كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما) لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها. هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته. خلال العمل الروتيني اليومي نمت وترعرت صداقتي مع أعضاء مجلس قيادة الثورة قاطبة ما عدا مصطفى الخروبي لأنه إنسان بسيط متوكل على الله لا يؤمن بالطب الحديث ويتصور أن الله سيشفي المريض اعتمادا على الآية الكريمه «وإذا مرضت فهو يشفين». حاولت عدة مرات أن أقنعه بأن هذا الكلام سليم ولا غبار عليه، وأن الطبيب ما هو إلا جندي من جند الله يسخره لتنفيذ إرادته، لكنه لم يقتنع. عام 1972 كان حافلا بالأحداث، منها حادثة تحطم السيارة التي كانت تقل الرائد عبد السلام جلود والنقيب امحمد المقريف بالقرب من مدينة الخمس، والتي نجا منها الرائد عبد السلام بأُعجوبة وبدون أي خدش، بينما توفي امحمد المقريف والسائق والمرافق. في تلك السنة أيضاً مرض العقيد معمر القدافي مرضاً طالت مدته، مما أدى إلى استدعاء أطباء مصريين لعلاجه بسبب تحكم وتكتم المصريين على الأمور التي تخص العقيد في تلك الفترة. عند ذاك زاره أنور السادات. في نفس الفترة كنت قد رتبت زيارة لجراح قلب العقيد عبد الخالق ترزاكي واختصاصي التخدير اللواء محمود الجوهري، والطبيبان من أُطر مستشفى المعادي العسكري المصري. كانت فترة الزيارة محددة في أسبوعين. بدأنا بإعداد الخطة والتجهيز لعمل عمليات قلب غير مفتوح، لكن اتضح لنا أن تلك الفترة غير كافية لإتمام ما قررناه، وأنه يلزم تمديدها، فأبلغني الدكتور ترزاكي أن الوحيد الذي يمكن أن يحل المشكلة فوراً هو أنور السادات. اغتنمت فرصة وجوده في ذلك الوقت في منزل العقيد وأرسلت رسالة شفهية مع الدكتور مفتاح إلى العقيد بالموضوع، فقام على الفور بأخذ موافقة السادات على تمديد فترة زيارة الطبيبين لمدة أسبوعين آخرين. في نفس العام حصلت ثورة الشيوعيين في السودان على جعفر النميري، والتي تكللت بالنجاح في أول الأمر، فألقي القبض على النميري وزج به في السجن. واستدعى الانقلابيون رئيسهم هاشم العطا، الذي كان يتلقى العلاج في بريطانيا. وأثناء عودته إلى الخرطوم، مرت طائرة الخطوط الجوية البريطانية (بي أو إيه سي) فوق مدينة بنغازي، فأجبرتها السلطات الليبية على الهبوط في مطار بنينة، وألقي القبض على هاشم العطا وزجّ به في السجن في ليبيا.فشل انقلاب الشيوعيين وعاد جعفر النميري إلى الحكم. من المعلوم أن ليبيا في ذلك الوقت لم يكن لديها سلاح جوي ولا إمكانية فنية لإرغام طائرة على الهبوط لو لم يكن قائد الطائرة أصلاً راغباً في ذلك، وأغلب الظن أنه كانت لديه تعليمات بهذا الخصوص، وأن الأمر رُتِبَ بين المسؤولين في بريطانيا وليبيا لعدم إحراج الإدارة البريطانية، في حالة اعتقاله على أراضيها. سردت هذه الحادثة لأهميتها ولأنها بالنسبة إلي كانت المؤشر الرابع في غضون سنوات قليلة. فالمعروف دوليا أن اعتراض طائرة في الجو وإجبارها على الهبوط هو عدوان صارخ على الدولة مالكة الطائرة (بريطانيا العظمى). لم تحرك بريطانيا ساكنا ولم تحتج!!. وزاد الأمر وضوحاً أن التلفزيون الليبي أذاع مقابلة مع اثنين من أعضاء مجلس قيادة الثورة، هما بشير هوادي وعمر المحيشي. وكان من بين الأسئلة التي وجهها المذيع إلى بشير هوادي: «سيدي كيف عرفتم أن العطا موجود على متن الطائرة؟ وهل احتجت بريطانيا على هذا العمل البطولي؟!» استشاط هوادي غضباً ونهر المذيع قائلاً: «لا تسأل أكثر من اللازم، مش شغلك «وانتهى اللقاء بهذه العبارة. تساءلت: «لماذا لم تحرك بريطانيا ساكنا؟!». أثناء تلك الفترة (في أوائل 1972) اعتكف العقيد القذافي في مدينة سلوق (في شرق ليبيا وهي المدينة التي نقل إليها رفات شيخ الشهداء عمر المختار من بنغازي فيما بعد) وأَصرّ على التنحي وترك مجلس قيادة الثورة. هاج الشعب واتجهت الوفود إلى تلك المدينة مصرة على عودة العقيد وبقائه، لدرجة أن بعض المسؤولين كمحمد حجازي وعلي الشاعري أحضروا أطفالهم وهددوا بذبحهم إن لم يرجع عن قراره. عاد العقيد إلى السلطة وكان هذا أول دعم شعبي مباشر وشخصي له. كانت هذه الفرصة الأولى أمام أعضاء مجلس قيادة الثورة للخلاص من معمر القذافي لو أنهم كانوا يعلمون ما يخفيه لهم من نوايا خبيثة. في هذه الفترة أيضا اشتكى الدكتور حسن ندا، أحد الطبيبين المصريين المكلفين بمجلس قيادة الثورة، من ذبحة صدرية وسافر إلى القاهرة للعلاج ولم يعد، فتبعه الطبيب الثاني الدكتور محمد العبد، وكُلِّفَ الدكتور إبراهيم دهان (ليبي، أمازيغي من مدينة زوارة) بالأعمال الإدارية لعيادة مجلس قيادة الثورة لأن العلاقات بين السادات والقذافي بدأ يشوبها الاضطراب والتأزم. في شهر يونيو من عام 1972، اصطحبني الدكتور مفتاح إلى بيت العقيد القذافي، وكان الرائد عبد السلام جلود قد سبقنا إلى هناك، أدخلنا إلى بيت جانبي، ربما كان في السابق بيت العساس أو الخادمة أو ما أشبه، حيث وجدنا العقيد مستلقياً على سرير «عسكري»، لا يريد الحديث، زاهداً في كل شيء، وغير مكترث. قمت بالكشف عليه ولم أجد جديدا في صحته العضوية.كان واضحا أنه مصاب بالإحباط. وبسؤاله، اكتشفت أنه أصيب بسعال وألم بالصدر في الأسبوع المنصرم نتيجة التهاب الشعب الهوائية بسبب مرض الأنفلونزا. دون معرفة الوزير أو أي من المسؤولين، استدعى له أحد أقربائه طبيباً تركياً كان يعمل في عيادة خاصة في مدينة طرابلس. كان يعرف عنه بأنه يمارس النصب في مهنته، وطالما اشتكيت لوزير الصحة منه، وكان جوابه «لا أستطيع عمل شيء لأن بعضاً من أقرباء العقيد يساندونه». تفحصت الأدوية فوجدت من بينها دواء «كالسي برونيت»، الذي يحتوي على مادة «البرومين» المهدئة للأعصاب، ولكنها تسبب الإحباط كأحد أهم آثارها الجانبية، وكانت تعليمات قد صدرت من وزارة الصحة بإيقاف استعماله. شرحت للعقيد والرائد عبد السلام الأمر وأشرت بعدم استعمال ذلك الدواء فوراً وإزالته. كما أنني اغتنمت الفرصة وبحثت الأمر مع الرائد عبد السلام جلود واقترحت عليه ترحيل ذلك الطبيب فورا من ليبيا، وكان لي ما طلبت. وكانت هذه الفرصة الثانية التي أضاعها عبد السلام جلود للخلاص من معمر لو أنه كان يعلم ما يكنه لأعضاء مجلس قيادة الثورة ولليبيا معا من استفراد بالسلطة والقضاء على المنافسين، وأهمهم أعضاء المجلس. سافر العقيد إلى القاهرة في شهر نوفمبر 1972 لمحاولة إصلاح ذات البين وقابل السادات في قريته (ميت أبو الكوم) وصدر بيان «أخلاق القرية» رمزاً لما يجب أن يسود العمل به بين ليبيا ومصر. كنت وإبراهيم دهان برفقة العقيد، الذي كان في منتهى التجهم، وعلق قائلا: «أتمنى أن تسود بيننا الأخلاق، أية أخلاق؟ أخلاق القرية أو أخلاق الصحراء؟ ما يسود بيننا الآن هي سياسة الثلاث ورقات». وكانت هذه أول مرة أراه فيها يدخن سيجارة. كان ضمن الوفد الأخ محمود البكوش، القائم بالأعمال الليبي في القاهرة آنذاك . كان حائراً يغدو ويجيء. وعند سؤاله عن مشكلته، قال لي: «إن المصريين يرفضون تزويد طائرة العقيد بالوقود إلا إذا دفعنا لهم المبلغ نقداً». استغربت وتساءلت: أين أخلاق القرية وأين ضيافة القرية؟. لا أعرف كيف حلت المشكلة، لكننا عدنا بنفس الطائرة إلى بنغازي ثم إلى طرابلس في اليوم التالي. من الأشياء التي أعتقد أنها جديرة بالذكر أيضا أنه في هذا العام أُحضر لي ولي العهد من سجنه بسبب أمراضه الكثيرة. ولما هممت بفحصه رفض حراسه مغادرة الغرفة. اتصلت بالرائد بشير هوادي وأبلغته «بأنني لن أقوم بفحص أي مريض، سواء كان ولي عهد أو كناسا، تحت حراب جنودكم» .اعتذر لي ووبخ الحراس وأمرهم بترك الغرفة فوراً. نمت بيني وبين ولي العهد علاقة جيدة، هو استلطفني وأنا أشفقت عليه. كان طيب القلب بسيطا لم يحصل على أي شيء في دنياه، فأيام الملكية لم يكن له أي دور ومهمل وغير محبوب من قبل الملك، وأيام الثورة زج به في السجن، زد على هذا أنه كان مصابا بعدة أمراض. تكررت زيارته لي في المستشفى حتى خروجه للإقامة الجبرية في منزله حيث بدأت أزوره بين الحين والآخر. ومما متن علاقتي بالعقيد بصفة أكثر من طبيب، بدء عائلته بالتردد عليَّ: أختاه سالمة والزاضمة وزوجاهما وأبناؤهما وعبد الرحيم الساعدي، وهو أحد أقربائه المقربين وساعده الأيمن والمكلف بشؤونه الشخصية وخادمه الأمين الذي كان يتمتع باحترام وثقة العقيد به كأخ وأب. كنت أدخل بيوتهم بالترحاب عندما أُستدعى، وأعامل كفرد من أفراد العائلة، فهم أناس بسطاء، بدو، ويتصرفون على سجيتهم. ذات مساء، في ديسمبر من العام نفسه، كلفت بالسفر إلى القاهرة كعضو ممثل لوزارة الصحة وكلية الطب بجامعة طرابلس لحضور جلسات مؤتمر اللجنة المكلفة بإعداد القاموس الطبي عربي – إنجليزي –فرنسي. وبينما كنت أستعد للسفر، على الساعة الثامنة مساء، استمعت إلى نشرة الأخبار في الإذاعة المحلية، فورد في الخبر الثالث أن العقيد أصدر أمراً بتأميم شركة «بريتش بتروليوم». استمر المذيع يتلو الأخبار، وما هي إلا دقائق حتى قال بدون مقدمات: «وإلى غد مشرق» ثم انقطع الإرسال. أسرعت إلى التلفاز، فوجدت الإرسال قد انقطع على غير العادة. تيقنت أن شيئاً جللاً قد حصل. وبسرعة جمعنا حاجياتنا وحملت ابني البكر الذي لم يكن يتجاوز عمره الثمانية أشهر وأسرعنا إلى بيت والدي، الذي كان يسكن بالقرب منا. قلت لزوجتي: «إذا كان ما حصل هو انقلاب، فأغلب الظن أنهم سيطلبوني للتحقيق في مدى وأبعاد علاقتي بالعقيد. والله وحده يعلم كم سأغيب. هنا عند الوالدين سأكون مطمئناً عليكما». قضينا الأمسية، ولم نلاحظ أي تحركات غريبة في البلد ولا تعليمات. في صبيحة اليوم التالي، كانت الحركة والحياة تسير كالمعتاد. اتجهنا إلى المطار ولم نلحظ أي شيء غير عادي، ثم غادرنا ليبيا وعدنا ولم نلحظ أي تغيير. زاد إصراري على معرفة ما حصل. وبعد أيام استدعيت لمقابلة العقيد. وبينما أنا في الانتظار، سألت أحمد رمضان (سكرتيره الخاص) عما حصل في تلك الليلة، فأجابني «كان العقيد يستمع إلى نشرة الأخبار ومعه أبو بكر يونس جابر، ففوجئ بأن قرار تأميم شركة «بريتش بتروليوم» ذكر كثالث خبر وليس في الأول، فطلب مني أن أبلغ المسؤولين في الإذاعة بأمر منه بوقف الإرسال وإقفال الإذاعة. لم يأخذ المسؤولون كلامي على محمل الجد، واستمروا في العمل. هنا طلب العقيد من أبوبكر يونس أن يذهب لإقفال الإذاعة. وقبل أن يذهب أبوبكر اتصل بالمسؤول وقال له: «راني جاي وحنقتل كل فرخ نلاقيه في الإذاعة». ولما كان الكل يعرف سذاجة أبوبكر، أوقف الإرسال وأغلقت الإذاعة على عجل وفرّ جميع العاملين. د. الإدريسي الخيري خالد - أستاذ أمراض القلب والطبيب الخاص لمعمر القذافي سابقا