رجال صدقوا ما عاهدوا الله والشعب عليه، منهم من لقي ربه ومنهم من ينتظر. أسماء دوى صداها في أرجاء المدينة الحمراء وخارجها وشمخوا شموخ صومعة «الكتبية» أو أكثر، وبصموا بأناملهم وكتبهم تاريخا ظل عصيا على المحو. لكن فئة قليلة من الجيل الحالي من تعرفهم أو تعرف إنجازاتهم. غير أن الذين عاصروهم أو الذين تتلمذوا على أيديهم يعتبرون أن هذا الرعيل صنع ما لم يصنعه أحد ممن سبقوهم كل في تخصصه. «المساء» نبشت في ذكرياتهم في مراكش وخارجها، وجالست من بقي منهم على قيد الحياة، واستمعت إلى تلامذتهم، الذين لا زالوا يعيشون جمالية تلك اللحظات التي لازالت منقوشة في أذهانهم وقلوبهم. ما زال المراكشيون إلى حد الآن يتذكرون أحمد بلقرشي المشهور ب«الشاوي»، حارس مرمى فريق الكوكب المراكشي والمنتخب الوطني في السبعينيات، إذ كلما أمتعهم حارس مرمى بارتماءة جميلة أو قفزة محكمة أو شاهدوا لقطة من اللقطات البارعة للحراس رددوا عبارة: «فين أيامك آلشاوي». سجل الشاوي حضوره كظاهرة وموهبة في حراسة مرمى كرة القدم منذ طفولته بالمدرسة الابتدائية «القنارية»، وبحي «درب ضباشي»، لدرجة أنه كان يلعب أكثر من مباراة في اليوم الواحد مع فرق متعددة أحيانا تكبره سنا، مما جعله حديث عشاق كرة القدم المراكشية. إلا أن ذلك أثر بالمقابل على مساره الدراسي، حيث كان يتغيب باستمرار عن حصصه الدراسية كلما دعي إلى مباراة، فكان يدع محفظته لدى بقال الحي ويذهب لممارسة هوايته المفضلة. وفي سنة1960 ترك بلقرشي الدراسة وهو في قسم «الملاحظة» المؤهل للإعدادي، وقرر التفرغ للكرة المستديرة. إن لم تأت بالقلم ستأتي بالقدم يتذكر الشاوي بهذا الخصوص أن أستاذه الشرايبي نصحه بإكمال دراسته، والموازنة بين العلم والرياضة، لكونه كان يتمتع بذكاء وتركيز شديدين في الدراسة، كما كانت له أيضا موهبة خارقة في حراسة المرمى. إلا أن الشاوي رد عليه قائلا: «إن لم تأت بالقلم ستأتي بالقدم». كان الشاوي يذكر أستاذه بعد ذلك بهذه المقولة عندما كان يلتقيه في أحد الأبناك، الذي كان الأستاذ أحد زبائنه، فيما كان الشاوي موظفا فيه. في سنة 1966، نجح كل من لاعبي الكوكب المراكشي السردي، والقزويني، وبومليحة في إقناع الشاوي بحضور حصة تجريبية مع فتيان الفريق، استطاع خلالها نيل ثقة كريمو، الذي كان لاعبا ومدربا بالفريق المراكشي، حيث تفوق على 13 حارسا حضروا الحصة، فأصبح بذلك الحارس الرسمي لفتيان الكوكب المراكشي، الذين لم يقض معهم أكثر من موسم، حتى نودي عليه لفئة الشبان، حيث وجد منفذا للإشعاع الوطني والدولي، إذ اختير حارسا للمنتخب الوطني للشبان والأمل سنة 1969، وفاز مع هذا الأخير بدوري فرنسا سنة 1972، إلى جانب كل من بتي عمر، والظلمي، وامحمد، وبابا، ولعلو، وجبارة، وعبد الحنين كحيلي، ولشهب (سفير المغرب بروسيا حاليا)، وهي المناسبة التي قررت فيها الفيفا إجراء بطولة كأس العالم للشبان.الكوكب المراكشي أو لاشيء تألق الشاوي بدوري فرنسا، الذي توج خلاله كأحسن حارس، إلى جانب اللاعب بتي، مما فتح أمامه مجموعة من العروض الاحترافية من قبل لوهافر، وفريق مارسيليا، الذي كان يلعب به البرازيليان سيزار وجرفينيو، ثم الفريق الثالث لميونيخ الألماني، والفريق الثاني لأوتريخت الهولندي، إضافة إلى فريق تموشنت الجزائري. عروض وصفها «سيدي احمد»، كما يناديه زملاؤه، بالمغرية، إلا أنه رمى بذلك وراء ظهره، وعاد إلى مدينة البهجة مشحونا بحنين جارف لوالديه، وأصدقائه، ولساحة جامع الفنا، وحدائق «الكتبية»، قبل أن يعلق على إضاعته مثل هذه الفرصة: «ما كان عقل». رفض أحمد بلقرشي قبل ذلك اللعب لغير الكوكب، بعد عروض كل من الرجاء والوداد البيضاويين، والجيش الملكي، والمغرب التطواني، وحسنية ورجاء أكادير، وهو تعصبُ جر على الشاوي غضبة بعض مسيري الرجاء والوداد والجيش بالخصوص، الذين يقول الشاوي انتقلوا من صيغة الإغراء المالي إلى صيغة المساومة بانتقاله