كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما) لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها. هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته. انقضت زيارة الكويت والبحرين وقطر والإمارات دون أحداث تذكر. حل موعد زيارة المملكة العربية السعودية. وصلنا إلى الرياض وأحسن السعوديون استقبالنا، وكان على رأسهم المرحوم الملك خالد. كان من المقرر أن تدوم الزيارة ثلاثة أيام. وصلنا إلى أحد القصور. كانت غرفتي ملاصقة لمقر إقامة العقيد الذي اصطحب معه زوجته صفية وعبد الله السنوسي وزوجته (أخت صفية). وما هي إلا بضع ساعات حتى لاحت في الأفق بوادر أزمة وصدرت لنا التعليمات بجمع ملابسنا وحاجاتنا وإرسالها إلى المطار ففعلنا ما طُلب منا. لم نعرف السبب، لكنني لاحظت هرجا وسبابا وحركة غير عادية في مقر العقيد. فجأة حضر الملك خالد وزوجته، ودخلا المقر. استطعت بعدها أن أسمع الملك خالد يخاطب العقيد، معتذراً له، وطالباً منه السماح ومردداً: «أنت مثل أولادي، وأنا أحبك وأحترمك». وكانت زوجته تحادث صفية وأختها. دامت إقامة الملك خالد في جناح العقيد حوالي ساعة، انفرجت بعدها الأمور، وتقرر بقاؤنا في الرياض. هنا وقعنا في إشكال، حيث غادرت الطائرة التي تحمل أمتعتنا إلى جدة. هكذا بقينا بدون ملابس ولا أدوية. قام الإخوة السعوديون بمساعدة مدير المراسيم بشراء ما يلزمنا. عند عودة مدير المراسيم المسماري، سألته: ما الأمر؟ فأجاب «عندما وصلنا، توجهت صفية وأختها ومعهما عبد الله السنوسي إلى السوق لشراء الذهب وكانتا مكشوفتي الرأس وزوجة عبد الله السنوسي ترتدي ثوباً قصيراً، فاعترضهم جماعة «المطاوعة» التابعين لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأشبعوا الاثنتين ضرباً على رأسيهما وأرجلهما المكشوفة، وعندما احتج عبدالله السنوسي، ناله ما نال السيدتان. في اليوم التالي، وكان يوم جمعة، توجهنا للصلاة بحضور الملك خالد وولي العهد الأمير فهد وجمع من الأمراء. لفت نظري أن المصلين السعوديين دخلوا الجامع منتعلين دون وضع غطاء فوق أحذيتهم، كما قام أحدهم، كان يصلي بجانبي، بإخراج محفظته وأخذ يعُد النقود الموجودة فيها. هذان أمران لم أعهدهما في أي بلد مسلم آخر زرته من قبل بما فيها إيران وتركيا. في صباح يوم السبت، توجهنا إلى جدة. وبقينا في المقر إلى ما بعد صلاة العشاء، حيث بدأت الاستعدادات لرحلة العمرة. أحرمنا، ومن ثم قصدنا مكةالمكرمة حيث أتممنا الطواف، ثم فتح لنا السعوديون باب الكعبة للصلاة داخلها. تركت مركوبي خارجها احتراما لقدسية المكان. كانت التعليمات أن نصلي ركعتين مقابل كل جانب من الجوانب الأربعة للكعبة. كان المكان دامسا، حاراً لدرجة مفرطة مع أنها كانت الثانية صباحاً. خرجت لألحق بركب العقيد الذي بدأ السعي. انتهت مراسيم العمرة، ثم توجهنا إلى قاعة كبار الزوار داخل الحرم. قدمت لنا المشروبات الباردة وأخذنا الصور للذكرى. كان من بين المرافقين مدير الاستخبارات العسكرية في ذلك الوقت (إدريس الدبري) وكان مشهوراً عنه المجون والسكر وما إلى ذلك. التقيته وهنأته وقلت له: «يجعلها توبة نصوح يا أخ إدريس»، فرد عليَّ قائلا: «والله ما طالع عليها النهار». عدنا إلى القصر في جدة. وما هي إلا بضع ساعات حتى بدأ أحدهم يقرع باب غرفتي بقوة. كنت أغط في نوم عميق، ففتحت الباب لأجد إدريس هذا بالباب يقول لي: «الحقني يا دكتور، اعطني حاجة، راني سكرت، ولازم أقابل العقيد بعد قليل، ولا أريده أن يلاحظ هذا» نهرته وقلت له: «والله ماك واخذ شي، تحمل مسؤوليتك» وأغلقت الباب وعدت للنوم. كان يعرف عن العقيد أن له فكراً خاصاً، حيث صرح سابقاً في أكثر من مناسبة بأنه لا يؤمن بزيارة قبر الرسول، ولا يوافق على إقرار الحديث النبوي كمرجع للتشريع وأنه يجب إزالة كلمة «قل» من الآيات التي وردت بها. ولقد رَتَّبَ اجتماعا في مدينة طرابلس لجمع غفير من رجال الدين من جميع الطوائف ومن كل أصقاع البلاد الإسلامية لمناقشتهم وإقناعهم بما يعتقد ولم يحقق أي نتيجة. حوالي الساعة العاشرة صباحاً، حضر العقيد إلى قاعة الاستقبال. أخذ سكرتيره للشؤون الدينية ينصحه بأن يقوم بزيارة المدينةالمنورة وقبر الرسول، فاقتنع وصلينا الظهر في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وزرنا قبره وقرأنا الفاتحة ثم زرنا مكان غزوتي الخندق وأُحد، وتوجهنا بعدها إلى صنعاء. لم ترافقنا صفية ولا أختها الرحلة إلى اليمن، بل عادتا إلى ليبيا يرافقهما عبد الله السنوسي. كانت الزيارة الأولى لي لذلك البلد، ففوجئت بمستواه الحضاري المتدني. كانت معظم طرق مدينة صنعاء رملية، لا نظام للمرور فيها، والسيارات بدون لوحة أرقام، وكل يسير على هواه يميناً ويساراً وعليك أن تجد طريقك. كان مقرنا في قصر الإمام البدر آخر الأئمة، الذي خلعته ثورة عبد الله السلال. كان قصراً متواضعا، مبنياً من الحجر على الطراز اليمني، ويقع وسط صنعاء. في صباح اليوم الثاني، اطَّلَعَ العقيد على الصحف اليمنية، وأبدى إعجابه بقوة اللغة وعمق التحليلات بالرغم من قلة صفحاتها. تناولنا طعام الفطور واتجهنا إلى مقر الحكومة للاجتماع مع علي عبد الله صالح. ومن الطرائف التي حصلت لي أن جميع مرافقي العقيد القذافي (بمن فيهم المسلحون) سمح لهم بدخول القاعة باستثنائي. كان ذلك بسبب أنني كنت أحمل حقيبة يد. علمت أن اليمنيين الشماليين لديهم عقدة خوف من حقائب اليد، بعد حادثة مقتل الغشمي رئيس اليمن، الذي سبق علي عبد الله صالح، على يد اليمنيين الجنوبيين بواسطة حقيبة يد مفخخة دسها حارس لوزير يمني جنوبي كان يزور اليمن بشكل رسمي. انتهى الاجتماع، وعدنا إلى مقر الإقامة، فتبعنا كبار المسؤولين اليمنيين وشاركونا الغداء. بعد ذلك بدأت جلسة القات. اتخذ اليمنيون الوضع المناسب لتلك المناسبة، أي نصف نائم ومتكئ على وسادة. وضعت بجانب كل منهم حزمة من القات وبدأ التخزين والنقاش في أمور الدولة. اكتشفت أن العمل يبدأ في اليمن الشمالي أثناء جلسة القات، أما في ساعات العمل الرسمي صباحاً فهم نصف نيام، يمضون الوقت في الكلام والزيارات. كان الوفد الليبي مكونا من العقيد والرائد الخويلدي الحميدي والتريكي. حضرت جلسة الغداء وجلسة التخزين التي تبعتها، بعدها انسحبت. خرج العقيد ومعه الرائد الخويلدي، وما زلت أذكر تعليق العقيد على تلك الجلسة. إذ قال: «الآن عرفت سر قوة الصحافة اليمنية وعمق تحليلاتها. هو القات». وأضاف «لو كان لدينا قات في ليبيا لكان الكتاب الأخضر ألف صفحة». على الفور تفاعل الرائد الخويلدي قائلا: «الحمد لله ماعنداش قات». فوجئت بتعليق الخويلدي وبلا مبالاة العقيد. في اليوم التالي، ذهبنا إلى جامعة صنعاء حيث أراد العقيد القذافي مقابلة الطلبة.