تأتي الدراسة التي أنجزها عمر السمولي، الباحث المتخصص في علم الشيخوخة ومدير منتدى الشيخوخة للهجرات بفرنسا، تحت عنوان «تقاعد وشيخوخة المهاجرين بفرنسا» لتسد الفراغ الذي تعرفه الدراسات السوسيولوجية أو الأنثروبولوجية أو النفسية عن الأوضاع الرديئة لهذه الشريحة من المهاجرين، على الأقل في الشطر الذي يهم الشيوخ من المتقاعدين المغاربة، حيث وضع الإطار والشروط العلمية والأخلاقية لمباشرة البحث في الهجرة. لما سلطت بعض الصحف الفرنسية الضوء على الأوضاع المأساوية التي يعيشها المهاجرون المسنون «علبتهم» بسرعة داخل عبارة «الشيباني». والكلمة مشتقة من الشيب عكس الشباب، أي المغاربيين الذين علا الشيب رؤوسهم ويمكن التعرف عليهم بملازمتهم الدائمة للمقاعد العمومية داخل الحدائق. وقد ساير الإعلام طبعا العبارة التي يستعملها الجزائريون، وهي عبارة تنم عن شيء من الحنان للحديث عن هذه الفئة التي تعيش في أقاصي العزلة بعدما أفنت شبابها في حفر الأوتوسطرادات الفرنسية، نبش المناجم، وتركيب السيارات بداخل مصانع وحشية. دون الحديث عن مشاركة بعضهم في تحرير فرنسا من المحتل النازي قبل أن تجندهم بعد الحرب في الحقول أو المعامل أو الاوراش المترامية تحت البرد والصقيع. وبحصولهم على التقاعد وجدوا أنفسهم أسرى غرف لا تتجاوز مساحتها 7 أمتار. لم يتعلموا اللغة الفرنسية ولا تأقلموا يوما مع مناخ البلد الذي يعيشون فيه كأشباح. منهم من جرب العودة إلى البلد، لكن «حنين الغربة» ما لبث أن تمكن منهم، فعادوا ليس إلى أوطانهم، بل إلى أوكارهم الرطبة. لكنهم كانوا ولا يزالون دوما ضحية إهمال وتعسفات مستمرة. وفي العام الماضي خرجت عدة أقسام إدارية وهيئات حكومية فرنسية، من بينها صندوق الضمان العائلي، لتشد الخناق على هؤلاء المتقاعدين. ففي مدينة بيربينيون، جنوبفرنسا، رفع صندوق الضمان الاجتماعي دعوى قضائية ضد ثلاثة مغاربة بتهمة الاستفادة غير المشروعة من المساعدات. وينص القانون على أن يقيم المتقاعد لمدة ستة أشهر في فرنسا للحصول على هذه المساعدات. لكن هؤلاء المتقاعدين بقوا بالمغرب لأسباب عائلية، حيث استحال عليهم إنجاز التجمع العائلي. وقد تواطأت السلطات المغربية مع السلطات الفرنسية بتسليمها شهادات تثبت تاريخ دخولهم للمغرب. وهذه الشهادات كانت بمثابة طعنة خنجر في صدور هؤلاء المسنين. وقد حكمت المحكمة على اثنين منهم بغرامة تتراوح بين 900 أورو و1600 أورو ! سد الفراغ العلمي تكاد تكون الدراسات السوسيولوجية أو الأنثروبولوجية أو النفسية عن الأوضاع الرديئة لهذه الشريحة من المهاجرين شبه منعدمة. تسد هذا الفراغ، على الأقل في الشطر الذي يهم الشيوخ من المتقاعدين المغاربة، الأبحاث التي أنجزها عمر السمولي، الباحث المتخصص في علم الشيخوخة ومدير منتدى الشيخوخة للهجرات بفرنسا. وهو يدرس بقسم الطب الاجتماعي بمستشفى بيتييه سالبوتريير بجامعة باريس السادسة. وتتركز أبحاثه على موضوع علم الشيخوخة الاجتماعية. وفي