إلى أحد هذه الأندية مقابل المناداة عليه للمنتخب الوطني. وأوضح الشاوي أن رفضه الاحتراف نتج عن صورة سوداء قاتمة شكلها في ذهنه المسيرون والمقربون من كون بلاد المهجر غير آمنة والصراع المغربي الجزائري في أوجه. أما الانتقال إلى فريق وطني آخر فقد اعتبره الشاوي خيانة لجمهور متعلق به. ويذكر الشاوي أن مسيري الرجاء البيضاوي استدرجوه مرة إلى مدينة الدارالبيضاء حيث استضافه المرحوم عبد اللطيف السملالي للمبيت بمنزله مع وضع حراسة مشددة عليه في الطريق أو المطعم، حتى لا يسرقه المراكشيون، لدرجة أنه كلما كان الحراس يشاهدون شخصا يرتدي طاقية أو ذا سحنة مراكشية كانوا يلازمونه. لكن إلحاح الجمهور المراكشي، الذي طالب بتدخل الأمير المرحوم مولاي عبد الله، أعاد الشاوي إلى فريق الكوكب المراكشي. الهروب من المستشفى كان الشاوي يقاس بقيمة نصف الفريق آنذاك، وباعتراف اللاعبين من جيله، الذين ساندوه في مطالبته مكتب الحاج ميلود، رئيس الفريق، بثلاثة ملايين سنتيم كمنحة توقيع بداية الموسم، رغم كونهم لا يتقاضون نصفها. كما كان اللاعبون، خاصة المسيرين، لايحتملون غياب الشاوي عن التشكيلة الرسمية للفريق، ولو كان مصابا. وهنا يتذكر الشاوي إحدى طرائف مساره الكروي، وهو يخوض لقاء ضد فريق الجيش الملكي، لقاء وعدهم الوزير عبد الله غرنيط بتشغيل العاطلين إذا حققوا الفوز، حيث ارتمى الشاوي على كرة من تسديدة محكمة لباموس ليسقط خطأ ويصاب بكسر مزدوج في فكه السفلي. والغريب أن لاعبي الكوكب المراكشي رفضوا من لاعبي وطاقم الجيش الملكي حتى الاقتراب منه للإطمئنان عليه، مرتابين، يقول الشاوي، من الغواية. والأغرب منه هو إقحامه أساسيا بعد أسبوع واحد على إجراء عملية في فكه، لدرجة أن الشاوي كان يتواصل مع مدافعيه بالتصفيق والحركات. ويسرد الشاوي وهو يضحك عملية هروبه من المستشفى العسكري بالرباط عقب إجرائه العملية، وامتطائه القطار المتوجه إلى مراكش، حيث صادف وصوله مباشرة وصول الحاج ميلود والعمراني اللذين ساقاه إلى القاعدة العسكرية، التي يقيم بها الفريق برئاسة الكولونيل بامعروف، ليلعب اللقاء القادم ضد فريق سيدي قاسم. ويؤكد الشاوي أن لاعبي سيدي قاسم، بقيادة المهاجم عزيز العمري، كانوا يتجنبون الاحتكاك به رأفة به. ومرة أخرى، يقول الشاوي، سرقه المسيرون من مصحة بمراكش منتصف الليل ليلعب أمام رجاء بني ملال. مشوار مغبون كل هذه التضحية والنجومية والوفاء ما شفعت للشاوي كي يخرج، بعد مسار 19 سنة كحارس رسمي بالكوكب المراكشي، بتتويج وطني أو دولي، حتى أن البعض يقول إنه جاء قبل وقته، باستثناء كأس دوري فرنسا، وبلوغ الدور الثاني لأولمبياد ميونيخ بألمانيا. كما أنه لم يكن من محظوظي «الكريمات»، التي لم يكن يسعى إليها. ويقول بلقرشي إنه لو بقي المسيرون القدامى بالكوكب المراكشي لكان الوضع أحسن، مضيفا أن من تعاقبوا على الكوكب المراكشي منشغلون بأحوالهم وأحوال الفريق اليومية فقط . ما زال أحمد الشاوي مرتبطا بملاعب كرة القدم حتى اليوم، لكن من زاوية مؤطر حراس مرمى الفئات الشابة للكوكب المراكشي، وهي المهمة التي تلقى بشأنها تكوينا، اعتبره ضروريا لصقل المواهب، مؤكدا على الموهبة أولا في حراسة المرمى، قبل الصقل. وهو يبرر قلة حراس المرمى بالمغرب لافتقارهم إلى الموهبة، والعمل على صنع الحارس. وقد أشاد أحد المؤطرين الأجانب بالشاوي في محفل رسمي بعد حضوره إحدى حصصه التدريبية مع الفتيان، قائلا: «إن ما جاء به نظريا يفعله الشاوي تطبيقيا». اشتغل الشاوي، ذو المستوى الابتدائي، مصرفيا بمراكش منذ1974.وهي كل ما فاز به في مشواره الرياضي، حيث تدخل أحد مرافقي المنتخب الوطني بعد رحلة بالكامرون ليشغله بإحدى الوكالات البنكية بمراكش، التي كادت تقيله جراء رفضه الانتقال إلى مدينة الدارالبيضاء لأجل التكوين، حيث كان قد عاد لممارسة الجزارة بدكان والده بالحي، الذي يسكنه، لولا استعطاف زملائه والمحبين.