كان لقاءً ساخناً، لم يهبه الطلبة اليمنيون وواجهوه بجرأة، وَفندوا نظريته العالمية الثالثة وأحرجوه في أكثر من نقطة. وبالرغم من جرأة الطلبة وتطاولهم على العقيد فقد أبدى إعجابه بهم ومدحهم. خرجت للتجول في المدينة، ولاحظت شيئاً غريباً، هو أن كل يمني على الساعة الثانية عشرة ظهرا يتكون لديه ورم في خده وبعضهم في خديه. وعندما سألت عن السبب، أُجِبتُ بأنه القات. يبدأ اليمني التخزين من الساعة التاسعة صباحا ويستمر بمضغ وتخزين القات حتى الرابعة مساء (مما يسبب انتفاخاً في الخد)، عندها يخرج من فمه كرة خضراء يبصقها على الأرض. أطلقت على هذه الظاهرة ورم الساعة الثانية عشرة. أثناء تجوالي في المدينة القديمة، قابلت عاملاً بسيطاً، رث الثياب، متسخاً، كان لتوه قد انتهى من التخزين، وكرة القات لا تزال في فمه. أوقفته وسألته: «كم تتقاضى في اليوم ؟» فأجاب: «خمسة عشر ديناراً». سألت مرافقي اليمني: «هل هذا المبلغ كاف لحياة كريمة؟»، فأجاب: «أجل». عدت للعامل أسأله: «لماذا أنت على هذا الحال؟ كيف تصرف مرتبك؟» فأجاب: «أشتري ما يلزمني من القات بعشرة دنانير، أدفع دينارين ثمن علبة الدخان ولا يبقى لي إلا ثلاثة دنانير لأعيش بها». تابعت الزيارة. كانت المدينة قذرة، مليئة بأوراش الصناعة التقليدية والذهب والحوانيت الشعبية المتراصة. انتهت زيارة اليمن الشمالي واتجهنا إلى عدن. قابلنا علي ناصر محمد وعلي عنتر وبقية كبار المسؤولين. هناك الحر مفرط والرطوبة متناهية، فالصخر أسود يمتص حرارة النهار ليشعها ليلا، مما يؤدى إلى درجة حرارة غير محتملة نهارا وليلا. البلد فقير تملأ أجواءه آلاف الغربان بلونها الأسود ونعيقها الذي لا ينقطع. كان مقر إقامتنا في معكسر للقوات البريطانية استعمله اليمنيون الجنوبيون مضافة لكبار الزوار، ولا يوجد به تكييف للهواء، كل ما هناك مروحة مثبتة في سقف الغرفة. قررت عدم الحركة واستلقيت على السرير ألعن الظروف التي أدت بي إلى هذا المكان. فجأةً دخل العقيد، وقال لي: «وينك يا دكتور؟». قلت له: «بالله عليك يا أخ القائد هل هذه بلاد يعيش بها بني آدم». رد معلقا «معك حق يا دكتور» وانصرف. عند الغروب، قررت الذهاب إلى الشاطئ للاستحمام في البحر عله يخفف من المأساة. يا للهول! وجدت الشاطئ رمليا جميلاً، ولكنه مليء بالآلاف المؤلفة من السرطان (السلطعون) وكأنها خرجت من الماء لتستجمم بعد غروب الشمس. تخليت عن الفكرة وعدت أدراجي أجر ذيول خيبة الأمل براً وبحراً. اقتنعت بأن هذه ليست جنات عدن، بل هي جهنم عدن وبئس المقر. كل هذا زادني هماً على هم. في اليمن الجنوبي، لمست الفارق في الحضارة وأثر الفكر الاشتراكي. البلد فقير لكنه بالنسبة لليمن الشمالي نظيف، السير له أصوله والسيارات تحمل لوحات مرقمة وتسير في اتجاه واحد. حضر في المساء علي ناصر وأقرانه وتم لقاء مفتوح في الهواء الطلق بين الوفدين. لم يتطرقوا لأي موضوع جاد. كان الطرفان كأن كلاً منهما يدرس الآخر أو يود سبر أغواره. قضينا الأمسية الأولى بسهرة شعبية من فرقة يمنية جنوبية دربت في الاتحاد السوفياتي. في صباح اليوم الثاني، زرنا مناطق بالقرب من عدن وتناولنا طعام الغداء في إحدى المزارع. لم يكن الجو خارج مدينة عدن بأفضل مما هو بداخلها. زد على ذلك الغبار والطرق الضيقة والسيئة، مما ذهب بأي بهجة أراد الإخوة في اليمن الجنوبي إضفاءها على الزيارة. عدنا في صبيحة اليوم الثالث إلى دمشق حيث مكثنا يوماً واحداً، ثم غادرناها عائدين إلى طرابلس. بعد ذلك، اكتشفت بأن العقيد قام بتلك الزيارة من أجل أن يشجع أكبر عددٍ من الملوك والرؤساء على حضور احتفالات العيد العاشر لثورة الفاتح من سبتمبر سنة 1979. أراد لها أن تظهر على أعلى درجة من الفخامة والعظمة إرضاءً لغروره. أستاذ أمراض القلب والطبيب الخاص لمعمر القذافي سابقا