بإشهاره لفزاعة «النجاة» في وجه الوزير الأول الاستقلالي عباس الفاسي، يكون حكيم بنشماس، رئيس فريق حزب الأصالة والمعاصرة في غرفة المستشارين، قد أعطى انطلاق السيرك البرلماني. فبين كل الكوارث التي يعيشها المغاربة يوميا، لم يجد بنشماس من فضيحة يشهرها في وجه الوزير الأول غير فضيحة «النجاة» التي مرت عليها ثلاث حكومات. لو كنت مكان «ريافة» و«جبالة» الذين ذهب عندهم الشيخ بيد الله خلال الحملة الانتخابية ووعدهم بمساندتهم في قضية زراعة «الكيف»، لسألت «الريفي» بنشماس عن موقف حزبه من حملة الاعتقالات الواسعة التي تستهدف مزارعي «الكيف» بإقليم «تاونات» و«باب برد» و«الشاون» وغيرها من المناطق التي تعيش على زراعة هذه النبتة. لماذا سكت الحزب وأعرض عن تبني قضية هؤلاء المزارعين رغم أنه استغلها سياسيا خلال الانتخابات مثلما استغل عباس الفاسي قضية «النجاة» في الانتخابات؟ هل سيعين حزب الأصالة والمعاصرة محامين للدفاع عن هؤلاء المزارعين البسطاء الذين جمعتهم «صطافيطات» الجنرال حسني بنسليمان، أم إنه سيغمض عينيه مثلما صم عباس آذانه عن سماع أنين ضحاياه الثلاثين ألفا؟ ولعل حكيم بنشماس -الذي يريد أن يلعب داخل السيرك البرلماني الدور نفسه الذي سبق لمروض قردة متقاعد، اسمه والعلو، أن لعبه طيلة سنوات المعارضة- تجاهل عن قصد أن مؤسس حزبه، فؤاد عالي الهمة، يتحمل نصيبا من المسؤولية في فضيحة «النجاة». فعندما كان عباس الفاسي وزيرا للشغل وتورط في فخ الشركة الوهمية، كان الهمة يشغل منصب وزير منتدب في الداخلية. ولعل الجميع لازال يتذكر عندما اشتد الخناق السياسي والإعلامي حول عنق عباس فقال إنه لا يتحمل مسؤولية الفضيحة لوحدة وإنما يتحملها معه أيضا وزير الداخلية آنذاك، الساهل، ووزير الخارجية، بنعيسى. لذلك فعلى رئيس فريق الأصالة والمعاصرة في مجلس المستشارين أن يتذكر هذا المعطى جيدا وأن تكون لديه الجرأة على تحميل رئيسه الهمة نصيبه من مسؤولية فضيحة «النجاة». صحيح أن عباس الفاسي استغل ضحايا «النجاة» سياسيا خلال الانتخابات، لكن أجهزة الداخلية والخارجية تتحمل مسؤولية إقحام مؤسسة حكومية، كوزارة الشغل، في مشروع وهمي ضخم دون التأكد من مصداقية المشروع والقائمين عليه. لذلك، فإشهار «المعارضة» لمثل هذه «الخيوط الراشية» في وجه عباس أمر يبعث على السخرية والرثاء. ولعل من يستحق الرثاء أكثر هو رجل في الخامسة والسبعين من عمره، اسمه الراضي، أهانه حزب الأصالة والمعاصرة عندما صرح أحد مسؤوليه للصحافة بأن برلمانيي حزب الهمة ساندوا وصوله إلى رئاسة مجلس النواب فقط من أجل قطع الطريق على سعد الدين العثماني. لو كنت مكان الراضي لفضلت، ألف مرة، الانسحاب من هذا السيرك على البقاء فيه وتمثيل دور الرئيس الفائز بإرادة الأغلبية. بأي وجه سيقابل الراضي نواب البرلمان والجميع يعرف أنه أصبح رئيسا عليهم فقط لأنه أصلح شخص لتمثيل دور «البارشوك» في وجه العدالة والتنمية؟ هؤلاء الاتحاديون لم يعودوا صالحين سوى لهذا الدور، فقد استعملوا في الرباط «بارشوك» اسمه فتح الله والعلو لإيقاف زحف لحسن الداودي نحو عمادة العاصمة، فأصبح والعلو عمدة لمدينة الرباط وهو الذي كان منتهى طموحه أن يعود إلى مقعده البرلماني والذي بالكاد حصل على مقعد في مقاطعة أكدال. البرلماني الاتحادي القديم ووزير المالية لعشر سنوات، الذي ظل يمارس المعارضة في البرلمان، اكتشف أن أحسن طريقة للجم لسان المعارضة هي إدخالها معه في المكتب، فعين جميع معارضيه في مجلس المدينة كنواب له، وكفى الله والعلو شر المعارضة. وبعد نجاحهم في استعمال والعلو لقطع الطريق على إسلاميي العدالة والتنمية في الرباط، رأينا كيف سحبوا ورقة إدريس لشكر من يد بنكيران عندما فاحت رائحة غزلهما الصريح على صفحات الجرائد. وخوفا من تطور هذا الحب العاصف بين الاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية ووصوله إلى «حمل» مفاجئ، «ويعودوا واحلين مع شي حرامي جديد»، سارعوا إلى مد الحقيبة الوزارية إلى إدريس لشكر وسلوه من عجينة بنكيران «غير بالفن». وهاهم اليوم يستعملون الراضي لوقف زحف العثماني نحو رئاسة البرلمان. وفوق هذا، يعترفون بذلك على صفحات الجرائد. وكم يبدون