سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
القذافي يقوم بمظاهرة في الجو بعد قيام الأمريكان بإسقاط طائرتين ليبيتين المراسيم الإثيوبية غيرت أسطول السيارات الفخمة ليتماشى مع اللون الذي يرتديه العقيد
كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما) لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها. هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته. استقبلنا علي عنتر وزير الدفاع على الحدود. كانت هذه سابقة لم يقم بها أحدٌ من قبل. مكثنا يومين في عدن حيث النزر اليسير من التسهيلات الحضارية. في اليوم الثالث، أصر علي عنتر على اصطحابنا إلى مدينة الضالع، حيث انطلقت الشرارة الأولى لثورة اليمن الجنوبي ضد المستعمر البريطاني. قرر العقيد استخدام السيارات، وكانت الطريق في منتهى الوعورة، إذ كان علينا أن نسير معظم الوقت في مجرى واد مليء بالحجارة والقليل من الماء. من هنا كانت السيارات أشبه بغربال أو كمركب صغير يبحر في غياهب محيط.استغرقت الرحلة بين عدن والضالع ثمان ساعات، علماً بأن المسافة لا تزيد عن ثمانين كيلومتراً. أصابنا ما أصابنا من رضوض وآلام ظهر ورقبة. أُنزلنا في الضالع في نزلٍ صغير، لا يتسع لنصف عدد المرافقين. حضر علي ناصر بالطائرة العمودية. في رحلة استغرقت عشر دقائق!!!. في ذلك الفندق، رأيت العجب العجاب. مستوى النظافة متدن لأقصى درجة.. المجمد الوحيد الموجود في الفندق كان ممتلئاً بالقات، والمطبخ في غاية القذارة، أما المراحيض فحدث وأسهب ولا حرج. لم أتناول أي شيء من الطعام في ذلك اليوم واكتفيت بعلبة من البسكويت كنت أحملها معي، أما الباقون فتهافتوا على الطعام بكل نهم وشراهة. مما زاد من اشمئزازي هناك أن وزير الداخلية آنذاك، بعد أن فرغ من الطعام ويداه ملطختان بالدهن وبقايا الطعام، نهض ونظفهما وفمه بستارة كانت معلقة على نافذة صالة الطعام. بعد هذا حل وقت الاستراحة والقات فانتقلنا إلى قاعة الجلوس. ولم يسمح بالدخول إلا للأعضاء البارزين في الوفدين. وبالرغم من وجود أرائك، فإن الجميع جلسوا على الأرض. وضعت بجانب كل منهم حزمة من القات. كان المنظر أشبه بالغنم في إسطبل. جلست على أحد المقاعد أنظر حولي مشدوها. هنا تدخل علي عنتر وسألني: «لماذا لا تخزن يا دكتور؟ لا تخف راهو نظيف». أخذ خصلة من نبتة قات كانت بالقرب منه وقال: «شوف، اِفحصها هكذا. لا يوجد بها دود، ثم انفخها هكذا، لم يبق عليها غبار، وضعها في فمك هكذا، امضغها قليلا ثم ضعها في خدك». قلت له: «شكراً لا أريد التخزين». خزن جميع أعضاء الوفد اليمني وقليل من الليبيين دون مشاركة العقيد. في الساعة الخامسة مساء، رتب حفل شعبي يمني ليبي مشترك. أثناءه توتر الجو فجأة، وانتهى الحفل بشكل غير عادي وسريع. عقد اجتماع بين الوفد الليبي (العقيد القذافي، الدكتور علي عبد السلام التريكي، وأبو زيد دوردة ومدير المراسيم نوري المسماري) ووفد يمني (الرئيس علي ناصر محمد وعلي عنتر ووزير الداخلية). وبعد أن انفض الاجتماع، سألت مدير المراسيم عن الأمر، فقال لي: «وقعت معركة جوية بين الطائرات الليبية وطائرات الأسطول الأمريكي فوق خليج سرت وأُسقطت لنا طائرتان» (كان هذا يوم 19/8/1981). من هنا ضربت أخماسا في أسداس. كان علينا أن نذهب إلى إثيوبيا ومن ثم العودة. كانت كل طرق العودة مسدودة. هناك ثلاث طرق: الأولى هي الطيران فوق السودان ومصر. فالعلاقات معهما كانت على أسوإ ما يكون. الطريق الثانية هي الطيران فوق السودان، ثم تشاد التي كانت في حالة حرب مع ليبيا. وفيما لو قرر العقيد تخطي القوانين الدولية