يساهم وجود الأحزاب، بشكل فعال، في تنمية المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية... وجعلها في صالح الشعب لأن وجود هذه التنظيمات حيوي لتقدمه وتطوره في كافة المجالات. تلعب الأحزاب السياسية دورا كبيرا في صناعة الحرية وحمايتها وصونها، كما تمتلك القدرة على نقد السلطة الحاكمة ومراقبتها ومعارضتها ووضع حد للتجاوز ومنع الظلم وضمان الحقوق السياسية للأفراد، إضافة إلى أنه باستطاعتها أن تسحب الثقة من الحكومة وتعزلها. وأهم مما سبق كونُ العمل بنظام الأحزاب يشكل بديلا لهيمنة السلطة أو أية جهة على المجتمع، إذ لو تم إلغاء قانون الأحزاب فلن تكون هناك أية وسيلة لضمان الديمقراطية. تكمن مهمة الأحزاب في إنعاش الحياة السياسية في المجتمع، مما يدعم العملية الديمقراطية ويمكِّنُ من القيام بالإصلاح المؤسسي والسياسي وإنجاز الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية. تُعد التعددية الحزبية ضرورة مجتمعية إنسانية، كما تشكل المصدرَ الأساس للتمييز بين أنظمة ديمقراطية ينهض فيها تدبير نظام الحكم على حرية التعبير وأخرى مستبدة مغلقة تخنق الحريات السياسية وتصادر الحقوق وتفرض الواحدية في كل شيء. تقتضي التعددية الحزبية أن تكون لجميع الأحزاب المتنافسة على السلطة مشاريع وبرامج تهدف إلى إصلاح نظام الحكم وتوفير ظروف العيش الكريم للشعب وإيجاد الحلول السلمية لمشاكله وأزماته؛ ومن هنا ضرورة التنافس في ما بينها لكسب ثقة المواطنين والحصول على دعمهم للوصول إلى السلطة. يستطيع الحزب دراسة المشاكل المعقدة والبرامج الحكومية وإبداء الرأي فيها عبر لجانه العلمية والتقنية المختصة، وبذلك فهو يستطيع أن يلعب دورا شبيها بحكومة ظل على غرار أحزاب المعارضة في الدول الديمقراطية، حيث يكون لكل وزير في الحكم وحتى لرئيس الوزراء نفسه ظله في المعارضة يراقب أعماله ويكشف أخطاءه. علاوة على ذلك، تلعب الأحزاب دورا كبيرا في عملية التداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات، كما تقوم بدور في إنعاش مؤسسات المجتمع المدني، وتقديم الخدمات إلى المواطنين من خلال المساهمة في حل مشكلاتهم، ناهيك عن كونها تلعب دور المؤثر في التفاعل السياسي، خاصة في عمليتي التشريع والرقابة داخل البرلمان. لكن زعامات أحزابنا المغربية هي من صُنع السلطة وتعيش في كنفها، مما جعلها وسيلة لتجميد الحياة السياسية وعقبة في وجه الإصلاح. فكيف يمكن الحديث عن انتخابات ديمقراطية عندما ينعدم وجود أحزاب قوية ومستقلة؟ ألا يتناقض هذا الوضع مع أي إمكانية للبناء الديمقراطي؟ عندما تكون الأحزاب غير مستقلة وليس لها أي تأثير فعلي في الواقع ولا تملك رؤى ولا مشاريع...، فمن الطبيعي أن تكون بدون امتدادات مجتمعية، وأن يصعب الحديث حتى عن وجودها، فأحرى عن قدرتها على البناء الديمقراطي. وهذا ما يفسح المجال للسلطة كي تفرض الواحدية السياسية على المجتمع، وبالتالي تغيِّب شروط إجراء انتخابات سليمة وإقامة مؤسسات منتخبة فعلية وتداول سلمي للسلطة... وهذا ما جعل أحزابنا لا تمثل المجتمع، بل إن زعاماتها لا تهتم إلا بالمقعد، حيث إن هذا الأخير هو عندها أعلى من الوطن ذاته. يُفترض أن تكون للأحزاب هياكل ينتخبها كل أعضائها، وأن تستمد أجهزتها التقريرية والتنفيذية شرعيتها من هذه الانتخابات بالذات ومن تداول المسؤولية داخلها... يلزم المسؤول السياسي الحزبي التحلي بحصانة نفسية تحميه من أسر كرسيه وغواياته؛ فقد يدمنه ويقدم كل شيء في سبيل البقاء فيه...