هو شعور صريح، منذ أن وصلت إلى مدينة الرباط هذا الصباح، وجدت نفسي مدفوعا بعامل القلق والتوتر وسط أحد الشوارع المركزية. النساء والرجال يسرعون في مشيهم وكأن تماسيح بلا أذيال تطاردهم. حركة صاخبة وأجواء كرنفالية يطبعها التناقض، اللامبالاة أو الاحتجاج، بدت لي صورة المغرب مختلفة عما تلقيته في فصول الدراسة وفي كتب التاريخ التي عكفت بأناقة بالغة على تقديم تضحيات الإنسان المغربي ممحوة من كل ذاكرة. استدرك زميلي قائلا: «اختر لنا طاولة على اليسار في هذا المقهى فما عاد اليمين يهمنا»، كان اقتراحه مغرقا في العمق والإيحاء. بينما كانت كل الاقتراحات الأخرى والأشياء: الأخلاق والحمقى وأصوات العاطلين وبائعي سجائر... تتكدس في حفرة اسمها النفس. الزاوية اليسرى ستترك لنا مجالا واضحا للحديث عن الفرد المسحوق بزيف الحداثة والتاريخ، ومجالا للتعليق على طبيعة الحياة السياسية في عاصمة كالرباط. تبدو السياسة بعد كل رشفة قهوة من الأمور الغريبة، إذ لا شيء يضيفه المظهر أمام قبة البرلمان سوى عمق الأزمة، واختلاط المسؤولية بالعبث، وتبديد مصير شعب وجيل بأكمله. جيل يؤول المسؤولون أحزانه بطرقهم ويحاسبونه فقط على اختلافه ورفضه، ويجعلون من حالات عزوفه السياسي وحالات استيائه التي لا تنقطع مبررا لعقد ملتقيات للتخطيط أكثر بهدف تشتيت قوته واقتسام خيرات هذا الوطن على شرف احتضاره. اشتقنا إلى الوطن، عفوا لقد سقط في جيوب جلادي الأمس وانتهازيي اليوم. في الواقع المغربي تكرست مشاهد عديدة عن انتهاك حقوق الإنسان المغربي.. امرأة حبلى تغرورق عيناها بدموع لا تجف أمام مصحة مغلقة، معطلون أنهكوا ضربا، وآخرون تطاردهم كلاب البوليس، ومناضل شرس اعتقل في عهد ثلاثة ملوك، وجريدة تحاكم لكونها ذكرت تفاصيل أفكار وأفعال ممنوعة، واحتجاجات ضد غلاء الأسعار... مشاهد أكثر ألفة لدى العديد من المواطنين مع ما تستدعيه كلمة «مواطن» من إعادة مراجعة وتحديد انطلاقا من وحدة هوياتية ووطنية لا اختلافات مغرضة حولها. تظل طبقة الحاكمين حريصة على أن تقدم في كل تصريحاتها نفسها في صورة «مهدي منتظر»، لها من الحلول لمشاكل الغاضبين ما يجعلهم أكثر تفاؤلا. إن عمل الحكومة أمام الأزمة شبيه برقع بالية في سراويل المهرجين، لأن الذين يفلحون فيه هو اقتياد المواطن والشباب إلى الإحساس بالاغتراب واللامبالاة والتظليل إلى أبعد الحدود، بهدف ضمان استمرار انتفاخ بطونهم وجودة سيارتهم وسكرتيراتهم، وانتقالات سلمية لأي تحول سياسي أو مجتمعي، دون أن يستشعر هؤلاء المسؤولون والوزراء البعد التدميري لكيان ووجدان الإنسان ومستقبله. لا قيمة يا صديقي لمواقف لا تفرق بين الجلاد والضحية أمام مشهد سياسي تطبعه البلقنة، وهشاشة المرجعيات الإيديولوجية والسياسية، والتسابق نحو كل الطرق الأكثر دناءة لتعزيز موقعها داخل هذا المشهد، علاوة على عمق الارتباك الذي يمكث في بطن الحكومة بشكل يجلي لنا بوضوح الطبيعة الهجينة المتضاربة والمختلطة بين التقنوقراطي والحزبي، ويؤكد لنا أن الديمقراطية بالطريقة المغربية لا تعضدها الانتخابات، نموذج شتنبر 2007 وإنما الذي يدعمها هو الرأسمال الطفيلي والإقطاعي والإجرامي (أباطرة المخدرات)، الأمر الذي يريح المخزن وأذنابه، ويقلص دور الدولة في مجرد «دركي» يراقب وينتظر مباركة بعض الأحزاب الاشتراكية بدون اشتراكية أو اليمينية والأصولية التي تقوي نفسها بخيبات أمل المواطنين والأسر الفقيرة، والجهل والتسريحات الجماعية للعاملين بالمصانع. نفهم إذن داخل العاصمة الرباط، طبيعة النظام الجديد لنظام الدولة ما بعد الدولة الكولونيالية، وما بعد الدولة الوطنية بتعبير «هابرماسن» الذي اختار أمام قصور معالجته للأزمة المقاربة الأمنية، بما فيها من قمع حرية التعبير، وسعى جادا إلى البحث عن تكوينات سياسية وثقافية وقيمية، تسمح له بالاستمرار في عالم يرتجف بالاهتزازات العنيفة بهدف تفكيك القناعات الراسخة والدفينة في أعماق فئات عريضة من المجتمع، وإعادة بناء الروح الإنسانية على نحو اغترابي يستجيب لجشع الفكر الرأسمالي واحتكاراته الكبرى. وذلك بعد تثبيت العديد من النماذج الصورية في ذهن الإنسان المغربي كالشعور بالنقص والقصور والتسليم بالتبعية... كل ذلك يتجه نحو إفراغ الإنسان المغربي من كل مشاعر الانتماء الوطني والثقافي، الذي نمط قصدا بعد تزويده بجميع ألوان الإغراء واللذة الإيروتيكية. قادتنا السياسات التوسعية العالمية وخدامها في المغرب إلى أزمة بترولية، سياسة بدون مصداقية، وقادتنا العولمة إلى إفراغ المؤسسة التعليمية من قيمتها التربوية والتثقيفية وتدمير لحمة الأسرة، والتطرف، والارتماء في حضن عالم إليكتروني افتراضي يقوده مجتمع المعرفة، عالم متحكم فيه بطرق تتوخى تشكيل القيم والأذواق والعادات والطموحات لجعلها لأكثر استجابة لثقافة الاستهلاك، وتوجيه بنية ثقافة الشباب المضادة للمؤسسة بتعبير «بيير بورديو» لإعادة بنائها على مقاييس انتهازية فردية. ألا تقودنا هذه الصورة المحفوفة بالإنصاف والمصالحة المزعومين إلى تحريك الصمت الذي شاخ في عقولنا وأقلامنا كذلك إلى التفكير في إمكانية بناء مجتمع بديل على أساس الحوار بين القوى الديمقراطية، حوار يأخذ بعين الاعتبار عقد مصالحة بين السياسي والثقافي، وتوفير الأمن الاجتماعي، والاستفادة من بعض التجارب السياسية الديمقراطية في أمريكا اللاتينية، والتجارب الاقتصادية لبعض الدول الأسيوية، والدعوة إلى إصلاحات دستورية تضمن فصل السلط، والتشديد على التربية والعلم وتكوين الخبرات... غادرنا الرباط مساء، وأتممنا حديثنا عن نظرية «الكاو» في الاقتصاد والتعليم والثقافة...