كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما) لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها. هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته. في آخر أيام شهر غشت، بدأت الوفود التي ستشارك ليبيا في الاحتفالات تصل إلى طرابلس. حضر كل من الملك حسين ومعه وفد كبير منهم الأمير زيد بن شاكر والفريق عامر الخماش، والرئيس حافظ الأسد، والشيخ زايد بن سلطان، والأمير فهد بن عبد العزيز، والشاذلي بن جديد، ووفود كثيرة أخرى من دول عدة. في هذا اليوم كانت الحرارة والرطوبة مفرطتين. أُعدت مأدبة عشاء في حديقة قصر الخلد (قصر الملك إدريس الذي كان يقيم فيه عندما كان يزور طرابلس، وقليلا ما كان يفعل، وهو أصلاً قصر لأحد الأثرياء الإيطاليين أثناء حقبة الاستعمار الإيطالي لليبيا). كان من المفروض أن يبدأ العشاء في الساعة السادسة مساءً. جُهز الطعام على المناضد منذ الساعة الخامسة، وقطعا تم إنجازه قبل إحضاره بساعات. ولأمور تنظيمية لم يحضر العقيد والزوار إلا في الساعة التاسعة. كان المدعوون يعدون بالمئات (قيل لي 400 شخص). جلس الضيوف مع العقيد على رأس الطاولة، فيما أخذت مكاني على مرأى من العقيد. وما هي إلا أولى لقمة حتى اكتشفت أن الطعام فاسد. نهضت وأسرعت إلى وزير الصحة وأبلغته بالأمر وطلبت منه إخلاء جميع المستشفيات في طرابلس لأننا سنستقبل مئات من حالات التسمم. بعد ذلك توجهت إلى العقيد لأبلغه، فوجدته نهض وترك المأدبة (على أغلب الظن أنه أدرك أن الطعام فاسد) ولم يتناول أي من الضيوف العشاء. بعد ذلك بدأ توزيع الأوسمة على الملوك والرؤساء. طلب العقيد منهم الاصطفاف بالترتيب، ووقف أمامهم، أشبه بمدير مدرسة يوزع الجوائز على طلبته. أخذ يناديهم كلا باسمه المجرد: حسين تعال ثم حافظ تعال وهلم جر إلى أن أنهى التوزيع على الجميع. أثناء ذلك التقيت بالفريق عامر الخماش (أبو مازن) حيث تربطني به صلة قرابة. تبادلنا الحديث فبدأ يشكو من الفوضى، وذكر لي أنه تم تخصيص غرفة واحدة له وللأمير زيد بن شاكر، في مدينة سياحية تبعد اثني عشر كيلومتراً عن مقر الملك حسين (في قرية جنزور)، لا مرآة بالحمام ولا كرسي للمرحاض. كان هذا لكثرة الزوار وعدم الاستعداد لاستقبال ذلك العدد. خصصت لكل واحد من الملوك والرؤساء غرفة في قصر الخلد. اقترحت على أبي مازن أن يترك الغرفة للأمير زيد ويحضر للإقامة في بيتي. اعتذر عن ترك الأمير لوحده. بعد أن تركنا مأدبة العشاء وانفض الحفل، انكب العمال وموظفو المراسيم على التهام الطعام، مما أدى إلى إدخال مائتي مصاب بتسمم غذائي تلك الليلة (حسب ما قال لي وزير الصحة). لا أعرف كيف أمضت الوفود ليلتها تلك دون طعام أو شراب ودون مأوى معقول. كان البرنامج المقرر ليوم 1/9/1979 هو الآتي: الاتجاه إلى مطار طرابلس في الثامنة صباحاً، والذهاب إلى مدينة بنغازي لحضور العرض العسكري، والغداء في ناد سياحي، ثم العودة في المساء إلى طرابلس لحضور الاحتفالات الشعبية في الساحة الخضراء. في يوم الفاتح من سبتمبر اتجه الجميع إلى مطار طرابلس في الموعد المحدد ما عدا العقيد. بقي كل واحد من الملوك والرؤساء جالسا في طائرته ينتظر. هلّ العقيد في الساعة الحادية عشرة، بعد ذلك غادرنا إلى بنغازي. كان من المفروض أن يبدأ العرض في الساعة التاسعة صباحا، فنصبت المنصة لتواجه الغرب. عندما