، لكننا نجد أن زعاماتنا السياسية قد وضعت في ذهنها أنها والحزب كيان واحد، وبالتالي منحت نفسها حقَّ أن تفعل به وبأعضائه ما تشاء. لذا، ينبغي أن يفهم المسؤولون السياسيون أن الديمقراطية ليست حصانة للبلد أو للحزب فحسب، بل هي أيضا حصانة وحماية لهم من الوقوع في إغراءات الكرسي الناجمة عن الاستبداد والانفراد بالقرار... عندما يتوهَّم المسؤول الحزبي أنه محور الحركة والفكر والنشاط والحزب والوطن، فإنَّ الأصوات الصادقة والتصورات الجادة المختلفة معه التي قد تجدد فكره وتوسع أفق رؤيته وتعمقها، تلك الأصوات تتفرق من حوله، فيصاب آنئذ بتخلف الفكر وجموده، فتفوته الاستفادة من دروس الحياة وتجاربها ويتكلس عقله، مما ينعكس سلبا على مواقفه وقراراته وأفعاله وردود أفعاله لأنه يكون قد سجن نفسه داخل حلقة من الزيف، فتغيب عنه، بالتالي، الرؤية السياسية المحيطة بالواقع، بل قد ينكر هذا الواقع حتى ولو لاحظ من حين إلى آخر مؤشرات سوء الأحوال، لأنه يكون قد مَاهَى الحزبَ مع شخصه. وإذا ما حوصر بأسئلة أو انتقادات، فإنه يلقي باللائمة على الشعب... فمثلا، عندما يواجَه بمسؤوليته عن غياب الديمقراطية، فإنه يحمل الشعب المسؤولية باعتباره يفتقر إلى ثقافة الديمقراطية. ولا يمكن استساغة مثل هذا المنطق ممن يفترض أنه يمارس السياسة ومكلف بمسؤولية عمومية في بلده. إنَّ ثقافة الديمقراطية لا تنعدم لدى المغاربة، لكنها محجوبة عنهم قسرا بفعل قيام الحياة السياسية على الخضوع القهري للسلطة، مما أخرج الشعب من المشاركة في القرار والاختيار الحر لنمط تدبير شؤونه وبرلمانه ومسؤوليه... وحينما يواجَه هذا المسؤول بالحقائق والتحليلات والحجج الدامغة على سوء تدبيره للأمور، فإنه، في قرارة نفسه، لا يعبأ بما يقال عن رؤاه وممارساته، فيلجأ إلى ترك الناس تتكلم اعتقادا منه أنها ستنفس عن نفسها. ينجم عن ذلك انقطاع صلة هذا الصنف من المسؤولين بالمجتمع وبما يدور فيه، بل إنهم لم ينعزلوا فقط عما يجري في الداخل، بل وكذلك عما يجري في العالم المحيط ببلادنا والذي يصرخ في وجهنا بأن التغيير صار هو فلسفة العصر وقاعدة عمله، وأن كل الأفكار والتصورات والمسلمات التقليدية في السياسة والاقتصاد والأمن القومي والعلاقات الدولية هي الآن بصدد التغيير. لقد عبر الشاعر نزار قباني عن ذهنية الزعيم العربي في واحدة من قصائده المشهورة، قائلا على لسان هذا الزعيم نفسه: كلما فكرت أن أعتزل السلطةَ ينهاني ضميري.. من تُرى يحكم بعديَ هؤلاء الطيبين؟ من سيشفي بعدي الأعرج.. والأبرص.. والأعمى.. ومن يحيي عظام الميتين؟ من تُرى يخرج من معطفه ضوء القمرْ؟ من تُرى يرسل للناس المطرْ؟ من تُرى يجلدهم تسعين جلدهْ؟ من تُرى يصلبهم فوق الشجرْ؟ من تُرى يرغمهم أن يعيشوا كالبقر؟ ويموتوا كالبقر؟.. كلما فكرت أن أتركهم.. فاضت دموعي كغمامة.. وتوكلت على الله.. وقررت أن أركب الشعب.. من الآن إلى يوم القيامة ينبغي على المسؤول السياسي أن يستوعب مرارة التجربة التي مر بها مجتمعنا، لاستخلاص دروس تمكنه ليس من إدمان الكراسي، وإنما من صياغة أشكال سياسية جديدة تجنب أخطاء الماضي وترسي أساليب حديثة لتدبير الشأن العام. ليست زعامتنا الحزبية سوى مجموعة من الأعيان الذين يتصرفون ك»القياد» في زمن الحماية؛ لا يكرسون سوى ثقافة الاستبداد، لا ينتجون فكرا ولا مشاريع، ولا يعملون على تحديث المجتمع ولا أحزابهم؛ عملهم الوحيد هو ترسيخ التقليد؛ وتؤكد ممارساتهم واهتمامهم بمصالحهم الخاصة وتحويلهم العمل السياسي إلى تجارة مربحة أنهم عديمو الحس الوطني، كما أنهم لا يعتبرون أعضاء أحزابهم سوى عبيد أو بضاعة تباع وتشترى. لقد ساهموا في تدمير الفئات الوسطى، وانخرطوا في شل الأحزاب وتعطيل البناء الديمقراطي عبر تخريب تنظيماتهم الحزبية...