بنعيسى: الحركات الانفصالية في إفريقيا تساهم في بلقنة الكيانات الوطنية وإضعافها بوريطة: الحركات الانفصالية والحركات الارهابية تلتقيان في أكثر من موقع هيمنت معضلة بناء الدولة الوطنية في القارة الإفريقية على المداخلات التي طبعت الندوة الأولى لجامعة المعتمد بن عباد المفتوحة المنظمة بأصيلة، ضمن موسم أصيلة الثقافي الدولي. وركزت المداخلات التي تقدمت بها شخصيات إفريقية من الطراز الرفيع، ضمنهم وزراء حاليون وسابقون ومسؤولون قاريون وأمميون وخبراء، على تتبع تشعبات معضلة الحركات الانفصالية في علاقتها بالمنظمات الإقليمية في القارة السمراء. وقد كان واضحا أن خارطة التحديات الأمنية، التي تركزت في الساحل وشرق إفريقيا، ولم تغفل وسط القارة ومنطقة البحيرات الكبرى، وصولا إلى منطقة الغرب والساحل، تطرح صعوبات جمة في المعالجة، غير أن المتدخلين خلال الندوة الأولى التي انطلقت مباشرة بعد الافتتاح، كانوا يسعون إلى خطاطة حصرية، إفريقيا للتعامل مع بقعة زيت تجد أسباب انتشارها في التاريخ كما في حاضر الحكامة السياسية وفي توزيع السلطة. الشيخ تيجان غاجو، الذي ترأس الندوة، لم يضع يده في الحرير كما يقال وهو يتحدث عن الحكامة السياسية في القارة، وعلاقتها بالحركات الانفصالية والإرهابية التي تهز دولها. الرئيس يجر وراءه تجربة واسعة، فهذا الصحفي السابق، القادم من دكار، مر بمسؤولية نائب رئيس الجمعية الوطنية للسينغال، ورئيس معهد بانا فريكان لاستراتيجية السلام – الأمن – الحكامة، كما شغل منصب وزير الدولة، وزير الشؤون الخارجية سابقا. وكان لافتا أنه تحدث بحدة عن عملية الاستنساخ التي حدثت في الدول حديثة الاستقلال، للنموذج الاستعماري في بناء المؤسسات. * خوصصة الدولة لقد انطلق من كون الجميع متفق أن عملية نسخ (copier- coller) طالت المؤسسات الإفريقية عن مؤسسات الدول التي استعمرت القارة». مؤسسات تشمل الحكومة والبرلمان، ورئاسة الدولة، التي صارت هي المفتاح المركزي للمؤسسات: «في غياب كلي للسلطة المضادة»، ومن أهم الانتقادات التي سجلها المتدخل هو كون رئيس الدولة بإفريقيا «حارس الدستور الذي من المفروض أنه يحرس ويراقب». وذهب بالوصف بعيدا عندما تحدث عن احتكار السلطات كلها (بما فيها السلطة القبلية)، علاوة على «بزنس السلطة (Busiess power). لقد انتقدت تدخلاته، نزوع القارة نحو «خوصصة الدولة» وفتحت الطريق نحو خلاصة أولى إلى «إنتاج نموذج إفريقي للحكامة السياسية، مع احترام مقومات الديموقراطية»، وفي البحث عن هذه الوصفة الإفريقية، رسم الشيخ التيجاني غاجو أوضاع البنيات الاجتماعية المرافقة لهذا الوضع السياسي ومن مميزات، حسب المتدخل، غياب طبقة وسطى قادرة على توزيع الثروة والسلطة، مما أحدث قطيعة داخل المجتمع». بالنسبة للانفصال، انطلق أغلب المتدخلين، وأولهم السيد غاجو، من كون أن هناك «إرادة خارجية في بلقنة الدول الكبرى، حيث تم ذلك ضد السودان أمام أنظارنا، ويتم ضد نيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وغدا