قصة اعتقال عمرها 25 سنة قضاها خلف القضبان فماهي أسباب اعتقال أحمد شهيد قبل ربع قرن؟ وكيف انتمى إلى تنظيم «الشبيبة الإسلامية» وما هي الأولويات السياسية التي حددها وقتها لتحركات أعضائه ؟ وما الذي تغير في المغرب بعدما عانق شهيد الحرية من جديد؟ وكيف أصبحت نظرته إلى الواقع السياسي للمملكة بعدما حاول تغييره بطريقته الخاصة قبل 25 سنة؟ - كيف جاء انتماؤك إلى الشبيبة الإسلامية لأول مرة قبل أن تعتقل ضمن العمليات الأمنية التي استهدفت خلاياها؟ < في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي انتميت إلى حركة الشبيبة الإسلامية في الفترة التي كانت فيها لا تزال موحدة. غير أنه وبعد الأحداث التي واكبت مسار الشبيبة سواء ما تعلق منها بحادث اغتيال الشهيد عمر بنجلون، أو المخاض الذي عرفته بعد ذلك وأسفر عن انفصال مجموعة من أعضائها اختارت عنوان «الجماعة الإسلامية» اسما لها، كان قدري أن أبقى مرتبطا بالشبيبة الإسلامية رفقة بعض الإخوة، غير أن توالي الخلافات والأجواء المتوترة آنذاك، ومع الظروف الحماسية التي كانت مهيمنة على شباب الحركة، تطورت الأمور بيننا إلى ما تعرفونه من تأسيس «فصيلة الجهاد» التي رفعت شعارات ثورية، خاصة وأن النظام المغربي كان في عز أزمته داخليا وخارجيا، وقد ركزت هذه الشعارات على ضرورة مواجهة الخصم الاستراتيجي للحركة الإسلامية بالداخل والمتمثل في النظام عوض السقوط في مخططاته الهادفة إلى شغل القوى المناهضة له بالصراع في ما بينها خاصة التيار الإسلامي ونظيره اليساري. أما على الصعيد الخارجي فقد ركزت شعاراتنا آنئذ على ضرورة دعم خط المقاومة والجهاد في مواجهة المشروع الأمريكي- الصهيوني في المنطقة العربية وخاصة بفلسطين ولبنان الذي كان يواجه غزوا إسرائيليا دمويا، عوض الانشغال بالمخططات الأمريكية لفتح جبهات تخفف الضغط عنها مثلما كان يجري آنئذ في كل من أفغانستان ونيكاراغوا، حيث كنا نعتقد أن قضية التصدي للمشروع الأمريكي الصهيوني ودعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية هي قضيتنا المركزية. - لكن ما هو السبب المباشر لاعتقالك قبل 25 سنة? < على كل حال تم الاعتقال ومن ثم المحاكمة التي عرفت بمحاكمة مجموعة 71 التي كانت من أفظع المحاكمات التي عرفها تاريخ المغرب المعاصر، وشهدت أقسى الأحكام التي نالني منها حكم الإعدام.. وكان السبب المباشر للاعتقال هو منشورات تم توزيعها بالدارالبيضاء تخليدا للذكرى الثانية لانتفاضة يونيو 1981 الشهيرة، إضافة إلى أجواء الاحتقان على الصعيد العربي بعد غزو لبنان وانعقاد قمة الدارالبيضاء الاستثنائية أواخر 1982 التي تبنت قرارات تنازلية في ما يتعلق بفلسطين ولم تعكس تطلعات أمتنا العربية والإسلامية. وقد خلفت تلك المنشورات صدى قويا، حيث مازلت أذكر أن الملك الحسن الثاني ألقى خطابا أحضر فيه أحد المنشورات، وتكلم بلغة غاضبة متهما إيران بأنها وراءها ومتوعدا إياها، إضافة إلى منشور آخر لتنظيم يساري ناشط آنئذ هو «إلى الأمام». - وماهو شعورك الآن بعد خروجك من السجن وقضائك لربع قرن خلف القضبان؟ < وما ظنك بشعور رجل قضى ربع قرن من السجن بأيامها ولياليها، لم ير فيها النجوم في السماء، قضاها ولم يعرف فيها معنى أن يُرخي الليل سُدُولَه، ومعنى أن تبزغ الشمس في صبح النهار الباكر. لقد كان شعوري هو شعور من يكتشف أغلى نعمة يمنحها الله للبشر: الحرية، لقد أحسست أنني وُلدت من جديد وأنني خرجت من بطن مظلمة لأجد ضوءا في آخر النفق. إن سعادتي ليس لها وصف، لقد وقفت في الشارع أتأمل الناس وهم يجيئون ويذهبون وأقول في نفسي كيف لا يتذوق هؤلاء ولا يتلذذون طعم الحرية، لأول مرة وبعد 25 سنة استطعت أن أفتح باب منزلي وأخرج دون أن يقول لي أحد لماذا خرجت وإلى أين. لقد خرجت لأول مرة صباح اليوم الموالي لاستعادة حريتي ملبيا نداء الفجر وأنا أستمتع بميلاد فجر جديد. حينما خرجت التفت ورائي فوجدتُني قد سلكت طريقا شاقا وطويلا مليئا بالآلام والأحزان والمخاوف والأفراح كذلك، وبخيبات الأمل والحسرة خاصة حينما يمر قطار العفو عن المعتقلين السياسيين ولا يفرج عني في محطات عديدة 1994 و1998 و2004، كنا نتمثل فيها قول الشاعر: ها هنا فرح، وهنا قام المأثم بيت ينوح وآخر يترنم لقد عشت نفق الحكم علي بالإعدام، ثم قطعت مسافات هائلة في ظلمات الحكم بالسجن المؤبد بعد تخفيف الحكم بالإعدام. وأحمد الله حمدا كثيرا أن منحني حريتي من جديد وأعادني إلى دفء أحضان عائلتي: الأم والزوجة وأبنائي الثلاثة، وبعد خروجي كنت أتأمل في وجوه أسرتي، كانوا يعيشون حبورا غير مسبوق، إنهم أشبه بالنائم الذي يعيش لذة حلم جميل بعد ما عانوه من كوابيس طيلة ربع قرن من الزمان. - وكيف أصبحت نظرتك إلى المغرب بعد خروجك من السجن بحكم أنك تعتبر معتقلا سياسيا؟ < أولا إنني بالرغم مما عانيت وما قاسيته فإنني بميلادي الجديد أحاول نسيان كل الإساءات ولم أجد في قلبي ضغينة لأحد. لقد أحببت المغرب وأنا أناضل من أجل غد أفضل، وأحببته وأنا في الزنازين، وأحبه الآن وأنا أرمقه من جديد، فلم يعد مغرب السبعينات والثمانينات، لقد تغير كل شيء. لقد أثارني عقب خروجي ازدهار العمران حيث شهقت البنايات أكثر مما كنت أعرف قبل اعتقالي وامتلأت الفضاءات التي تركتها خالية بالكتل الإسمنتية. إن قضاء 25 سنة من السجن يحولك إلى كائن شبيه بأصحاب الكهف، حيث وجدت أبناء جيلي كلهم قد شابت نواصيهم، وهو تغير يحتاج إلى وقت لاستيعابه والتطبيع معه. أما في ما يتعلق بالأحوال السياسية لبلدنا فإن المراقب الموضوعي لها يلاحظ أن تعامل السلطات لم يتغير بشكل كبير، لذا ينبغي التعاون بين جميع مكونات البلاد خاصة قواها الديمقراطية للدفع بالأمور للتطور نحو الأفضل حتى يتسع نطاق احترام مواطنة المواطن وحقوق الإنسان، وبناء دولة تجسد حُلم أبنائها، مثلما توحدت الراية التي اختلطت تحتها دماء الشعب المغربي وهو يطرد الاستعمار لكي ينعم بوطن حر، لا عبودية فيه ولا إذلال أو اضطهاد أو حرمان. لقد لاحظت اتساع دائرة الفقر والتهميش، كما أتابع التراجعات على مستوى حقوق الإنسان والحريات العامة وحرية الصحافة وعودة الاختطاف والتعذيب. ومن علامات هذا التراجع أيضا إفراغ تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة من إيجابياته والتخلي عن تنفيذ توصياته، باستثناء الإعلان عن الرغبة في تجاوز تركة الماضي دون أي التزام عملي بذلك على صعيد الواقع. - وكيف كانت ظروف اعتقالك داخل السجن في أيامك الأخيرة بعد تعيين عبد الحفيظ بنهاشم مندوبا ساميا للسجون؟ < لا يخفى عليك أن وضعية السجون تعرف تراجعا «خطيرا» على جميع المستويات. فعلى المستوى الحقوقي أصبح التعذيب وأصناف المعاملة السيئة هي العملة السائدة، كما أصبح العقاب بالزنزانة الانفرادية «الكاشو» مفتوحا لجميع السجناء، ناهيك عن سوء التغذية وانعدام التطبيب وأصبح تعليم السجناء وتكوينهم في خبر كان. أما امتلاء الزنازين بعدد يفوق طاقتها وقلة النظافة فمما لا ينكره أي عاقل. إن وضعية السجون ببلادنا في حاجة إلى استراتيجية عاجلة للإصلاح حتى تقوم بدورها الإصلاحي الذي تفتقده الآن، وهو