، مما جعل المواطنين ينظرون إليهم وكأنهم يريدون إنهاء حياتهم السياسية بإنهاء أحزابهم. ويكفي أن ننظر إلى الحملة الانتخابية الجارية لنلاحظ غياب الأحزاب وحضور الأعيان فقط، حيث إذا قمنا بتفحص لائحة المترشحين لهذه الانتخابات سنجد أغلبيتهم العظمى من هذا الصنف من البشر المفسد للعملية السياسية. لكن يجب ألا يغيب عن ذهن المسؤولين أن الملاحظين، مغاربة وأجانب، سيستخلصون من هذا الأمر أن السلطة ستكون هي الفائز الوحيد في هذه الانتخابات، لأن هؤلاء الأعيان هم قاعدتها الاجتماعية، مما يهدد بزعزعة الاستقرار لأنه من المتوقع أن تعرف المشاركة في العملية السياسية أضعف نسبة في تاريخ المغرب. فوق ذلك، لقد مارس الزعماء السياسيون السطو على الملك العمومي والأراضي السلالية، واستفادوا من كل أنواع الريع، وتدخلوا لصالح بعض أتباعهم بمقابل للحصول على ضيعات كبيرة من الملك العمومي... فكم تحمل منهم هذا الوطن وأهله؟! إذا كانت السلطة تدعم هذه الزعامات، فإن ما يشكل مفارقة كبرى هو أن أغلب أفراد هذه الأخيرة لا يؤمنون باستمرار الدولة الوطنية ويعتقدون أن العولمة ستزحف عليها، لهذا نجدهم يبيعون الولاء الكاذب للسلطة بهدف الاستفادة من الريع، وتهريب الأموال إلى الخارج والبحث عن حماية لمصالحهم عبر سعيهم إلى الحصول على جنسيات أجنبية لهم ولنسلهم. من المعروف أن الناجح، فردا كان أو مجتمعا، هو من يستطيع التحكم في الزَّمن ويحسن استغلاله لضمان جودة الأداء وتطوير الإنتاج. لكن، إذا كان المجتمع وقياداته في البلاد الديمقراطية يدبر الزمن، فقد أثبتت التجربة في وطني أن الزمن هو الذي يدبر زعاماته السياسية منذ عقود مضت. يفرض الربيع العربي إصلاحات مؤسسية وسياسية تحدث تحولات عميقة في المجتمع تمكن من إصلاح الأحزاب وتجديدها، إذ ليست هذه الأخيرة الآن سوى ديكور لتلميع وجه السلطة، فهي تابعة لهذه الأخيرة ولا تنسجم من حيث طبيعتها مع أي انتقال ديمقراطي، وإلا فإنها ستكون مجرد دواء انتهت مدة صلاحيته وأعيدت تعبئته في علب جديدة. لا بد من تجديد دماء هذه الأحزاب بعد تعمق جمودها في السنوات الأخيرة لإحداث تغيير جذري للخريطة السياسية المغربية، وذلك إذا تمكنت هذه الأحزاب من الانفتاح على مختلف فئات المجتمع وإدماجها في العمل السياسي عبر مشاريع وبرامج حقيقية ونضال فعلي صادق وقيادات سياسية تتمتع باحترام الشعب وثقته، بحيث يمكن خلق حياة سياسية مغربية سليمة يشارك فيها المواطنون بعد أن عزفوا عن المشاركة السياسية في السنوات الأخيرة. والأكيد أن الثورة المعلوماتية ستساعد الأحزاب على تطوير قواعد شعبية. وبقدر ما ينبغي أن يتم وضع قانون أحزاب جديد يخدم تحديث الحقل السياسي يجب أن تتضمن برامج الأحزاب رؤية شاملة للإصلاح في مختلف المجالات، فتركز على المشروع السياسي والشأن المجتمعي والحريات الفردية، ولاسيما أنَّ تعزيز الحريات العامة والمشاركة الشعبية في صنع القرار يُعدّ مطلبا ملحا للشروع في الإصلاحات الفعلية التي يمكن أن تشكل رافعة حقيقية للانتقال الديمقراطي ومنفذا لتحقيق تمثيل شعبي أوسع يحقق العدالة الاجتماعية في وطننا.