كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما) لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها. هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته. عادت الأمور إلى سابق عهدها وعدت للعمل الروتيني، كفاحاً للرقي به، تقابله مشاكل لها أول لكن ليس لها آخر. واستمر دعم وزير الصحة بكل ثقله لي ولغيري من المخلصين من الزملاء. كل ما كان يطلبه منا هو العناية بالمرضى بكل ما أوتينا من معرفة ومقدرة. لم يبخل على الخدمات الطبية بشيء مادي أو معنوي. كرس كل حياته لعمله وواجبه ونسي أهله وأبناءه. كانت المشاكل أكبر منا ومنه. كل هذا لم يفتّ من عضدنا واستمر العطاء والإنجاز تدريجيا إلى أن وصلت الخدمات الطبية في عام 1976 إلى القمة بتتويج كفاحنا (الوزير والمرحوم الدكتور محمد موسى الريس وأنا) عبر عمل أولى عملية قلب مفتوح في مستشفى القلب الكائن في ضاحية تاجوراء. أذاعها التلفاز على الهواء مباشرة، وشاهدها العقيد معمر، إذ أبلغته شخصيا بموعدها. وقد سألني العقيد مراراً على شكل ممازحة «زعما الراجل اللي ذبحتوه كيف الشاة ما زال قاعد عايش؟». وبسبب تكرار سؤاله، أحضرت له المريض وتحدث معه واطمأن عليه. وقد سبقتنا الخدمات الطبية الأخرى في الإنجاز، ففي عام 1973، افتتح مستشفى النساء والولادة وكان يضم خيرة الكفاءات الطبية العربية (الدكتور سليمان الجاروشي الفلسطيني، الدكتور وفيق عبده المصري الدكتور علوبه سوداني الأصل مصري الجنسية، والدكتور إبراهيم المنتصر الليبي) وكان صرحاً يشار إليه بالبنان ويشهد له بالكفاءة الفنية والمستوى الرفيع. كما افتتح مستشفى للأطفال وبُذِلَ جهد شاق لإتمامه، وكان منسق هذا العمل العظيم الدكتور المرحوم فايق الدجاني، وكذلك مستشفى آخر للعيون بكوادر معظمها عربية مؤهلة تأهيلاً عالياً. كما تم تحديث مستشفى أمراض الصدر والسل وَزُوِدَ بخبرات عالية مما أدى في وقت قصير إلى التحكم بمرض السل الرئوي الذي كان واسع الانتشار قبل الثورة. كذلك انتشرت العيادات والمستشفيات الريفية في كل أنحاء البلاد. ذكرت هذه النقطة لأكثر من سبب: أولها، إنصافاً لذلك الرجل (الدكتور مفتاح الأسطى عمر)، الذي تفانى في عمله وأفنى عمره من أجل الواجب المنوط به، والذي انتهى به الأمر أن سقط صريع ذبحة صدرية أثناء عمله، فأدخل المستشفى وأجريت له عملية قلب مفتوح، ليقف مرة أخرى ويستمر في العطاء غير المسبوق. ثانيها، إنصافاً لزميلي المرحوم الدكتور محمد موسى الريس، الذي لولا جهده وتفانيه وخبرته وتجرده لما رأى مستشفى القلب النور. ولبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة (العقيد معمر، الخويلدي الحميدي، عمر المحيشي، وبشير الهوادي) حيث كانت زياراتهم لا تنقطع عن المستشفى وعني بالذات، وسؤالهم عن أي عقبات وعما يمكن أن يقدموه لنا من مساعدة وما أكثر ما قدموه، خصوصا الرائد الخويلدي الحميدي، الذي أثبت بحق أنه إنسان مثقف، مرهف الحس، كريم، وخدوم. لقد قدم دعماً وعطاءً مستمراً وغير محدود، ونمت بيننا صداقة حميمة امتدت لتشمل بقية عائلته (عمه الحاج بالقاسم ووالده الحاج محمد ووالدته الحاجة أم الخير وبقية العائلة). وثالثها، إعطاء القارئ صورة واضحة عن حماس شباب الثورة والتغييرات الهائلة التي تحققت على أيديهم في تلك الفترة. تلك التحولات الجذرية التي شملت كل القطاعات، والتي حولت ليبيا والشعب الليبي من دولة فقيرة ذات شعب يعيش تحت خط الفقر بدرجات وتنتشر فيه أكواخ الصفيح في كل مكان، إلى دولة مزدهرة وضعت ذلك الشعب على الطريق المؤدي إلى الرفاهية في أقل من أربع سنوات (1969 - 1973 ). هنا لا بد من ذكر حكاية معبرة عما نحن بصدده. حدث يوماً أن حضر النقيب امحمد المقريف إلى المستشفى لزيارة أحد أقربائه، فرافقته، ولما اطمأن عليه، اتجهنا إلى مكتبي لاحتساء كوب من الشاي، فبادرني بالسؤال: «دكتور ماذا ينقصكم؟ أرجوك لا تتردد، فنحن نرغب في خدمة البلد وباستطاعتنا تلبية أي طلب». أجبته قائلا: «شكراً. الدكتور مفتاح يفي بكل متطلباتنا، ويوفر لنا كل ما نريد، أما ما لا يستطيع الوزير تقديمه فلن يستطيع أحد أن يوفره». فوجئ بالرد وقال: «كيفاش؟»