الحلقة الثاني عشر : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب. كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدارالبيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected]
بعد لقائك مع الملك الحسن الثاني في مراكش، راج بقوة أن علاقتك بإدريس البصري، وزير الداخلية آنذاك، أصبحت «ملتبسة» وأصبح يزودك بمعلومات مهمة؟ -جاء الوقت لأوضح هذه المسألة التي كثيرا ما ترددت همساً وعلناً، وكل ما راج بخصوصها ليس صحيحاً على الإطلاق، لسبب بسيط هو أني تعرفت على الملك الحسن الثاني قبل أن أتعرف على إدريس البصري عن قرب، فخلال عملي في الفترة من مارس عام 1980 وحتى يناير 1985، تاريخ إجراء الحوار مع الملك الحسن الثاني في مراكش، لم ألتق إدريس البصري قط في لقاء خاص، كنت فقط أحضر لقاءاته التي يحضرها جميع الصحافيين. و حتى حين تعرفت على البصري عن قرب، أستطيع القول، بتأكيد قاطع، إنه كان يطلب نشر ما يريد هو نشره، بمعنى أنه لا يسرب أخبارا إلا في إطار حساباته السياسية والشخصية، ولم يكن متاحا الحصول منه على أخبار. وهناك أمر آخر لابد من توضيحه، وهو أن إدريس البصري لم يكن يعرف أن الحسن الثاني طلب مني أن أتصل بالديوان الملكي مباشرة دون الاتصال بأية جهة أخرى إذا أردت الاستفسار عن معلومة تتعلق بملك البلاد، لسبب بسيط أيضا هو أنه لم يكن موجودا عندما قال الملك هذا الكلام عقب انتهاء اللقاء معه في القصر الملكي في مراكش. وقال ذلك بحضور عرفان نظام الدين فقط، وكنا وقتها نتمشى معه في حدائق القصر الملكي في مراكش. كما أن البصري لم يكن موجودا في جميع الترتيبات التي كانت لها علاقة بإجراء ذلك الحوار، ولم يكن لديه أي دور في اللقاء الذي جرى مع الملك في مراكش أو بقرار طبع «الشرق الأوسط» الذي كان سببا في ذلك اللقاء. في كل الأحوال سأتطرق بإسهاب إلى «حكاية البصري»، على الرغم من أن بعض التفاصيل ستحرج كثيرين، لكن التاريخ يبقى دوماً هو التاريخ، يظهر كما يجب ومتى يجب وأين يجب. بعد توجيه الملك كنت أتصل بأحمد بنسودة، مدير الديوان الملكي، أو عبد الهادي بوطالب سواء خلال الفترة التي كان فيها خارج الدائرة الرسمية للمستشارين أو حتى عندما أصبح مستشاراً، ثم في وقت لاحق، أي في بداية التسعينات، بأندري أزولاي. في كثير من الأحيان كان بنسودة يقول: «دعني أستشير سيدنا وأعود إليك». خلال تلك الفترة لم أكن بصراحة في حاجة إلى إدريس البصري في الأمور المرتبطة بالقصر الملكي. لكن البصري كان يعاملك معاملة تفضيلية؟ - فعلا، أصبح يعاملني بود شديد، وكانت هذه هي طريقته، لأنه كان يحرص أن يعرف جميع التفاصيل عن الأشخاص الذين لهم علاقة ما بالقصر الملكي، وهو أمر مفهوم. وهل عرف البصري منك بعض المعلومات في هذا السياق؟ -أبدا، وربما لهذا السبب ظل يحترمني حتى بعد أن وجد نفسه خارج مربع السلطة. عندما نشر الحوار مع الملك، ألم يتصل بك أحد من الديوان الملكي؟ -لا. لكن أصبحت توجه لي دعوات لحضور الحفلات التي تقام في القصر الملكي مثل حفلات الاستقبال في أعياد الشباب. هل حدث أن طلب منك الحسن الثاني نشر خبر محدد؟ -إذا كان حدث ذلك، سيكون بالتأكيد عبر أحد المستشارين، إذ لم يكن بالضرورة مطلوبا أن يقال لي إن هذه رغبة الملك. أتذكر في هذا الصدد أنني زرت مرة أحمد بنسودة في مكتبه في الديوان الملكي، وكان ذلك عام 1986، عقب مبادرة أطلقها الملك الحسن الثاني لعقد قمة طارئة في المغرب، وهي قمة عقدت بالفعل في الدارالبيضاء، وذهبت لأعرف دوافع انعقاد تلك القمة، خاصة أن بعض الدول، ومنها سورية على سبيل المثال، لم تكن متحمسة لعقدها، وسألت المستشار بنسودة عما إذا كان غياب بعض الدول سيؤدي إلى تأجيلها أو إلغائها، فكان جوابه كالتالي: «في هذه الحالة تنعقد بمن حضر». التقطت هذه الإشارة ونشرت خبرا رئيسيا يقول إن المغرب متمسك بانعقاد القمة «بمن حضر»، وهو ما حدث بالفعل. وراج بعد ذلك استعمال هذا التعبير في الصحافة العربية. مثال آخر بالنسبة لما سمي «الحملة التطهيرية» ضد أباطرة المخدرات التي جرت عام 1996، قال لي إدريس البصري بالحرف: «سيدنا قال إن «الشرق الأوسط» ستعمل معنا في هذا الموضوع وستواكب الحملة إعلاميا»، وأنا على يقين أن البصري لم يكن ليقول هذا الكلام إذا لم يكن صحيحا، لأنه كان حذرا إلى أقصى حدود الحذر عندما يتعلق الأمر بنَسْب توجيهات إلى الملك. هاتان الواقعتان تؤكدان أن معظم الأشياء المهمة التي كانت تتعلق بالصحيفة تأتي من الملك، وهو كان يعتبرها صحيفته وتعبر عنه بالطريقة التي يرغب فيها. ألم يغضب منها الملك يوما ما؟ -أبداً. مرة واحدة كان دعا إلى قمة عربية، ونشرنا من خلال تقرير إخباري أن هذه القمة ليست لها حظوظ للانعقاد، ولكن لحسن الحظ، وكما لاحظ هو نفسه، أن الخبر كان مصدره تونس وليس المغرب. إذ كتب الخبر آنذاك من تونس لأن مقر الجامعة العربية كان يوجد هناك، لكن ليس لدي علم بأنه غضب في يوم من الأيام، مع أننا نشرنا الكثير من الأشياء التي كان يقال إنها مزعجة. هل حصلت على بعض «الامتيازات» بعد حوارك مع الملك؟ - شكل الحوار مع الملك قفزة كبيرة جدا في مساري المهني، وفتح لي الكثير من الأبواب من الناحية المهنية، وسهل عملي في المغرب بشكل غير عادي. إذ حضرت بعد ذلك عدة أنشطة للملك داخل وخارج المغرب، وأجريت معه حوارين، ثم جاءت مسألة مراجعة وطباعة كتاب «ذاكرة ملك»، لكن بقيت العلاقة في حدود علاقة صحافي مع رجل دولة، ولا أدعي مطلقا أنها تعدت هذا النطاق، إذ باستثناء العشاء، الذي أقامه لنا مولاي الصديق العلوي في مراكش، لم يكن هناك أي شيء آخر. أقول ذلك بشكل قطعي. وربما هذا كان محل تقدير واحترام الملك الحسن الثاني. وبالمقابل، كنت أولي عناية كبيرة لأخبار الملك وخطاباته ومبادراته. بعض الصحافيين، خاصة في فرنسا، يقولون