بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    الكلاع تهاجم سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين المدانين في قضايا اعتداءات جنسية خطيرة    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المغرب يفاوض الصين لاقتناء طائرات L-15 Falcon الهجومية والتدريبية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملازم يهزأ من رئيس الأركان في حضرة القذافي
قائد ثورة الفاتح يأخذ المشورة من سائقه ومن طبيبه الأجنبي
نشر في المساء يوم 23 - 12 - 2011

كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما)
لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها.
هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته.
أثناء رحلة العودة، ضربت طائرتنا صاعقة كادت تودي بنا إلى التهلكة، إذ سمعنا صوتا عاليا جدا، وكأنما جسم ارتطم بالطائرة، التي اهتزت بشكل عنيف فأصبحت كالفراشة ترقص في مهب الريح، وما هي إلا ثوان حتى استعاد الطيار سيطرته على الطائرة. ثوان مفزعة ولكنها بدت كأنها ساعات.
عام حافل بالأحداث، فبعد أن عدنا من تونس إلى طرابلس، غادر العقيد إلى مدينة طبرق براً من أجل الاحتفالات بالذكرى السنوية لجلاء القوات البريطانية يوم 28 مارس. تأخرت عن الركب قليلا بسبب ظروف عائلية، لكني لحقت به في اليوم الثاني. وقع في هذه الرحلة أول صدام لي مع حرس العقيد، حيث فوجئت بآمر رتل جديد هو رئيس العرفاء سعد مسعود، الذي كان يلقب ب«بلال» تشبها بالصحابي الجليل، لأنه أسود اللون ويحاول الالتصاق بالعقيد وإظهار أقصى درجات الإخلاص والاهتمام. وصلت متأخرا فوجدت العقيد يقيم في فيلا على البحر من أملاك عمر الشلحي قريبة من مدينة طبرق. طلبت من آمر الرتل إيجاد مكان لإقامتي فأجابني بأن «العقيد نايم حاليا ولا نعرف في أي غرفة هو ولا أستطيع الدخول وإزعاجه». قلت له: «ما العمل؟» فأشار إلى مبنى قريب وقال: «يمكنك النوم هناك». ذهبت حيث أشار، ففوجئت بأنها إسطبلات، كما وجدت الطبيب الباكستاني محمد أبرار، الذي كنت قد أرسلته مؤقتا ليحل مكاني. استيقظ عندما دخلت وبدأ يشكو ويرجوني أن أعيده إلى طرابلس. طمأنته وتركت الإسطبل عائداً إلى آمر الرتل، وقلت له: «هل تعرف ماذا يكون ذلك المبنى؟ إنه إسطبل» فأجاب «ولكن الطبيب الآخر وجد مكاناً لينام فيه»، فقلت له: «المبنى إسطبل، ولا يمكنني النوم إلا في المكان المناسب لمقامي وكرامتي». أجابني «ليس لدي مكان» فقلت له: «سأذهب إلى أقرب فندق في طبرق وإن كانت بلدك غير قادرة على دفع تكاليف إقامتي فيه سأدفعها بنفسي»، وأضفت «لقد أصدرت تعليماتي للطبيب الباكستاني بأن يعود إلى طرابلس غدا وعليك توفير وسيلة مواصلات له». فوجئ بعنفي وقال: «الحكايه مش فلوس راهو كان العقيد طلبك نحصلوا». قلت له: «أنا لست تحت إمرتك. هذه تعليمات القائد، وإن طلبني سأشرح له كل ما دار بيني وبينك». هنا طلب من أحد السائقين أن يصحبني إلى نادي الضباط في معسكر طبرق، حيث نمت في مكان لائق تتوفر فيه الوسائل المعقولة للراحة. وكان الدرس الأول لمن حول العقيد في كيفية التعامل معي. لحقه في صباح اليوم التالي درس آخر، وكان مع الجندي سائق السيارة الذي حضر ليقلني للالتحاق بالرتل. عند حضوره في صباح اليوم التالي، كنت الوحيد الذي يرتدي ملابس مدنية، بادرني بالنداء «يا ولد يا ولد». استشطت غضبا وانهلت عليه سبا وشتما بأقذع العبارات والصفات. فوجئ الجندي بهذا التصرف وبدأ يعتذر، وأفهمني بأنهم هكذا يتعاملون في الجيش وينادون الشخص برتبته ومن لا رتبة له ب«يا ولد».
انتهت الاحتفالات وكان من المرافقين الذين انضموا إلينا في طبرق صديقي المقدم أحمد محمود رئيس المحكمة العسكرية، الذي أصبح رئيساً لديوان الرقابة الإدارية، والمقدم أبوبكر يونس جابر، رئيس الأركان العامة والقائد العام للقوات المسلحة، والملازم أول إدريس الشهيبي من «قبيلة أولاد علي» الموجودة على جانب الحدود المصرية الليبية. كان واضحاً أن هذا الملازم كان من المقربين للعقيد، لكنه بعد ذلك حاول الانقلاب عليه فانكشف أمره فهرب إلى أبناء عمومته في مصر. كان أثناء الجلسات المتكررة يتجرأ على أبوبكر يونس جابر مزاحاً واستهتاراً أمام العقيد، مما جعل الجميع يسخرون منه. عجبت لهذا النظام العسكري الذي يسمح لملازم أول بأن يهزأ برئيس الأركان والقائد العام وعضو مجلس قيادة الثورة وصديق وزميل ورفيق الدرب للقائد الأعلى للقوات المسلحة وبحضوره.