تصديره يشير الباحث إلى أن اهتمامه اتجه أولا إلى المناخ السائد منذ عدة سنوات جراء الحضور الدائم للهجرة كما لو كانت طفلا يجب أن يحظي بتربية وعناية أكثر من غيره. علاوة على أن الاهتمام بالموضوع يفسره أيضا العلاقة الحميمية التي أقامها هؤلاء المهاجرون بالمغرب وفرنسا. ولا يفوت الباحث تذكيره بالجميل لفرنسا التي منحت أجيالا من الباحثين فرصة دراسة الأوجه العديدة للهجرة والكشف عنها، بما فيها هجرة المسنين، التي تكاد تكون موضوعا لم يطرق ولم يدرس بما فيه الكفاية. كلنا مهاجرون بلا أنصار يعرف الباحث بنفسه كمهاجر. لكن هجرته إلى فرنسا تمت بمحض الصدفة. ويذكر في هذا الصدد: «لم أكن يوما مؤهلا لكي أصبح «مهاجرا» وبالأخص أن «أستقر» في الهجرة. وحده سوء تدبير أحد الموظفين كان السبب في ذلك. فقد رمى إلى سلة المهملات طلبات المنحة التي تقدمت بها كوكبة من الطلبة لمتابعة دراستهم الجامعية بغية إعداد شهادة الدكتوراة بإحدى الجامعات النائية عن باريس. وكنا نحلم بالعودة إلى البلد لوضع خبراتنا ومؤهلاتنا في خدمة البلد. في اللهجة المغربية ثمة لفظة لها رمزية قوية تلخص في الحقيقة ما عاشه هذا الجيل من الباحثين، هي «الحكرة». وتبقى الإدارة بؤرة تجسد هذه الممارسة. لكن ما تعرض له هذا الجيل لا يعدو اليوم مجرد ذكريات أليمة وبئيسة. لم نحافظ من هذه الممارسات على أي إحساس بالضغينة أو الحقد. حظ هذا الجيل هو أن درس وتعلم ونحت مجاله بنفسه». ويعترف الباحث لشمال فرنسا بميزة أساسية هي أن هذه المنطقة كانت أرضية تلاقح وتزاوج ثقافي. أرض امتزجت وتضاربت فيها العديد من المفارقات. أرض حفاوة وعنف في نفس الوقت. وقد عثر السمولي بشمال فرنسا على نفس الحرارة ونفس السخاء اللذين تتحلى بهما تافيلالت مسقط رأسه. الدور التنموي للمهاجرين كان مطمح الباحث ترسيخ تفكيره خارج المجال السياسي أو إبعاده عن أغراض السياسة الضيقة، لكن الهجرة تبقى مجالا سياسيا بامتياز، ذلك أنها تندرج ضمن تصور ورؤية متقاطبة بين رؤية اليمين ورؤية اليسار، بين تصور ليبرالي وتصور ديمقراطي، إنسانية أو عنصرية. لكن الباحث لم يتشبث إلا بمقاربة ودراسة الوقائع في طابعها الخام والعنيف. لذا وضع الإطار والشروط العلمية والأخلاقية لمباشرة البحث في الهجرة. كما حذر من مخاطر التلاعبات التي قد يلجأ إليها البعض في موضوع يهم مواطنين من المهاجرين يوجدون ويعيشون في وضعية هشاشة اقتصادية، اجتماعية وسيكولوجية. ونادرا ما تم التأكيد على الدور الذي لعبه أو أداه المهاجرون في النمو الاقتصادي لفرنسا. إن كانت هناك من أزمة في مجال الهجرة فهي تؤول بالدرجة الأولى إلى تسييرها وطرق تسييرها وتدبيرها، يقول عمر السمولي. كما تهم حصريا بلد الاستقبال وليس بلد الأصول. تهم السكن، الشغل، الصحة، تمدرس الأطفال، والحقوق الاجتماعية الموزعة بشكل عادل بين الفرنسيين وغير الفرنسيين، أي الأجانب. ولدراسة الهجرة يجب أن نقطع مع النماذج الكلاسيكية. إنه لخطأ ثقافي