إن «صداقة» ربطتهم مع الملك الراحل، وأنا أقول لا يمكن لصحافي في العالم أن يدعي ذلك. الملك ملك، والصحافي صحافي. قادة الدول يوظفون عادة الصحافيين فيما يريدون، ومقابل ذلك يمكن أن يخصوهم بأخبار وحوارات، أو يقدم بعض القادة هدايا لهم، لكن الادعاء بوجود «علاقة شخصية» مع قادة الدول فرية، ولا أقول أكثر من ذلك. هل كان ذلك ينطبق أيضا على رؤساء تحرير «الشرق الأوسط»؟ - نعم وإلى حدود مغادرتي «الشرق الأوسط»، المرة الأولى في أبريل عام 1996، وأجزم بأن العلاقة بين الصحيفة والملك كانت علاقة مهنية واضحة ليست فيها فوائد أو امتيازات. لكن الأمر يختلف بالنسبة إلى عثمان العمير، الذي خلف عرفان نظام الدين في رئاسة تحرير «الشرق الأوسط»؟ - بالنسبة للأخ عثمان العمير، كل ما هناك أن الملك الحسن الثاني عينه عضواً في الأكاديمية الملكية المغربية، وأنا لا أعرف إن كانت هذه العضوية تترتب عنها فوائد مادية. أما كيف تطورت علاقته بالملك وفي أي اتجاه سارت، فهذا أمر، بكل موضوعية، يسأل فيه الأخ العمير، ولا أعتقد أنه كان سيقول لي في أي مرحلة من مراحل العلاقة مثل هذه التفاصيل، على الرغم من علاقة الصداقة المتينة التي كانت تربط بيننا. كيف سارت الأمور بعد ذلك إلى أن أجريت حوارك الثاني مع الحسن الثاني؟ - أصبحت أحضر جميع المؤتمرات الصحافية للملك الحسن الثاني، وفي غالب الأحيان كنت أطرح أول سؤال في تلك المؤتمرات. أتذكر مرة أنه انزعج مني انزعاجاً شديداً عندما سألته عن اعتقال محمد اليازغي خلال ندوة صحفية عقدها في القصر الملكي في إفران. أبدى ضيقاً واضحاً وأجابني بنرفزة شديدة جدأً، وأكثر من ذلك قال لي: «سأجيبك بالفرنسية ووزارة الإعلام ستترجم لك فيما بعد إجاباتي»، وفعلا راح يتحدث بالفرنسية. لنعود إلى دواعي الحوار الثاني؟ - كان سبب الحوار الثاني، الذي جرى عام 1988، أن الملك الحسن الثاني أراد تسليط الضوء على العمل الذي عكفت عليه «لجنة ثلاثية» كانت تضم الملك، إلى جانب العاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد. وكانت ثمة أمور طريفة واكبت ذلك الحوار الذي جرى في القصر الملكي في الرباط. استمرت اجتماعات القادة الثلاثة في الرباط حتى الفجر، ولم تتسرب منها أي معلومات، لأنها كانت اجتماعات مغلقة انعقدت في إقامة ملكية بدار السلام قرب ملاعب الغولف، ولم يستطع وقتها المراسلون الاقتراب من المكان. في اليوم التالي، اتصل بي مسؤول من التشريفات الملكية وأبلغني بضرورة أن أكون في حدود الحادية عشرة صباحا في القصر الملكي بالرباط. خمنت أن الأمر ربما يتعلق بمؤتمر صحافي، لكن عندما وصلت إلى هناك قيل لي إن الملك سيعقد لقاء مع عدد محدود من الصحافيين، وفهمت أيضاً أن علي أن أطرح معظم الأسئلة لأن الصحافيين الآخرين يعملون في أسبوعيات، أذكر من بينهم الصديق بلال الحسن، رئيس مجلة «اليوم السابع»، التي كانت تصدر في