سعداء، هؤلاء الاتحاديون، بدور «البارشوك» الذي كلفوهم به.. سعداء إلى درجة أن أولياء نعمتهم الجدد يسخرون منهم في اليوم الموالي على صفحات الجرائد ويقولون إنهم ساندوهم من أجل الوصول إلى العمادة والحكومة والبرلمان فقط لقطع الطريق على الإسلاميين. يا لها من نهاية تعيسة لحزب تاريخي عتيد. لقد قبل الراضي صفقة إعادته إلى كرسي رئاسة البرلمان الذي دخله أول مرة سنة 1963 وسكنه إلى اليوم، ليكون بذلك أقدم برلماني في العالم، وهو يعرف يقينا أنه لو ترشح للرئاسة وعول على برلمانيي حزبه لما حصل حتى على نصف الأصوات التي حصل عليها. ولذلك وضع يده في يد الأصالة والمعاصرة الذي يريد أن يقدم نفسه كحامل للواء المعارضة الشرسة لحكومة عباس. لذلك فالراضي، في الحقيقة، ليس مرشح الاتحاد الاشتراكي وإنما مرشح الأصالة والمعاصرة. وهكذا، يكون هذا الحزب قد وضع «رجله» في الغرفة الأولى والغرفة الثانية بالبرلمان. إذ كيف يمكن أن نفهم تهديد حزب الهمة لحكومة عباس الفاسي بالمحاسبة العسيرة في الوقت الذي يساند فيه هذا الحزب رئيسا للبرلمان هو في الوقت نفسه الكاتب العام لحزب الاتحاد الاشتراكي المشارك في حكومة عباس بخمسة وزراء، أليس هذا قمة التناقض والنفاق السياسي؟ كيف يمكن أن تساند «من تحتها» حزبا معينا للوصول إلى رئاسة البرلمان، وفي الوقت نفسه تهدد بمعارضة ومحاسبة وزرائه حسابا عسيرا تحت قبة هذا البرلمان نفسه. لا بد أن حزبا يتصرف بهذه الطريقة يتصور أصحابه أن المغاربة لازالوا يرضعون أصابعهم. ولكي يذر حزب الهمة الرماد في العيون، يلجأ إلى إخراج جثة «النجاة» من قبرها وتحريكها في وجه عباس الفاسي داخل البرلمان متوعدا حكومته بالحساب العسير. يا للهول، «قتلتينا بالخلعة». ولعل قمة العبث هي تعهد رئيس فريق الأصالة والمعاصرة بالغرفة الثانية بإجبار الوزير الأول عباس الفاسي على المثول أمام البرلمان وتقديم حصيلته الحكومية، وكأن هذا الإنجاز معجزة ستتحقق أخيرا على يد هذا الحزب. مع أن الديمقراطية الحقيقية تقتضي أن يكون مثول الوزير الأول أمام البرلمان حدثا أسبوعيا عاديا وطبيعيا، وهو الشيء الذي لا يحدث عندنا في المغرب إلا مرتين في السنة: مرة عند افتتاح الدورة الخريفية، ومرة عندما يقدم الوزير الأول تصريحه الحكومي قبل أن يغيب عن الأنظار سنة كاملة. وليس الوزير الأول وحده من يغيب، بل أغلب البرلمانيين والمستشارين يغيبون. وهاهم اليوم يتوسلون للشيخ بيد الله لكي يسحب قانونه الجديد الذي سيتم بمقتضاه فضح أسماء المستشارين المتغيبين في الجريدة الرسمية. لقد كنا ننتظر من السادة المستشارين أن يستقبلوا هذه المبادرة بالأحضان وأن يساندوا رئيس الغرفة الثانية في هذا القرار، لكن يبدو أن أغلبهم مصر على الغياب مع الحرص الشديد على الراتب الشهري السمين. وهذا هو «الطنز» المبين. ولذلك دشنوا حملة ضغط قوية لإجبار بيد الله على التراجع عن نشر أسماء المستشارين الكسالى المتغيبين. إن ما يحدث في المؤسسة التشريعية بغرفتيها ليس سوى انعكاس لكساد السياسة والسياسيين وتحول أحزابهم إلى حوانيت لبيع وشراء الكراسي والمناصب. فلا اليمين يمين ولا اليسار يسار ولا الوسط وسط. الجميع يغير مواقعه حسب اللحن الجديد والموسيقيين الجدد. والدليل على أن العبث والفوضى هما سيدا الموقف في هذه المؤسسة التشريعية ما وقع مساء الأربعاء الماضي عندما أخرج موظف يشتغل في البرلمان برفقة مسؤول إداري كبير بالمؤسسة التشريعية لوحات وهدايا من الباب الخلفي سبق لشركة الخطوط الجوية الخليجية أن أهدتها للبرلمان. فالعادة في البرلمان اقتضت أن يتصرف رؤساء هذه المؤسسة في الهدايا التي تصل إلى المؤسسة التشريعية كما لو كانت هدايا بأسمائهم الخاصة. ومعروف أن البرلمان المغربي يخصص ميزانية من أموال دافعي الضرائب لشراء هدايا من أجل إرسالها إلى برلمانات العالم حسب المناسبات. وفي المقابل، يتلقى بشكل منتظم هدايا من هذه البرلمانات. المشكلة أن الهدايا التي ندفع ثمنها تخرج من باب البرلمان، أما الهدايا التي تصل من الخارج إلى البرلمان فتذهب مباشرة إلى فيلات بعضهم لتزيينها. «فينك يا زرابي تركية ويا صواني هندية ويا حرير الدودة». «مكاين غير غفل طارت عينك».