والطيران فوق تلك الدول بدون إذن منها، فإن المسافة أطول مما تستطيع الطائرة بوينغ 707 الطيران في رحلة واحدة. أما الطريق الثالث فهي الطيران فوق اليمن، فالسعودية، والأردن، ثم سوريا والبحر الأبيض المتوسط. وإن تم اختيار هذا الطريق، فلم تكن العلاقات مع السعودية على ما يرام، ويتوجب علينا الطيران فوق البحر الأبيض حيث الأسطول السادس الأمريكي، وستكون طائرتنا كالبطة، وسيتلذذ الأمريكان في اصطيادها. بينما كنت منهمكاً في التفكير، حضر رئيس المراسيم فتوجهت إليه بالسؤال: «ما العمل؟» قال: «أغلب الظن أننا سنطير فوق السودان ونهبط في مطار الكفرة جنوب شرق ليبيا». توجهت إلى غرفتي للنوم ويا للهول، فوجئت بالقمل يملأ السرير. استدعيت أحد عمال الفندق وطلبت منه تغيير غطاء السرير، فاحتج قائلا: «لماذا؟ لقد تم استبدالها منذ أقل من أسبوع، ولا يمكننا تغييرها كل يوم». تنازلت عن الغرفة للممرضة البلغارية التي كانت ترافقنا، حيث إنهم لم يخصصوا لها غرفة لضيق المكان. أما أنا، فنمت جالسا على إحدى الأرائك، محاولا تقليل ما سيعلق بي من قمل!!!. في اليوم التالي، عدنا بطائرة عمودية إلى عدن. واتجهنا إلى أديس أبيبا بطائرة العقيد. كنا على درجة غير مسبوقة من القذارة. فبعد رحلة البر بين عدن والضالع والغبار والعرق كنا كالجرذان الخارجة من الصحراء على ألطف تصوير. وصلت الطائرة فوق مطار أديس أبيبا. نظرت من النافذة، فرأيت أسطولاً من السيارات الفخمة السوداء في انتظارنا. وعلى حين غرة، اختفت السيارات السوداء وظهرت أخرى فخمة حمراء. لم أفهم السبب، فأفادني المسماري بأن مراسيم إثيوبيا سألته عن الزّي الذي يرتديه العقيد، فأجابهم بأنه زي عسكري، من هنا تغيرت السيارات لتناسب زي الضيف. توجهنا إلى قصر هيلاسيلاسي لتستقبلنا الأسود الحية التي تحرس مدخل القصر الداخلي ومع كل أسد يقف مروضه. أول ما فعلته عند دخولي غرفتي هو الذهاب للاغتسال، أشفقت على حوض الحمام المصنوع من الرخام، الذي كان يتلألأ نوراً من شدة نظافته. وما هي إلا دقائق حتى كان الحوض ممتلئا بالماء الساخن واستمتعت بحمامٍ إمبراطوريٍ أزلت به أوساخ الضالع وما سيأتي بعدها. من الطرائف التي وقعت عند وصولنا أنني وجدت في غرفتي وعاءً فاخراً موضوعاً على المنضدة به فواكه مرصوصة على شكل هرمي، تزين قمته حبتان من فاكهة القشدة. بعد الاستحمام، ذهبت إلى جميع غرف الوفد بمن فيهم الوزراء، وأبلغتهم أن لا يأكلوا تلك الثمرة لأنها تنقص القدرة الجنسية، لعلمي الأكيد أن جميع أعضاء الوفد الليبي لا يعرفون تلك الفاكهة ولاهتمامهم الشديد بالجنس. جمعت جميع حبات القشدة ونقلتها إلى غرفتي، حيث تمتعت بتلك الفاكهة طوال أيام رحلتنا الثلاثة. في آخر المطاف، صارحتهم بالحقيقة، فانهالوا عَليَّ سباً وتجريحا، ولكنهم بالصيف ضيعوا اللبن. في رحلة العودة، حطت طائرتنا في أبوظبي حيث قضينا ليلة واحدة، ثم غادرناها إلى الكويت. كانت زيارة قصيرة لا تزيد عن ساعات قليلة. استقبلنا في المطار الشيخ جابر الأحمد أمير الكويت، والشيخ سعد العبد الله ولي العهد، والشيخ صباح الأحمد وزير الخارجية آنذاك وأمير الكويت حاليا. دخل العقيد والدكتور علي التريكي مع الأُمراء الكويتيين إلى قاعة صغيرة للاستراحة والتباحث. وبعد ساعة تقريبا، أقاموا لنا مأدبة طعام الغداء في المطار حضرها من الطرف الليبي العقيد والدكتور التريكي وأنا. أما من الطرف الكويتي فحضرها الأمراء الثلاثة. لشدة استغرابي أن المباحثات بدأت أثناء جلسة الغداء. لم ينبس الأمير أو ولي العهد ببنت شفة. كان المتحدث والمناقش والمتكلم هو الشيخ صباح