فادح إبقاء المهاجر على الدوام في وضعية المنتج للثروات أو شخص ينقل العملة الصعبة نحو بلده الأصل. عدن للبعض والجحيم للآخرين ويأتي الاهتمام بموضوع الشيخوخة والتقاعد أيضا من ملاحظة الباحث انتقال المتقاعدين من الفرنسيين للعيش في القوس الجنوبي للمتوسط، وخاصة في تونس والمغرب. فهؤلاء المتقاعدون المسنون ينعمون بامتيازات اجتماعية وصحية لا ينعم بها الشيوخ من المغاربيين الذين يوجدون بفرنسا. ومن الواضح أن بعض البلدان الأوروبية ( بالأخص فرنسا، هولندا، بلجيكا) مطالبة، أكثر من غيرها، بالإجابة عن الرهانات الجيرونتولوجية (المتعلقة بالشيخوخة). كما يبين أيضا أن المشكل ليس وقفا أو حصرا على فرنسا وحدها، بل يهم أيضا مجموع الدول الأوروبية التي تؤوي جالية مهاجرة. غير أن هذه الإشكالية تمثل لوحدها حقلا اجتماعيا يضيء مختلف سياسات الهجرة التي تتباين وتتعارض أحيانا من بلد إلى آخر. القاسم المشترك الذي يجمع بين هذه السياسات هو قاسم «العودة» و«الطرد» للمهاجرين وللعاطلين، في تعارض مع المبادئ الأساسية في حق الإنصاف والمساواة بين المواطنين. فالمساعدات التي تتلقاها الدول التي التحقت حديثا بالمجموعة الأوروبية ينظر إليها هؤلاء المهاجرون، الذين ساهموا وأفنوا حياتهم في بناء فرنسا، على أنها إجحاف في حقهم، خصوصا أنهم يوجدون في وضعية ضيوف، ليس فحسب في وطن الاستقبال، بل في وطنهم الأصلي كذلك. في تقديمها للبحث، أشارت كاترين دو فيندين (الأخصائية في شؤون الهجرة ومديرة أبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي) إلى أن فرنسا تعتبر أقدم بلد أوربي في ميدان الهجرة . كما أنه البلد الذي يؤوي أكبر جالية من أصول مغاربية ومن ثقافة إسلامية. حلت هذه الجالية بفرنسا بعد الحربين الكونيتين، الأولى والثانية، لسد الخصاص في اليد العاملة ولإعادة بناء فرنسا. كان الجزائريون أول الوافدين، فتبعهم المغاربة ثم التونسيون للمساهمة في نماء وتطور فرنسا. وعلى خلاف الموجات السابقة من الألمانيين، البلجيكيين، الإيطاليين والبولنديين، الذين شجعت الدولة إقامتهم وبالأخص غداة 1945، حتى وإن عاد الكثير منهم إلى بلدانهم، فإن هذه الهجرة التي ترسخت بشكل عريض لم ينظر إليها يوما كهجرة مؤقتة. وعلى المستوى المغاربي، وفد بشكل منفرد رجال، بل سواعد للعمل في المناجم، البناء، الصناعة الخ...وغالبا ما جندوا في عين المكان بواسطة أرباب المعامل، وتم تصديرهم إلى فرنسا للعيش ضمن وضع «مؤقت مستدام» عرفه عالم السوسيولوجيا عبد المالك الصياد بتعبير «الغياب المزدوج»: كانوا يمسحون حيطان الأحياء المنجمية والصناعية، اختبؤوا داخل عالم مغلق لا يتجاوز حدود المعمل، أو المقهى الذي يرتاده رفاق العمل والمأوى الخاص بالعمال المهاجرين. ولما يرجعون في العطل، ينقطعون عن البلاد التي نشؤوا بها. أما العمال الذين لم يجلبوا معهم عائلاتهم فقطعوا صلة الرحم العاطفية والعائلية حقبا طويلة مع عائلاتهم. وتوقفت ناعورة الذهاب