، فأجبته: «كل الأمور المادية من أجهزة ومعدات وأدوية ومستلزمات طبية يوفرها لنا الوزير بكل كفاءة وفي الوقت المناسب، أما ما لا يستطيع عمله فهو خلق العنصر الوطني المؤهل والحريص على العمل، هذه هي أكبر وأصعب مشكلة تواجهنا، وقد لجأنا إلى استيراد العناصر الأجنبية المؤهلة من جميع أنحاء العالم، خصوصا الدول العربية وأوروبا الشرقية وكوبا، وكانت تواجهنا مشاكل لا حصر لها مع تلك العناصر. من هذه المشاكل اللغة والتأهيل المتدني. زد على كل هذا عدم الانتماء، واختلاف العادات بشكل كبير، وهذا حل مؤقت لا بد من وضع خطة طويلة الأمد لتوفير العناصر الوطنية المؤهلة لكل منصب شاغر». هنا استوعب المرحوم المقريف بُعد وصعوبة المشكلة، ونهض وغادر المكتب شاكراً. لم تكن هذه الزيارة الأخيرة فقد كرر هو وزملاؤه الزيارات بشكل منتظم. ومما يجدر ذكره بهذا الصدد أيضا، الزيارات المتكررة للرائد مختار القروي (وزير المواصلات في أول عهد الثورة). كان كثير التردد، خصوصا في المساء، وكثير الشكوى والتعبير عن عدم رضاه عما كُلِفَ به، وبأنه رجل عسكري لا يفهم مشاكل المواصلات وإدارة الوزارة. وفجأة، قدم القروي استقالته، وكان سببها إصدار تعليمات له من العقيد بالذهاب فوراً إلى مدينة سبها، التي تبعد ألف كيلومتر لحل مشكل ما، فاعترض القروي على التوقيت بسبب حفل زفافه، فطلب منه العقيد الاستقالة. في بداية الثورة الليبية، سجن معظم المسؤولين المدنيين والعسكريين، واستمرت التحقيقات معهم. شُكلت محكمة الثورة عام 1971 برئاسة الرائد بشير هوادي والنقيب عمر المحيشي مدعياً عاماً. استمرت جلساتها العلنية إلى عام 1972. كانت الجلسات تذاع على التلفاز يوميا، مما جعلها الشغل الشاغل لليبيين، وحديث جلسات السمر وفكاهة المسامرة. ذكرتني أحداث تلك المحكمة وما وقع في بعض جلساتها بمحكمة الشعب للثورة العراقية والطرائف التي كان يرويها ويقوم بها رئيس المحكمة القاضي العراقي العقيد المهداوي. في أحد الأيام استدعيت لمنزل العقيد أثناء إذاعة جلسة محاكمة وزيرالداخلية محمود البشتي ومدير الاستخبارات العامة أيام العهد السابق، اللذين احتجا على محاكمتهما ودافعا عن نفسيهما بترديد نفس العبارة على الملأ: «لماذا تحاكمونني؟ لقد أُبلغت بأن هناك ملازماً أول يدعى معمر القذافي يعد لثورة، ولم أُحرك ساكناً ولم أَتخذ أَي إجراء». سمعت كلا التصريحين، كما سمعهما العقيد، الذي كان يجلس على الأرض وأمامه منضدة عليها أوراق ومحاط بمراجع شتى، لمحت أحدها وكان من تأليف الجنرال الفيتنامي «جياب». كان العقيد يؤلف «الكتاب الأخضر»، فعلق قائلاً: «يالطيف لقد كانوا يعرفون كل شيء، الحمد لله أنه سَلَمنا». سبق أن ذكرت أنه في عام 1970 وافقت ببساطة كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا «تحت التهديد الليبي!» على إغلاق القواعد الضخمة ومن بعدها أُجْليَ آلاف الإيطاليين عن ليبيا بدون أدنى اعتراض، والآن أعلن كل من مدير الاستخبارات العامة ووزير الداخلية أنهما أبلغا بما جرى ولم يتخذا أي إجراء . قرأت فورا ما بين السطور، إذ لا يمكن أن يجرؤ شخصان بهذين الموقعين السياسيين الهامين على كتمان هذا السر الخطير. المنطق يقول إن كلا منهما قام بتبليغ الأمر لرئيسه، ولكنهما أُمرا بالسكوت.كان هذا هو المؤشر الثاني لي على مجريات الأحداث. تمت محاكمة 200 مسؤول حكومي، وعلى رأسهم الملك إدريس وزوجته فاطمة وولي العهد وسبعة رؤساء وزارة سابقين والعديد من الوزراء. أصدرت المحكمة خمسة أحكام إعدام غيابيا، كان أحدها في حق الملك إدريس. كما حكم على الملكة فاطمة غيابياً بالسجن خمسة أعوام. أما ولي العهد فلقد نفذ عليه حكم بالسجن ثلاث سنوات. وكُشِفَ فيما بعد بشكل غير رسمي عن أنه في أواخر أيام الملك إدريس السنوسي وبسبب مرضه وكبر سنه وبسبب عدم كفاءة ولي العهد، أخذت بريطانيا تعد العدة للقيام بانقلاب، معتمدةً على العقيد عبد العزيز الشلحي من الجيش الليبي (أخ البوصيري الشلحي رئيس الديوان الملكي الذي اغتاله أحد أفراد عائلة الملكة فاطمة، وأخ عمر الشلحي) والمقرب جدا من الملك والمتزوج من بريطانية. كما قامت الولاياتالمتحدةالأمريكية بإعداد انقلاب، معتمدةً على معمر القذافي. وكان السبق للولايات المتحدة والقذافي. كان هذا هو المؤشر الثالث لي على ما وراء الأحداث وما بين السطور. د. الإدريسي الخيري خالد - أستاذ أمراض القلب والطبيب الخاص لمعمر القذافي سابقا