باريس، وأن الحوار في الواقع سيكون مع «الشرق الأوسط»، لأننا طبعاً أول من سينشره. سعدت جداً بهذه المناسبة، وقلت مع نفسي: «ها أنذا أعود بعد ثلاث سنوات لإجراء حوار جديد مع الملك الحسن الثاني». جلسنا في مكتب في الديوان الملكي، ويبدو أنه كان مكتب الحسن الثاني نفسه، الذي يطلع فيه على الملفات. كانت هناك طاولة وكراس. طلب مني أن أجلس على يمين الملك. يومها لم يتأخر الملك طويلا، وكان واضحاً عليه التعب بسبب اجتماع استمر حتى الفجر، وكانت علامات السهر بادية على وجهه. راح إدريس البصري، الذي كان آنذاك وزيرا للداخلية والإعلام، يقدمنا إلى الملك. والواقع أنه كان يعرفني أنا وبلال الحسن فقط. وبما أن اللقاء نظم على عجل فلم يكن متاحا للبصري أن يقدم الصحافيين الآخرين بطريقة صحيحة، لذلك لاحظت عليه الارتباك لأول مرة. لم يتوقف الملك عند هذا الأمر، إذ بعد أن جلس، أشعل سيجارة وخاطب شخصا من المسؤولين داخل القصر قائلا: «القايد المكي لا أريد أن أسمع صوت دبانة تتحرك». هكذا نطق هذه الجملة بالعامية والفصحى. وتبعا لذلك أصبح «القايد المكي» أهم شخص داخل القصر الملكي في تلك اللحظة. ومع تتابع دخول بعض كبار المسؤولين، وكان أولهم عز الدين العراقي، الوزير الأول آنذاك، ثم أحمد بنسودة وأحمد رضا اكديرة وعبد اللطيف الفيلالي، راح القايد المكي ينبههم بتعابير وجهه وبحركة من يده، وبنظرات حادة ودون أن ينبس بكلمة، بأن يدخلوا القاعة بدون أي ضوضاء، ولو تعلق الأمر بوقع أحذيتهم على أرضية القاعة. لذلك راح المسؤولون يدخلون ويمشون ببطء شديد، وبطريقة ذكرتني بتقنية الحركة البطيئة في أفلام السينما (Slow motion). والواقع أني لم أستطع إخفاء ابتسامة، وأنا أتابع مسؤولين كبارا يتحركون كأنهم ممثلون في شريط سينمائي. أتذكر أن الملك، وكنت تقريبا إلى جانبه على يمين الطاولة، ابتسم بدوره، وهو يلاحظ أني لم أخف مشاعري، وأنا أشاهد مشهدا قل نظيره، بسبب تعليمات «القايد المكي» الصامتة. طلب الملك أيضا عدم استعمال المايكرفونات، وقال لنا «طالما إن عددكم محدود يمكن أن أسمعكم»، لكنه نبهنا إلى عدم رفع الصوت، وأن نتحدث بصوت خفيض. وبدأت طرح الأسئلة كما طلب مني، وبعد أن منح لكل واحد فرصة سؤال، عدت لأتولى طرح باقي الأسئلة وكانت جميعها حول الأوضاع في العالم العربي، حيث نبهني أحد كبار موظفي التشريفات الملكية ألا أطرح أسئلة حول الأوضاع الداخلية. في أي وقت جرى الحوار؟ -كانت الساعة في حدود الثانية بعد الظهر. وتلك حالة نادرة، لأن الملك عادة ما يعقد مؤتمراته الصحافية في الأمسيات. وقد طلب الملك من المصورين عدم التصوير لأنهم كانوا سيستعملون الفلاش، كما أنه لم يسمح للتلفزيون بالتصوير. بمعنى أن معظم الأسئلة التي وجهت إلى الحسن الثاني طرحتها أنت؟ - حتى أكون واقعيا، طرحت حوالي 80 في المائة من الأسئلة في حين طرح الآخرون باقي الأسئلة، وأعتقد أنه تمت دعوتهم لحضور الندوة حتى لا يقال إن الملك الحسن الثاني خص «الشرق الأوسط» بحوار من جديد واستبعد الصحافة العربية. وربما كان يريد إرضاء الصحافة العربية. أتذكر أن الملك بعد نهاية الحوار سألني قائلا: «متى سينشر الحوار؟»، فقلت له: «بعد غد حتى أستطيع أن أعمل عليه بهدوء». ولم يكن الحوار طويلاً، إذ استغرق حوالي 45 دقيقة. وسألني سؤالا لم أكن أتوقعه، قال فيه: «هل كانت الأجوبة كافية»، فأجبت صادقاً: «كافية لأن الموضوع الأساسي كان هو لبنان». وأضفت قائلا «يا جلالة الملك تحدثتم بالتفصيل حول برنامج وخطط اللجنة الثلاثية لإعادة الاستقرار في لبنان وهذا ما كنا نبحث عنه». بعد ذلك نشر الاستجواب في الوقت المحدد له؟ - نعم نشر في الوقت الذي حددته، وكنت وقتها أصبحت من كبار محرري الصحيفة، وليس مجرد مسؤول تحرير في المنطقة. كتبت الحوار بصياغتي وتوخيت الدقة وتحسين حتى المفردات طبقا لتقديراتي في فهم ما أراد الملك أن يقوله. كان الحسن الثاني رحمه الله يتقن اللغة العربية إتقانا لا مثيل له، وكانت لغته تراثية ثرة. كان فصيحاً وبليغا. لذلك لا يجد أي صحافي مشقة في صياغة أجوبته، وكانت في الواقع لا تتطلب أي جهد للصياغة، ونادرا جدا ما كان يستعمل تعابير عامية. بعد نشر الحوار اتصل بي عبد الهادي بوطالب، وأظن أنه آنذاك كان يحضر فقط مجالس الملك ولم يكن قد أصبح مستشارا. قال لي: «سيدنا يقول لك تبارك الله عليك. شيء ممتاز». هذا الحوار كنت أنا الذي أجريته وأنا الذي كتبته، ولم يتدخل أحد، وهو أمر مفهوم لأن لا أحد شارك فيه. هل تلقيت «هدية» ما بهذه المناسبة؟ - شكراً جزيلا على هذا السؤال. أتذكر أن بعض الناس قالوا لي إن الملوك يطلب منهم، وكان بعض هؤلاء من القريبين. لكن ذلك لم يحدث حتى عندما سألني الملك الراحل أين أسكن، كما سأشرح بالتفصيل. هل تحسنت وضعيتك المادية في الصحيفة بعد هذا الحوار الثاني مع الملك؟ -كان راتبي معقولا، لكن كانت لدي نفقات كثيرة جدا، وكنت غارقا في الديون، خاصة أن أبنائي كانوا يدرسون في البعثة الفرنسية، وكانوا يدرسون كسودانيين قبل أن يحصلوا على الجنسية المغربية، بعد تعديل قانون الجنسية الذي سيبادر به الملك محمد السادس بعد سنوات، لذلك كانت دراستهم تكلفني الكثير. وإضافة إلى أبنائي، كانت لدي التزامات تجاه أسرتي في السودان. كنت أسكن في شقة مستأجرة في زنقة آسفي قرب مقر الإذاعة والتلفزة في حي «بلاس بتري». كنت دائما أقول للناس «أنا صحافي مستقل ولن أتقاضى شيئا من أي أحد». لم أطلب شيئاً على الإطلاق من الملك رحمه الله حتى رحيله، وهذه أمور يعرفها من كانوا حول الملك وبعضهم يوجدون حاليا متعهم الله بالصحة والعافية. ولم يحدث أن تلقيت هدية من جهة رسمية، باستثناء ثلاث مرات سأسردها بالتفصيل. في المرة الأولى جاء سائق من وزارة الداخلية إلى شقتي بالرباط ومعه صينية فضية وبعض الأواني الأخرى، وهي