والإياب مع تعليق وإلغاء «هجرة العمل المأجور» عام 1974 دون أن تترجم كما خمن ذلك المسؤولون السياسيون بالعودة النهائية لهؤلاء المهاجرين. وبقي هؤلاء العمال يشيخون هنا في ظروف جد قاسية. الشيخوخة والعزلة الدائمة خطرت بعمر السمولي فكرة أصيلة، بل استكشافية، ألا وهي فكرة الاهتمام بهؤلاء المنبوذين، أولئك الذين اختاروا قضاء شيخوختهم بالدور المخصصة للعمال المهاجرين. وبفضل معاينته مدة عقدين لهذه الجالية المهاجرة استطاع السمولي متابعة والوقوف على شيخوخة هؤلاء وهم في عزلة تامة، تحت وطأة المرض، فيما نسيهم الإعلام نهائيا، مفضلا الحديث عن الشباب وعن عائلاتهم. ومع ذلك فإن الكثير من الممارسات المتعلقة بالهجرة تخصهم مباشرة: متطلبات الإسلام وصعوبة الوفاة على الطريقة الإسلامية في أرض فرنسا أو أرض أجنبية بما يرافقها من طقوس الدفن في أماكن لائقة دون الحديث عن مشاكل التمييز على مستوى السكن والإقامة في أماكن ومراكز مؤقتة في انتظار الموت. ويتوقف الباحث عند ظاهرة ما يمكن أن نطلق عليه تقاطع تنقل المتقاعدين بين ضفتي المتوسط: شيوخ ومتقاعدو فرنسا الذين يستقرون بشمال إفريقيا، وتحديدا بتونس والمغرب، لقضاء ما تبقى من حياتهم، وشيوخ دول المغرب العربي، الذين يعيشون في عزلة قاسية بدور ومراكز ضيقة وبئيسة. «الهجرة ظاهرة تعويض ديمغرافي، اقتصادي واجتماعي بين الشمال والجنوب، تجد لكن بشكل معكوس تمديدا لها في الشيخوخة» تقول كاترين دو فيندين.
ديار الموت وتكاد تيمة الشيخوخة والتقاعد في ظروف أقل من لائقة تيمة يتيمة في الخزانة العلمية المغاربية أو التي تعنى بقضايا الهجرة. من هنا أهمية هذا الإنجاز الذي قام به عمر السمولي بمعاشرته ومتابعته لظاهرة الشيخوخة ومرافقته المسنين. وانكب البحث على إمكانيات إدماج هؤلاء الشيوخ. قراءة الشيخوخة التي يقترحها علينا عمر السمولي هي أيضا طريقة تفكير في الموت المستقبلي، في الموت الذي ينتظر هؤلاء الشيوخ بما يتطلبه من تغيير للطرق الاجتماعية والثقافية. وخلال هذه اللحظات الأخيرة من حياة هؤلاء تبرز العديد من الصعوبات المتعلقة بطقوس الموت في بلد أجنبي وكيفية تدبيرها وتسييرها. وإن ركز الباحث في مجمل دراسته على مقاربة حقائق ووقائع مغاربية، رغبة منه في الإسهام في كتابة تاريخ الهجرة، الهجرة الشخصية والجماعية. يبقى أن تاريخ هذه الهجرة هو فصل ثري ومعقد ضمن تاريخ فرنسا وتاريخ البلدان الأصل أيضا. ما يطلق عليه البعض اليوم اسم «الطائفية المغاربية» (الكومينوتاريزم)، هو الوجه المعكوس لكل الإحباطات، الإجحاف واللامساواة، التي عاشها هؤلاء الشيوخ. ولم يفت الباحث أن يفتح قوسا على المشاكل التي يعاني منها قدماء المحاربين، وبالأخص في الشطر الذي يهم التقاعد ومستحقاتهم المادية. والمشكل المطروح هو بالأساس مشكل سياسي، خصوصا أن الدولة المغربية لم تقم بواجبها في دعم مطالب هؤلاء المسنين من قدماء المحاربين الذين يبقون أكباش فداء تاريخ فرنسا وتاريخ بلدانهم.