كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما) لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها. هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته. في 28 مارس 1975، وأثناء الاحتفال الذي يقام عادة في قاعدة العدم في طبرق، شمل البرنامج في هذه السنة مناورة بحرية، شاهدناها من خلال غواصة جابت بنا أعماق البحر. عند انتهاء المناورة البحرية صعدت الغواصة إلى سطح البحر ورست في ميناء طبرق. أخذ الجميع بالصعود إلى سطح الغواصة بدءاً بالعقيد القذافي. هنا تقدم العقيد الشكشوكي آمر سلاح البحرية آنذاك وأدى التحية له وأردف قائلا: «سيدي، في العام القادم ستكون قواتنا البحرية هي القوة الثانية في البحر الأبيض المتوسط بعد الأسطول السادس الأمريكي». رد عليه العقيد القذافي قائلاً: «عندها سيأتي دور الانتقام من إيطاليا». بدأت رحلة العودة إلى طرابلس عن طريق البر. كانت مدينة درنة هي محطتنا الأولى. استرحنا في المعسكر وتناولنا طعام الغداء. فجأة خرج العقيد واستقل سيارته دون إنذار، فهرولنا مسرعين إلى سياراتنا وتبعناه. توجه إلى وسط المدينة حيث الطرقات الضيقة، ودخل شارعا ذا اتجاه واحد ولكن في الاتجاه المعاكس، مما أربك المرور ولفت الأنظار. بالرغم من ذلك، استمر العقيد بالسير وكان على السيارات الأخرى أن تتدبر أمرها. اضطر بعض منها إلى استعمال الرصيف لتجنب الاحتكاك بسيارته، فتجمهر الناس وأحاطوا به. كانت هذه هي طريقته في جلب انتباه الناس. كررها أكثر من مرة داخل ليبيا والجزائر العاصمة والقاهرة وفي تونس. نزلنا من السيارات لحمايته وإبعاد الناس عنه. كنا نفرا قليلا. ولما استحال تقدم سيارته نزل منها وترجل. اتجه أحد الحراس فوراً إلى أول الزنقة لينظم السير حتى تستطيع سيارة العقيد إكمال طريقها، بينما كنا نحيط به. بدأت السيارات بتغيير اتجاهها وأخذ العقيد يسير على قدميه والتفت إليَّ قائلا: «دكتور «سوق الكرهبه أنت»، وقد عنى بهذا «سُق السيارة». قفزت إلى سيارته وأخذت أتبعه ملاصقا لحماية ظهره بينما هو يحيي ويصافح الموجودين في ذلك الشارع الذي كان طوله لا يزيد عن مائة متر، ولكنني شعرت كأنها كيلومترات. عندما وصلنا إلى نهاية الطريق وأصبح السير سالكاً، قفز العقيد إلى جانبي وطلب مني العودة إلى المعسكر. في شهر غشت 1975 وبينما كانت العلاقات المصرية الليبية في أسوء أوضاعها، قرر العقيد معمر القذافي حضور مؤتمر الوحدة الإفريقي الذي كان سينعقد في كمبالا عاصمة أوغندا. وفي اليوم السابق لسفرنا إلى كمبالا دعيت إلى مأدبة غداء في منزل صديق (الصيدلي صالح عزوز) بحضور العقيد صالح الفرجاني آمر سلاح الجو، والرائد عمر الحريري أمين عام رئاسة الوزراء. فجأة حضر بومدين إلى طرابلس في زيارة قصيرة وهو في طريقه إلى كمبالا. ألغيت دعوة الغداء لانشغال الفرجاني والحريري بالاستقبال والمراسيم. كان علينا الطيران لسافات طويلة بسبب سوء العلاقة مع مصر والسودان. ركب العقيد القذافي طائرة هواري بومدين التي حطت بنا في مدينة الأقصر بمصر، حيث انتقل إلى طائرته الخاصة التي تبعتنا، وكانت آنذاك بوينغ727. اتجهنا إلى مطار «عنتيبي» في أوغندا. كانت مناظر جنوب السودان وأوغندا من الجو خلابة إلى أقصى درجة. أراض شاسعة ظهرت كبساط أخضر رائع الصنع. عند وصولنا إلى مطار «عنتبي» ظهرت بحيرة فكتوريا الشاسعة رائعة المنظر. استقبلنا الرئيس عيدي أمين بالترحاب واصطحبنا إلى فندق صغير في كمبالا كان مكتظا بالزوار. أُعطي العقيد جناحاً خاصاً من غرفتين، واحدة لمنامه والأُخرى لمقابلاته. أما أنا فقد خصصت لي غرفة في فندق صغير وعين لي مرافق أوغندي خاص. كان يرافق العقيد في نفس الطائرة أربعة من أعضاء مجلس قيادة الثورة، هم عمر المحيشي، بشير هوادي، وعوض حمزة ومحمد نجم. اغتنمت الفرصة بانشغال العقيد في جلسات المؤتمر، وحاولت أن أتعرف على معالم كمبالا سيراً على الأقدام. وجدت المدينة فقيرة، لكنها نظيفة. كان الأطفال متجهين إلى مدارسهم حفاة القدمين في ثياب رثة، لكنها نظيفة أيضاً. وبالرغم من الفقر، لم أرَ متسولاً. سألت المرافق مستغربا «الناس فقراء ولا أرى متسولين! « فقال: «لماذا يتسولون؟ فمن يجوع يذهب إلى الغابة فهي مليئة بالفواكه والخضر ولحم الطيور والأرانب». بعد أحد الاجتماعات، قرع الهاتف في الجناح الرئاسي، فسارع إليه السكرتير الخاص أحمد رمضان ثم التفت مخاطبا العقيد «إنه يتكلم لغة أجنبية». وعلى الفور أشار له بإعطائي السماعة. كان المتحدث هو جوناثان سافيمبي، قائد حركة التمرد في أنغولا، يطلب تحديد موعد لمقابلة العقيد الذي رفض، فما كان مني إلا أن أبلغته بأنه غير موجود حاليا، وسأبلغه عند قدومه. لم يقابله العقيد في تلك الرحلة. أثناء انعقاد الجلسات، لم يخرج أعضاء مجلس قيادة الثورة المرافقين من غرفهم بتاتا، ولم يحضر أي منهم اجتماعات المؤتمر. ظننت أنهم منهمكون في شرب الخمر ليس إلا. بعد ذلك فهمت ماذا كان يدور في تلك الغرفة. انتهى المؤتمر وعدنا عن طريق السودان، حيث إن بومدين غادر المؤتمر قبل انتهائه. هبطت طائرتنا في الخرطوم للتزود بالوقود. رفض العقيد النزول للاستراحة في المطار، كما أصدر أوامره للجميع بعدم الهبوط. حضر أحد أعضاء الحكومة السودانية ورجا العقيد النزول فهو في بلده وبين أهله، وبحركة دبلوماسية، هبط العقيد وحده إلى أرض المطار، وبقي بجانب سلم الطائرة يتحدث إلى ذلك المسؤول. بعد ذلك أقفلنا راجعين من فوق تشاد لتجنب الأراضي المصرية. علمت من نوري المسماري، رئيس التشريفات، بأنهم لم يطلبوا الإذن من السلطات التشادية بسبب سوء العلاقات معها. وبعد أن عدنا إلى طرابلس، استأذنت العقيد للذهاب في رحلة تشمل سويسرا وإيران ولبنان والأردن. وعند عودتي علمت بأن النقيب عمر المحيشي ولفيفا من زملائه كانوا يعدون العدة لانقلاب. قُبِضَ على الجميع ما عدا عمر المحيشي الذي هرب براً إلى تونس ثم إلى القاهرة. عند ذلك أدركت ما كان يدور في الفندق في كمبالا. لم يكن أعضاء مجلس قيادة الثورة يخمرون وإنما كانوا يعدون العدة لانقلاب بعيداً عن أعين المخابرات الليبية. بعد القبض على مدبري الانقلاب واتضاح دور الرائد الحريري، الذي أُعلنَ أنه كان المنسق العام لتلك المحاولة، تأكدت أن لقاء الحريري والفرجاني كان لغرض ضم سلاح الجو للانقلابيين، وأن حضور بومدين وإلغاء اللقاء بين الفرجاني والحريري أنقذ رقبة العقيد الفرجاني، وإلا كان مصيره كمصير الآخرين. في أوائل مارس 1976 وفي ذكرى انطلاق الثورة الشعبية (الكتاب الأخضر)، اجتمع مؤتمر الشعب العام. فجأة حضر العقيد القذافي للمؤتمر الذي كان مذاعاً على الهواء مباشرة، وأخذ يكيل الشتائم والنعوت السيئة لمن فكر في مشروع الكفرة. كان أمين اللجنة الشعبية العامة – رئيس الوزراء – المهندس جاد الله عزوز الطلحي حاضراً الجلسة. ونعت المشروع بالفاشل ومن صممه بالغبي وطلب محاكمته، مما أطلق العنان لأعوان العقيد لكيل المزيد من السباب والتهم والمطالبة برأس المتسبب. وجهت الاتهامات إلى لمهندس جاد الله عزوز الطلحي، ولاستغرابي الشديد لم ينبس ببنت شفة، مع أنه لم يكن له دخل من قريب أو بعيد في هذا المشروع. هنا استرسل العقيد يخطب إلى أن وصل إلى ما أسماه النهر الصناعي العظيم، وأن الصحراء لا تنبت المبادئ والأخلاق والفكر فقط (مشيراً بذلك إلى نفسه ونظريته العالمية الثالثة)، بل ستروي العطشى. ثم بلغ الحاضرين بأنه اكتشف بأن الصحراء تعوم فوق بحور ماء عذبة ثلاثة، وأنها ستزود المدن الساحلية بالماء من خلال نهر صناعي عظيم. تذكرت لقاءنا في صحراء طبرق، فبدأت أتساءل، خصوصاً بعد أن زاد اللغط حول هذا المشروع، «هل ارتكبت خطأً ؟ وهل تسببت في إهدار أموال ليبيا؟». أستاذ أمراض القلب والطبيب الخاص لمعمر القذافي سابقا