من الصناعات التقليدية المغربية، ولم أكن موجودا في الشقة، فأبلغ هذا السائق زوجتي وقتها أن هذه هدية وزعها إدريس البصري على المراسلين الأجانب في المغرب. وفعلاً وجدت بطاقة من الوزير مكتوبا عليها «مع تحيات إدريس البصري». وتأكدت في وقت لاحق أنه أرسل هدية مماثلة إلى معظم المراسلين الأجانب، وفي السنة الموالية تلقيت كذلك بعض الفضيات بمناسبة رأس السنة هدية من البصري، وعندما عرفت بأن هذه الهدية لكل المراسلين لم أجد حرجا طبعا في قبولها. الهدية الثالثة التي تلقيتها من جهة رسمية هي عندما غادرت المغرب بصفة نهائية إلى لندن في البداية ثم إلى واشنطن، حيث استقبلني نبيل بنعبد الله، وزير الاتصال آنذاك، وأقام لي عشاء حضره محمد عياد، الكاتب العام لوزارة الاتصال السابق، وقدم لي هدية عبارة عن خنجر من الصناعة التقليدية. هذه الهدية توجد حاليا فوق مكتبي الشخصي في أكدال. لم يحدث أن تلقيت أظرفة مالية كرشوة من جهة ما؟ - سأروي لك واقعة حدثت قبل فترة وجيزة. زارني في مكتبي في «الشرق الأوسط» بالرباط عمدة فاس حميد شباط، قبل أن أجري معه حوارا من أجل توظيفه في بورتريه، وقلت له لدي رغبة أن أكتب كتابا حول «ذاكرة فاس»، لأن فاس مرتبطة عندي بأشياء كثيرة جدا، منها تغطيتي للقمم العربية التاريخية، ومنها كتاب «ذاكرة ملك». تحمس شباط كثيرا جدا لهذه المسألة، وقال لي: «اليوم الذي ستكتب هذا الكتاب سنكون على استعداد لطباعته». قلت له: «يا سي شباط، لا تشغل بالك بموضوع الطباعة، هذا أمر ليس لدي معه إشكال. من لم يطلب من الحسن الثاني هل سيطلب من جهة أخرى؟». قيل إنك تقاضيت مبلغاً ماليا من شباط نظير ذلك «البورتريه»؟ - نعم هذا ما قيل، بل أخبرني أحد الأصدقاء أن أحد المواقع الالكترونية نشر بأنني تقاضيت 50 مليون سنتيم. وكان تعقيبي أن هؤلاء الناس حددوا لي ثمنا بخسا، إذا كنت سأبيع ذمتي بمبلغ 50 مليون سنتيم. عندما ذهبت إلى فاس دعاني حميد شباط إلى منزله في حي «بنسودة» الشعبي، على وجبة غداء كانت تتكون من طاجين لذيذ جدا يتكون من لحم الغنم والقوق وجلبانة وخضر أخرى وفواكه، وتغذى معنا النائب البرلماني جواد حمدون والصحافي محمد طه. وبعد أن انتهينا من جولة طويلة جداً في أحياء فاس دعاني إلى فنجان قهوة في فندق «رويال ميراج»، ومن يومها لم ألتق شباط. الناس خيالهم خصب جداً، وهؤلاء الذين تحدثوا عن 50 مليون، هل كانوا معنا عندما تسلمت هذا المبلغ؟ ثم هل تسلمت المبلغ نقدا أم شيكا؟. الخلاصة أن حكاية «الهدايا الثمينة» سمعت بها كثيراً، وأعتقد أن بعض الناس لم يفهموا بعد أن هناك صحافيين يحترمون أنفسهم ومهنتهم. وهذه الحكايات تنسج دائما في الخيال، ويصدقها حتى الذين نسجوها، ويروجون لها في المجالس، وجلسات النميمة، وبعضهم يملك الجرأة بأن ينشروا هذه الأقاويل، وعندما سنأتي إلى قصة صحيفة «الجمهور» سأسرد واقعة موثقة في هذا الشأن.