وصلنا إلى ساحة الاحتفالات، كانت الساعة الواحدة ظهراً. كانت أشعة الشمس الحارقة مسلطة مباشرة على رؤوس وأعين الحضور. كان وضعا أليماً، لم يوفر لكبار الضيوف غطاء رأس، فضلاً عن عدم وجود ماء بارد. استمر العرض أربع ساعات متتالية، أثناءها تم استعراض ألف دبابة من نوع واحد. قال لي أحد الضباط إن هذه الآليات والمعدات أحضرت كلها من المخازن، أما تلك المخصصة للمواقع وعلى الحدود فلم يحرك أي منها. عند انتهاء العرض، كان الكل منهكاً. غادر حافظ الأسد إلى هافانا لحضور مؤتمر عدم الانحياز، كما غادر الشاذلي بن جديد مباشرة. أما الباقون فقد اتجهوا إلى النادي السياحي من أجل وجبة الغداء. كان الحضور ومعظمهم من الليبيين قد التهموا معظم الطعام. وقد تقاسمت وأبومازن قطعة خبز ليس إلا. بعد ذلك غادر الملك حسين والوفد المرافق له بنغازي، واتجه الشيخ زايد والأمير فهد إلى طرابلس وبدأ العرض الشعبي في الساعة العاشرة مساءً واستمر حتى الثانية صباحا. في هذه الاحتفالات، ذاق الملوك والرؤساء من علقم التخلف والفوضى المقصودة لذلك النظام، الشيء الذي تجرعت منه الكثير على مدار ثلاثة عشر عاماً. في اليوم الثاني من سبتمبر، ودون توديع للزوار، اتجه بنا العقيد إلى منطقة سرت (بوهادي) في رحلة استجمام في الصحراء وشمسها الحارقة !!. في سنة 1981، توجهنا لزيارة اليمن الشمالي. لم تكن هذه هي الرحلة الأولى كما ذكرت سابقا. بأمر من العقيد، خصص لي المقعد الخلفي الملاصق للنافذة على يسار الطائرة من مقصورة كبار المرافقين. أصبح ذلك معروفاً للجميع. من هذا الموقع استطعت أن أستمع لكل النقاشات والحوارات التي دارت والقرارات التي صدرت أثناء فترة الطيران. ولأول مرة رافقنا أبو زيد عمر دوردة، الذي لم يكن على علم بالترتيبات داخل الطائرة. كان يعرفني ويعرف مكانتي جيداً. بدأت الطائرة بالصعود، وأضواء تعليمات ربط الحزام ومنع التدخين لم تطفأ بعد. طلب مني أبوزيد دوردة الرجوع إلى الصالة الخلفية، مكان جلوس الحرس وصغار الموظفين، قال: «دكتور خالد من فضلك ترجع إلى الوراء حيث سنبحث مع القائد بعض المواضيع». هممت على مضض بالنهوض، وفي تلك اللحظة تدخل القائد قائلا: «اجلس يا دكتور في مكانك»، والتفت إلى أبو زيد دوردة قائلا: «إحنا مأمنين الدكتور خالد على أرواحنا وأسرنا، وانت جاي تقول لي كلمتين فاضيات». جلست في مكاني. احمر وجه أبو زيد حيث أُخِذَ على حين غرة، فأشعل سيجارة. هنا وجه لي العقيد الكلام ملاطفاً: «دكتور خالد، لماذا لم تمنع أبوزيد من إشعال سيجارة، بينما ما زالت التعليمات تقول ممنوع التدخين؟». أجبته في التو وأخذت ثأري من أبو زيد. قلت: «الأخ القائد، أنا مؤدب، لا يمكنني أن أتطاول وأعطي تعليمات في وجودك». كان وقع كلامي على أبوزيد صفعة علمته الأدب في التعامل معي مستقبلا. هبطت الطائرة في دمشق حيث بقينا يوماً واحداً، ثم طرنا فوق السعودية إلى اليمن الشمالي. بعد انتهاء الزيارة، توجهنا إلى تعز حيث استرحنا وتناولنا طعام الغداء، ثم واصلنا السير إلى اليمن الجنوبي براً. كان العقيد قد أحضر معه سيارة رينج روفر بطائرة نقل عسكري (سي 131). وما هي إلا ثوان حتى ارتطمت السيارة بالجبل، وأعلن بعد ذلك أن مكابحها كانت معطلة! ترى هل كانت هذه الحادثة صدفة أم محاولة للتخلص منه؟ !!. أستاذ أمراض القلب والطبيب الخاص لمعمر القذافي سابقا