد والتحاق أحوالهم بأحوال من لم تبلغهم دعوة ولم تُنَط بهم شريعة".[68] وهكذا يمضي الإمام الجويني في افتراضاته وتقديراته إلى أقصى حد، بداء بخلو الزمان عن الإمام المستجمع للشرائط الكاملة إلى اندراس أصول الشريعة جملة، وظهر من الكتاب رأيه في المتعين عمله عند فقد الإمام، وربط ذلك وقيده بخصائص كل مرحلة من المراحل التي افترضها: المرحلة الأولى: تصور فيها خلو العصر عن الإمام الحائز على الصفات المرعية والمستجمع لشرائط الخلافة الكاملة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. المرحلة الثانية: تصور انخرام إحدى الصفات المشترطة في الإمام، فأوكل الأمر إلى من حاز شروط النجدة والكفاية وتدبير شؤون الناس ونصبه أهل الحل والعقد. المرحلة الثالثة: تصور استيلاء مستول على الأمر بالتغلب وكان أهلا، فيتعين - حسبه- الخضوع لحكمه والواجب في حقه مراجعة العلماء في ما يأتي ويذر. المرحلة الرابعة: تصور شغور الزمان عن الأئمة والولاة فوكل الأمور إلى العلماء. المرحلة الخامسة: تصور انتفاء وجود المجتهدين المستقلين بالاجتهاد مع وجود نقلة المذاهب. المرحلة السادسة: تصور انتفاء وجود المجتهدين المستقلين ونقلة المذاهب. المرحلة السابعة: تصور اندراس أصول الشريعة وانقطاع التكليف. وأنزل الجويني حَبس الإمام منزلة انتفاء وجوده فقال:" إذا أُسِر الإمام وحُبِس في المطامير وبَعُد توقَّع خَلاصِه وخلت ديار الإسلام عن الإمام فلا سبيل إلى ترك الخطط شاغرة ،ووجود الإمام المأسور في المطامير لا يُغني ولا يَسُد مَسدّا فلا نجد والحالة هذه من نَصبِ إمام بُدّ"[69] (لنستحضِر هنا للمقارنة مسألة الغيبة في السرداب)،وأنزل انتشار عصيان الإمام- وإن لم يظهر منه مايستوجب العصيان- منزلة أسره وانتفاء وجوده أيضا "لو سقطت طاعة الإمام فينا وَرَثَت شوكته ووَهَنت عُدَّته ووَهَت مِنَّتُه ونفرت منه القلوب من غير سبب فيه يقتضيه ،وكان في ذلك على فكر ثاقب ورأي صائب، لا يؤتى في ذلك عن خلل في عقل أو عَتَه أو خَبَل، أو زلل في قول أو فعل، أو تَقاعُد عن نيل وفضل ،ولكن خذله الأنصار ولم تواته الأقدار بعد تَقدُّم العهد إليه وصحيح الاختيار، ولم نجد لهذه الحالة مُستدركا ،ولا في تثبيت منصب الإمامة له مُتمسَّكا، وقد يقع مثل ذلك عن ملل أنتجه طول مَهَل، وتراخي أجل، فإذا اتفق ذلك فقد حيل بين المسلمين وبين وزير يستقل بالأمر فالوجه نصب إمام يطاع، ولو بذل الإمام المُحقَّق أقصى ما يُستطاع، وينزل هذا منزلة ما لو أُسِر الإمام وانقطع نظره عن الأنام وأهل الإسلام ولا يصل إلى مظان الحاجات أثر رأي الإمام إذا لم يكن يده الطولى ولم يبسط طاعته على خطة الإسلام عرضا وطولا"[70] وهكذا إذا لم يَبدُ من الإمام الصالح في نفسه ما يُقتدر به على مقاصد الإمامة من ضمان الأمن والاستقرار،وتحصيل الحد الأدنى من إجماع الناس حوله،وحيازة آليات التنفيذ أي أن يكون مبسوط اليد،والتَّحوُّط لكل ذلك بضرورة تحديد مُدَّة الحكم حتى لا يظهر العصيان التي يَنتُج عن"طول مَهَل وتراخي أجل"،ونُضِيف لكل ذلك شرط "مأسسة الإمامة". يظهر أثر فَقد الإمام المستجمع للشرائط في الجانبين السياسي والتشريعي أكثر منه في أية جوانب أخرى ، فالشيعة رتَّبت على غيابه مجموعة من الأحكام الفقهية ، أما أهل السنة فاختلفوا في مضمار الفقه السياسي بعد الانقلاب النبوي على الخلافة الراشدة،[71] بين قائل بالطاعة المطلقة وقائل بالطاعة المقيدة،وأيا كان المعنى الذي يعطيه كل فريق لمسألة انتفاء وجود الإمام فمما لاشك فيه أن جذر الأخوة والولاية بين أهل القبلة قد أصيب بثلمة كبيرة لم تنجبر لحد الآن. - ومن حيث القضية الرابعة ذات الطبيعة الغيبية والاعتقادية،فمرتبطة بالجدل حول مسألة المهدي المنتظر. فمن أحاديث المهدي التي يرويها أهل السنة: - عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لو لم يبق من الدهر الا يوم لبعث الله رجلا من اهل بيتي يملا الارض عدلا كما ملئت جورا ) اخرجه ابو داود واحمد وابن ابي شيبة - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تذهب او لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من اهل بيتي يواطئ اسمه اسمي ) رواه ابو داود والترمذي واحمد - وعن عبد الله قال : قال رسول اله صلى الله عليه وسلم ( يلي رجل من اهل بيتي يواطئ اسمه اسمي ) رواه الترمذي واحمد - وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لو لم يبق من الدنيا الا ليلة لملك رجل من اهل بيتي يواطئ اسمه اسمي ) رواه الطبراني وابن حبان . - وعن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يلي امر هذه الامة في آخر زمانها رجل من اهل بيتي يواطئ اسمه اسمي ) رواه الطبراني وابو نعيم و - الحديث الذي رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين:"لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلما وجورا وعدوانا،ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأها قسطا وعدلا،كما ملئت ظلما وجورا وعدوانا " والقدر المشترك والمتفق عليه بين أهل السنة والشيعة بشأن مسألة المهدي ،هو:المهدي سيظهر في آخر الزمان،وهو من أهل البيت،ورسالته هي نشر العدل ومحو الظلم،والأحاديث حول ظهوره تبلغ حد التواتر عند أهل السنة،ولعل أشهر من ضعف منهم أحاديث المهدي هو العلامة المؤرخ ابن خلدون،ورد عليه جم غفير من العلماء، والاعتقاد بولادته وغيبته وظهوره هو من ضروريات مذهب الشيعة الاثني عشرية،ولا يعتقد أهل السنة بولادته حتى يومنوا بغيبته،بل يعتقدون بأن ولادته وظهوره سيكونان في آخر الزمان . ولقد رام العلامة الدكتور يوسف القرضاوي قطع مادة الجدال حول قضية المهدي بقوله:" ومن المبشرات المشهورة في السنة : الأحاديث التي جاءت في شأن ظهور المهدي،والصحيح الذي لا اعتراض عليه،ولا ينبغي أن يخالف فيه مخالف،أن هناك حاكما مسلما ملتزما بالإسلام،سيظهر بعد عهود وجور وفساد،يقيم دين الله في الأرض،ويملأها عدلا،كما ملئت ظلما وجورا،وأما الخلاف فهو في نسبه واسمه وشكله وصورته ووقت ظهوره،وهذا لايهمنا،إنما الذي يهمنا هو الفكرة نفسها وهي مسلمة،وهو إحدى البشائر النبوية"[72] ولقد ادعى المهدوية عدد غير قليل من الناس في مراحل مختلفة من تاريخنا الإسلامي،ذلك الادعاء اتخذه البعض ذريعة لاعتبار المهدوية دخيلة على الاعتقاد الإسلامي،منهم الشيخ طه جابر العلواني،الذي يعتقد أن فكرة المهدوية هي نفسها فكرة المخلص المعروفة في النصرانية وقد تسربت إلى الأمة الإسلامية من خلال التفاسير،ويتساءل ما الجدوى من نزول المسيح أو ظهور المهدي مع ختم النبوة واكتمال الدين،والذي يظهر أن لدى الشيخ العلواني خللا منهجيا : - فهو أولا يحتج بعدم إخراج الشيخين لأحاديث المهدي،والمعروف أن البخاري مثلا لم يقل أنه استوعب في صحيحه جميع الأحاديث الصحيحة - ثانيا: لا تناقض بين ختم النبوة والمهدوية،لأن المهدي لن يأتي بدين جديد،هو بشر عادي سيقيم العدل وينتصر للحق والمستضعفين. - ثالثا:لن يكون ظهوره بضربة سحرية ،بل ببناء تراكمي قوامه الوفاء للإسلام وتمثل أخلاقه وقيمه ،والإخلاص في السر والعلن لله رب العالمين،والاتباع الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم،وإرجاع الأمة إلى مقام الريادة والقيادة في العالم،بعد ذلك سَمِّ من وَفَّى بهذه الشروط خليفة أو إماما أو رئيسا ما دام متلبسا بوصف الهداية: مهدي للحق وهاد للخلق. ثانيا: تأويلات أهل السنة اختلفت آراء علماء أهل السنة في تعيين الخلفاء المذكورين في الأحاديث السالفة، وأنقل فيما يلي نماذج من ذلك الاختلاف منبها في الأخير على ما يحل الإشكال بحول الله وقوته. 1- أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي (195 ه277 ه). يقول: "إن المصطفى – صلى الله عليه وسلم - قبضه الله إلى جنته (...) واستخلف أبو بكر الصديق، ثم استخلف عمر بن الخطاب، ثم استخلف عثمان بن عفان (...) ثم استخلف علي بن أبي طالب (...) فلما قتل بايع أهل الكوفة الحسن بن علي، وسلم الحسن الأمر إلى معاوية، ثم ولي يزيد ثم ابنه معاوية (...) ثم بايع أهل الشام مروان بن الحكم، وبايع أهل الحجاز عبد الله بن الزبير فاستوى الأمر لمروان (...) ثم بايع أهل الشام عبد الملك بن مروان (...) ثم بايع أهل الشام الوليد ابنه (...) ثم بويع سليمان بن عبد الملك أخوه لأبيه وأمه (...) ثم بايع الناس عمر بن عبد العزيز في اليوم الذي مات فيه سليمان وهو آخر الخلفاء الاثني عشر الذين خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بهم"،[73] فحاصل قوله أن الخلفاء الاثني عشر المذكورين في الحديث قد انقضت خلافتهم وهم: الخلفاء الأربعة، ومعاوية، ويزيد بن معاوية، ومعاوية بن زيد، ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك،وسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز. 2- عماد الدين بن كثير (700 ه- 774 ه): بضم ما ذكره في التفسير،[74] وما ذكره في التاريخ،[75] فالمعين عنده من الخلفاء الاثني عشر ثمانية وهم: الخلفاء الراشدون الأربعة، والحسن، ومعاوية، وعمر بن عبد العزيز، ومهدي آخر الزمان " ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايته لا محالة"[76] وتكتمل العدة. 3- ابن حجر العسقلاني (773 ه- 852 ه) قال: "وإيضاح ذلك أن المراد بالاجتماع انقيادهم لبيعته، والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي إلى أن وقع أمر الحكمين في صفين، فسمي معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن، ثم اجتمعوا على ولده يزيد (...) ثم لما مات يزيد وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة: الوليد ثم يزيد ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، اجتمع الناس عليه لما مات عمه هشام، فولي نحو أربع سنين ثم قاموا عليه فقتلوه، وانتشرت الفتن، وتغيرت الأحوال من يومئذ، ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك".[77] المعدودون من الخلفاء عند ابن حجر هم: الخلفاء الراشدون الأربعة، ومعاوية، ويزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان، وأولاده الأربعة، الوليد و سليمان ويزيد وهشام، والوليد بن يزيد بن عبد الملك، فيخرج عمر بن عبد العزيز لقصر مدة خلافته (!). 4- جلال الدين السيوطي (849 ه- 911ه):[78] قال: "وعلى هذا فقد وجد من الاثني عشر خليفة: الخلفاء الراشدون الأربعة، والحسن، ومعاوية، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، ويتحمل أن يضم إليهم المهتدي من العباسيين لأنه كان فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، وكذلك الظاهر لما أوتيه من العدل، وبقي الاثنان المنتظران: أحدهما المهدي لأنه من آل بيت محمد – صلى الله عليه وسلم -".[79] 5- شاه ولي الله الدهلوي (1114 ه- 1180 ه):[80] قال: "فالتحقيق في هذه المسألة أن يعتبروا بمعاوية، وعبد الملك وينبه الأربع، وعمر بن عبد العزيز، والوليد بن يزيد بن عبد الملك بعد الخلفاء الراشدين.[81] وذكر الحافظ المنذري (581 ه- 656 ه)[82] أقوالا أخرى – لم يسم أصحابها- فقال: "قيل: أشار رسول الله – صلى الله عليه وسلم - على ما يكون بعده وبعد أصحابه، لأن حكم أصحابه مرتبط بحكمه، وأشار بذلك إلى مدة ولاية بني أمية، ويكون المراد بالدين الولاية والملك إلى أن يذهب اثنا عشر خليفة، ثم تنتقل الإمارة، وهذا على شرح الحال في استقامة السلطنة لا على طريق المدح، فأولهم يزيد بن معاوية ثم ابنه معاوية بن زيد، ثم عبد الملك، ثم الوليد، ثم سليمان، ثم يزيد بن الوليد، ثم إبراهيم بن محمد، ثم محمد بن محمد، وقيل: هذا إنما يكون بعد خروج المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، وقيل: أراد بوجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الخلافة إلى يوم القيامة، يعملون بالصواب وإن لم تتوال أيامهم، فقد يكون الرجل منصفا وياتي بعده من يجور (...) وأراد عليه الصلاة والسلام أن يخبرنا بأعاجيب ما يكون بعده من الفتن حتى يفترق الناس في وقت واحد على اثني عشر أميرا، وما زاد على الاثني عشر فهو زيادة في التعجب، والله – عز وجل- أعلم".