ما يحتم على المجتمع المدني أن يقوم بدوره الضاغط على الدولة لمباشرة هذا الإصلاح بشكل استعجالي حفاظا على كرامة الإنسان هناك. أما في ما يتعلق بوضعي بعد أن تم الإفراج عن معظم المعتقلين السياسيين وبقائي أنا ورفيقي أحمد الشايب مع ثلة من المعتقلين السياسيين، قد ترقبنا أن يتم اضطهادنا والإجهاز على حقوقنا. وفعلا حصل ما كنا نتوقع، وتم اختطافنا من سجن عكاشة مطلع 2006 بطريقة بشعة حيث تم تجريدنا من أمتعتنا وأبسط أشيائنا، بل وحتى من آدميتنا. لقد كان اعتداء خطيرا علينا لم نجد في مواجهته أي رد سوى أننا دخلنا في إضراب مفتوح عن الطعام، ونحن كتلة من الأمراض والضعف والعجز. تصور أنه بعد 24 سنة من الاعتقال تضطر إلى خوض إضراب عن الطعام دفاعا عن كرامتك المهدورة بفعل انتقام مسؤولي السجون. لكن كم كانت نقمة في طياتها نعمة، لقد دعمتنا الجمعيات الحقوقية والمناضلون الشرفاء من الداخل والخارج، وكانت النتيجة أن اضطر النظام للتنازل وتم تخفيف الحكم من المؤبد إلى 25 سنة. فأوقفنا إضرابنا بعد تحقيق مطالبنا في إرجاعنا إلى أماكننا. ومنذ ذلك الاختطاف المشؤوم إلى حين خروجي من السجن (20 شهرا) عشت وضعا صعبا افتقدت فيه كل الحقوق والمكتسبات التي حصلت عليها فيما قبل بفعل نضالات المعتقلين السياسيين وإضراباتهم الماراطونية عن الطعام، عشت محاصرا في زنزانتين، لكني تغاضيت في انتظار الخلاص القريب وأصبحت أتحمل محنة أخرى لا يعرفها إلا من يقاسيها وهي محنة انتظار الخروج وما أصعبها من لحظة، مع ما يصاحبها من مخاوف وهواجس. - يقال إن فترات السجن ليست كلها ذكريات سوداء، فما هو أجمل شيء تحتفظ به في ذاكرتك خلال فترة الاعتقال؟ < مازلت أحمل شيئا سيبقى في ذاكرتي ما حييت، وهو أنني وجدت أن لي إخوة وأحباء من مناضلي جمعيات حقوق الإنسان من أبناء وبنات وطني، ومنهم أيضا أجانب تختلف ديانتهم عن ديانتي ولغاتهم عن لغتي العربية، لكنهم يعزفون جميعا لحنا واحدا هو لحن الحرية والدفاع عن كرامة الإنسان واحترام حقوقه. مناضلون ومناضلات هم الآن من أحب الأحباء إلى قلبي، وجدت جزءا منهم حينما غادرت السجن وهم ينتظرونني أمام بوابته المتوحشة، ومنهم من أمضى الليل هناك منتظرا خروجي، وجدت ممثلين عن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وعن لجنة المطالبة بالإفراج عني وعن جميع المعتقلين السياسيين وقياديين من الحزب الاشتراكي الموحد والنهج الديمقراطي وممثلين عن منتدى الحقيقة والإنصاف والمركز المغربي لحقوق الإنسان ومنتدى الكرامة... ورفاقا لي سابقين في الاعتقال من مجموعة 71. إنه شعور جميل حقا. وما أمتع الحياة حينما تجد من يتضامن معك ويمنحك حبه واهتمامه وهو يختلف معك في الأفكار أو في اللغة أو الانتماء، وما أروع الحرية حين نسترجعها بعد فقدان طويل، لكنها حرية لن تكتمل إلا بالإفراج العاجل عمن تبقى من رفاق لنا يعانون من الاعتقال السياسي وأذكرهم واحدا واحدا: عبد الوهاب النابت وميمون النابت ومحمد بوريوس والشجعي الواسيني وخالد العيداوي وعبد القادر العمراني وعبد السلام كرواز وعبد الرحمان بوجدلي وكمال بنعكشة وغيرهم من المعتقلين السياسيين المحرومين من حريتهم ظلما وعدوانا. إن أملي كبير أن تطوى صفحة الماضي الأليم ببلدنا، وذلك بتنفيذ جميع توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة وإدخال إصلاحات سياسية ودستورية لتحصين المكتسبات ومنع التراجعات حتى لا يتكرر ما جرى، رغم أن تقديري أن الدولة لا تتوفر إلى حد الآن على ما يكفي من إرادة سياسية للقيام بذلك.