الأحمد. والموضوع الوحيد الذي تم بحثه في تلك الجلسة هو موضوع تصدير البترول والتزام دول الأوبك بالحصص المخصصة لكل منها. كان العقيد في أشد الحنق على السعودية لتصديرها يومياً 12 مليون برميل، وهي كميات تفوق حصصها مما أغرق السوق وخَفَضَ الأسعار ولم يدع مجالاً للآخرين للتصدير، فوجه سؤالاً إلى الكويتيين: « ألا يمكنكم أن تكلموهم وتطلبوا منهم تخفيض إنتاجهم؟» فرد الشيخ صباح «لا، السعوديون لا يستمعون لأحد». أثناء النقاش، لم يأكل العقيد، بل كعادته في جميع الرحلات «يواكل المضيف» في هذه الجلسة. أحرجت لوجودي في هذا الاجتماع، بدأت الأكل بشكل بطيء وقليل. هنا علق العقيد بصوت عال: «كول يا دكتور راهو الكويتيون حسبوه علينا» . انتهت الزيارة، ثم غادرنا إلى دمشق مروراً فوق السعودية والأردن. في دمشق، بقينا ثلاثة أيام. جدير بالذكر أن وفود المعارضة الفلسطينية كانوا يترددون على قاعة الاستقبال في مقر العقيد يومياً في انتظار لقاء لم يحصل. وفي إحدى المرات، حضر عبد الحليم خدام والتقى بالدكتور التريكي وزير الخارجية الليبي وبعد برهة قرر الاثنان مغادرة المبنى، فتبعهما أحمد جبريل وسألهما إن كان من الممكن أن يرافقهما، فنهره خدام بصوت مرتفع قائلا: «كفايه بقى، أنتم الفلسطينيون قرفتونا في قضيتكم. خليك مكانك». أراد العقيد زيارة لبنان، ولما كانت علاقة ليبيا بحزب الله في منتهى السوء بسبب قضية اختفاء الإمام الصدر، نصحته شخصيا بعدم الذهاب وأبلغته أن لبنان فوضى ولا يمكن لأحد ضمان سلامته بأي حال من الأحوال، بالرغم من أي تطمينات تقدم من أي جانب. ألغيت الزيارة في وقت متأخر من الليل. في ثالث يوم أُبلغنا مسبقاً وعلى غير العادة، أن نستعد للعودة إلى ليبيا. جرت العادة أن يكون هذا الأمر سرياً ولا نعلمه إلا في آخر لحظة. في زياراتنا السابقة لأي بلد، كنا نغادر بدون مراسيم أو وداع رسمي. لكن في هذه المرة، أُبلغنا مبكراً بانتهاء الزيارة. في المطار، رأيت الاستعدادت لوداع رسمي، حرس شرف وفرقة موسيقية وبساط أحمر وصحافة وتليفزيون الخ. دَبَ فيَّ الشك في أننا سنتجه إلى ليبيا. تصورت أننا ذاهبون إلى تركيا أو روسيا. حضر العقيد القذافي ومعه الرئيس حافظ الأسد، وجرت مراسيم الوداع علناً، ركبنا الطائرة وأقلعنا. رافقتنا مقاتلتان سوريتان إلى شاطئ البحر، ثم قامتا بهز أجنحتهما للتحية وعادتا أدراجهما. هنا توقعت الكارثة. قبل أيام وقعت معركة بين الطائرات الليبية والأمريكية، أدت إلى إسقاط طائرتين ليبيتين، وها نحن نطير فوق الأسطول السادس. تَكَوَنَ رتل العقيد الجوي من ثلاث طائرات، الرئاسية بوينغ 707، وأخرى تابعة للخطوط الجوية الليبية بوينغ 727، وثالثة طائرة نقل عسكري ماركة لوكهيد سي 130. لم يكتف العقيد «بتحدي» الأمريكان بالطيران علنا في وضح النهار فوق أسطولهم، بل قام بحركة صبيانية، حيث قاد مظاهرة في الجو. دخل غرفة قيادة الطائرة وتبعه عبد الله السنوسي كما تبعه الباقون. التقط معمر مذياع قائد الطائرة وأمره بفتح الاتصال مع الطائرات الثلاث، وبدأ يردد هتافاً: «نطير من فوق عدانا ولا والي يقدر يدنانا» يقصد «نطير فوق أعدائنا ولا كلب يستطيع التعرض لنا». وجميع من في الطائرات الثلاث يردد من بعده ويرقصون الرقصة الشعبية الليبية «السحجة». وصلنا إلى مدينة بنغازي واستُقبلنا استقبال الفاتحين. هنا تأكدت أن الأمريكيين لا يريدون أذى القذافي، وتذكرت قول إسحق رابين (رئيس الوزراء الإسرائيلي عن حزب العمل) عندما قال: «لو أردنا إحضار ياسر عرفات لفعلنا، فهو طوال الوقت بالجو». أستاذ أمراض القلب والطبيب الخاص لمعمر القذافي سابقا