[83] ولي جملة ملاحظات على هذه النفسيرات والتأويلات منها : أولا: من هذه التفسيرات من ذهب أصحابها إلى القول بانقضاء خلافة الاثني عشر كلهم (أبو حاتم وابن حجر وولي الله الدهلوي)، ومنها من ذهب أصحابها إلى القول بانقضاء خلافة البعض فقط والبعض الآخر خلافتهم منتظرة (ابن كثير، السيوطي). ثانيا: يرجع أحد الأسباب المهمة في اختلاف علماء أهل السنة في أسماء المعدودين إلى اختلافهم في وجوه استحقاق الدخول في العدة: - فهم الذين يكون أمر الدين عزيزا في أيامهم على قول.[84] - هم الذين تجتمع عليهم الأمة وتنقاد لبيعتهم على قول ثان.[85] - هم الذين أحرزوا صفة العدل على قول ثالث.[86] ثالثا: إن حل إشكال اختلاف التأويلات وتضاربها يأتي – في ظني- لمن أجال النظر في المسألة من ثلاث جهات: الأولى: الإخبار النبوي بانتقاض عروة الحكم في وقت مبكر من تاريخ الإسلام. الثانية: الإخبار النبوي بمدة الخلافة وعدد الخلفاء. الثالثة: الإخبار النبوي بصلاح أمر الأمة في آخر الزمان، بعد جريان الفساد عليه في مراحل مختلفة من التاريخ. فأما من الجهة الأولى: "فيروي ابن حبان عن أبي أمامة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبت الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة"،[87] ويصور حديث آخر عند الإمام أحمد ما آل إليه نقض عروة الحكم، فيروي عن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه- قال: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"[88] ثم سكت. وأما الجهة الثانية: فيروي الإمام أحمد عن سفينة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملكا بعد ذلك، قال سفينة: أمسك: خلافة أبي بكر وخلافة عمر وعثمان، وامسك خلافة علي – رضي الله عنهم- قال: فوجدناها ثلاثين سنة"،[89] وهذا الحديث استشكل البعض معارضته لحديث الاثني عشر خليفة من وجهين: أحدهما: لم يكن في مدة الثلاثين سنة إلا الخلفاء الأربعة والأشهر التي بويع فيها الحسن بن علي. ثانيهما: إنه قد ولي في التاريخ أكثر من اثني عشر خليفة. وقد ذكر الإمام النووي ما أجيب به عن الوجه الأول فقال: "فأجيب عن الأول بأن المراد بالأول (حديث سفينة) خلافة النبوة،[90] والمراد بالثاني (حديث الاثني عشر خليفة) أنه لم يقل لا يلي إلا اثنا عشر خليفة، ويحتمل أن يكون المراد مستحقوا الخلافة العادلين"،[91] وأجاب ابن قيم (691 ه- 751 ه)[92] عن الوجه الثاني فقال: "وأما الخلفاء الاثنا عشر فلم يقل في خلافتهم: إنها خلافة نبوة، ولكن أطلق عليهم اسم الخلفاء وهو مشترك"،[93] وقريب من هذا الجواب قول أبي حاتم: "ولكن معنى الخبر عندنا أن من بعد ثلاثين سنة يجوز أن يقال لهم خلفاء أيضا على سبيل الاضطرار وإن كانوا ملوكا على الحقيقة".[94] والذي يبدو لي – والله أعلم- أن الذي يقيم التعارض بين حديث سفينة – الذي لا ينطبق إلا على الخلفاء الراشدين الأربعة- وحديث الاثني عشر خليفة هو من يعتقد أن خلافة هؤلاء الاثني عشر قد مضت وانقضت، لذلك تجده يضيف إلى الخلفاء الأربعة ملوكا من بني أمية وبني العباس ويسميهم "خلفاء". وأما الجهة الثالثة فهي المتعلقة بصلاح أمر الأمة في الأخير،وبالنظر إلى المسألة من هذه الجهة ينحل الإشكال، ففي آخر حديث حذيفة "ثم تكون الخلافة على منهاج النبوة"،[95] فهذه الخلافة هي الثانية بعد الخلافة الأولى للأربعة الراشدين، وأثناءها ستكتمل عدة الخلفاء الاثني عشر، فيكون بذلك عدة خلفاء الخلافة الأولى أربعة، وعدة الخلافة الثانية ثمانية رأسُهم ورئيسهم المهدي . بسبب مشاكل تقنية يتعذر علينا وضع هوامش المقالة . نعتذر للكاتب ولزوار الموقع الذين ندعوهم بالنقر هنا لتحميل نسخة "وورد" من مقال الدكتور زقاقي وهي كاملة ومتضمنة لهوامش المقالة