في إحدى جلسات المسامرة، أقنع الملازم إدريس العقيد بأن هناك وادياً في صحراء طبرق يصلح بأن يحول إلى مزارع، فقرر الاتجاه في اليوم التالي إلى ذلك الوادي بمرافقة الرتل كله. عند وصولنا إلى أولى مجموعة من بيوت الشعر، استل العقيد مسدسه وأخرج يده من نافذة سيارته «الرينج روفر»، وأطلق عدة أعيرة نارية تحية للقبيلة، وفي التو هرع أهالي القبيلة للتحية. وعندما وصلنا إلى الخيام، قدمت امرأة كوبا معدنيا مليئا بالحليب للعقيد فشرب ثم قدمه لي. نظرت إلى الكوب فوجدته في منتهى القذارة. اعتذرت للقائد وقلت له: «لا أستطيع الشرب منه، إنه غير نظيف. إن فعلت هذا، فلك عذرك لأنك رجل دولة وسياسي وعسكري ولست طبيبا، أما إن فعلتها أنا، فلا مبرر لدي وسأكون طبيبا فاشلا، ولن أكون أهلا للإشراف عليك، وتوجيه النصح لك في أمور الطب والأفضل عندها أن أنسحب». هاج المرافقون احتجاجا عليَّ، وقال أحدهم: «كيفاش القائد شَرِبْ وأنت ترفض؟» فسارع القائد قائلاً: «الطبيب على حق وانتو ناس متخلفين». كان هذا درساً للمجموعة عن ماهية هذا الطبيب. استمر الركب في المسيرة بعد توقف دقائق. كنت مع سائق يقود سيارة «رينج روفر» في الصحراء بسرعة جنونية (كبقية الرتل). وجدت أن أفضل طريقة لحماية عمودي الفقري هي ركوب السيارة كما تركب الخيل. وإلا سأصاب بكل علل العمود الفقري. أثناء هذا الجري الأحمق، لمحت لوحة مكتوباً عليها «منطقه ألغام يحظر الدخول». لشدة استغرابي واصل الركب السير بالطريقة الجنونية ودخلنا تلك المنطقة. كان يقود سيارة العقيد الملازم إدريس. وبعد مدة وصلنا إلى المنطقة المقصودة، تفقدها العقيد وقرر إنشاء مزارع في ذلك الوادي. كان طعام الغداء عبارة عن لحم شواء، ثم قدمت لنا الحلوى، وكانت عبارة عن خوخ معلب وضع في إناء معدني كبير يدعى باللهجة المحلية «قصعة»، قدم للعقيد مع عدة ملاعق. عند ذلك استدرك العقيد قائلاً: «لا تستعملوا الكواشيك. الطبيب لن يأكل إن استعملتوها». الكواشيك باللهجة المحلية الليبية تعني الملاعق». كان يتكئ على شجرة صغيرة فقطع منها عدة أغصان صغيرة وقدم لي إحداها وطلب من الآخرين أن يحذوا حذوه. لما انتهت جميع قطع الفاكهة قال مخاطبا مرافقيه: «توا خذوا القصعة وعوموا فيها».
حل الظلام، وبدأت النجوم تتلألأ في السماء. هنا انفرجت أسارير العقيد وأخذ يعلمني الفلك. بدأ النقاش في موضوع الفضاء وآخر ما وصل إليه، وعن الكرة الأرضية واستدارتها، وأن اختلاف الفصول ما هو إلا بسبب ميلان قطر الأرض العمودي. أثناء تلك الجلسة أبلغت العقيد عن بحثٍ نُشِرَ سابقاً في «مجلة العربي»، التي تصدر في الكويت وكان رئيس تحريرها الدكتور أحمد زكي، فحواه أن هناك ثلاث بحيرات ماء ضخمة تحت ليبيا، واحدة على الحدود المصرية، وأخرى على الحدود الجنوبية بين ليبيا وتشاد، والثالثة على الحدود الجنوبية الغربية بين ليبيا وتشاد والنيجر. استغرب العقيد، واستغرق في التفكير، ثم أصدر أمراً لأحمد رمضان (سكرتيره الخاص) بالحصول على نسخة من ذلك العدد الذي نشر فيه ذلك البحث.
لا يجب أن يفوتني الحديث عن الصحراء ليلا، وعن السكون الرائع والظلمة الحالكة. كل هذا وفر لي صفاء ذهن شعرت معه أنه يمكنني حل أعقد المشاكل وأعوصها، كما أدركت سبب قوة الشعر العربي القديم.
أستاذ أمراض القلب والطبيب الخاص لمعمر القذافي سابقا
د. الإدريسي الخيري خالد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.