سيأتي الضوء على غانا ومالي…»، وهو ما يجعل القارة مؤهلة لمزيد من تفريخ الدول، «وعوض 54 دولة حاليا سنجد انفسنا أمام 80 كيانا». الدولة، كمسلمة هي التي تخلق الوطن في الوضع الحالي وليس العكس، وهو ما يعني أن الانفصال، كتكسير للدولة يعني تكسير الوطن. * الدولة الفيدرالية ومن الخلاصات التي ذهبت إليها المتدخل وستشكل أحد الأفكار المقتسمة مع الآخرين، ضرورة السعي إلى «بناء الدولة الفيدرالية، باعتبارها فرصة لإعادة بناء القارة الإفريقية نفسها». الحكامة وغياب الديمقراطية والعدالة، كانت محور مداخلة التشادي محمد النظيف صالح، وقد تدخل باسمه الممثل الخاص للأمين العام لغرب إفريقيا ورئيس مكتب الأممالمتحدة لغرب إفريقيا، وقد وصل إلى المغرب في تزامن مع تعيينه وزيرا للداخلية في بلاده. واعتبر محمد صالح النظيف أن سوء توزيع الثروة والسلطة واحتكارهما من طرف حفنة من الناس يجعل «الآخرين يشعرون بالميز والإقصاء»، لكن قبل ذلك شدد على أن «الدولة كما وردناها ليست موثوقة وذات مصداقية» (pas fiable). وسرد المتدخل تجربته كأحد الشخصيات التي شاركت في حوار وطني في بلادها التشاد، وهو الحوار الذي هيمنت عليه إشكالية «شكل الدولة» أمام إلحاح «الناس على إشراكهم في كل ما يهم قضاياهم». واعتبر أن اللامركزية اليوم إجبارية اليوم بالنسبة لبلده وبلدان مماثلة «مازال رئيس جماعة أو بلدية يعين فيها من المركز ومن العاصمة»! وصار بذلك تمرين بسيط من التمارين الانتخابية العادلة في اختيار الممثلين الجماعيين عن المواطنين ثورة تستوجب حوارا وطنيا! وفي قلب خطاطة القراءة عند وزير التشاد الجديد، توجد الحكامة السياسية، ولكن في هذا الباب أصدر حكما خلدونيا عن النخبة الإفريقية عندما قال «إن ثقافة المستعمَر تتبع ثقافة المستعمِر». وفي سياق القطيعة، تحدث عن إنتاج نموذج إفريقي يقطع مع النموذج، الذي جاء في ركاب المستعمر، وخص بالذكر مقومات اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات. ومن الخلاصات الفريدة، كون الدول التي تنتمي إلى الدائرة الأنجلوفونية تعرف «صراعات أقل بعد الانتخابات، وتستطيع الاستمرار بعدها على عكس الدول الفرنكوفونية». ولعل ذلك مما يلقي بعض الضوء على النزعة المعادية لفرنسا التي تصاحب حاليا النزعات الانقلابية والعنيفة في بعض الفضاءات الإفريقية. من النتائج المقتسمة لهذا التحليل «إن ضعف الدولة»، أو تسلطها تفتح الباب «للمنظمات الإرهابية والانفصالية التي تعطي الدولة للمواطنين، وهو ما يتمثل في كون بعض الدول كمالي والنيجر بعض المنظمات فيها تعوض الدولة». وصار لزاما على الدولة أن تعود إلى مهامها «كدولة حامية وليس دولة مضطهدة»، ذلك لأن المواطنين حسب الوزير المثقف «يسلمون أنفسهم لمن يقتسم معهم الثروة والعدل». وعليه فإن وجود الدولة مبنية على العدل وحسب توزيع الثروة والسلطة كفيل بأن يطرد الإرهاب والانفصال. محمد المدني الأزهري الليبي الذي اختار النيجر وطنا له، هو الأمين العام الأسبق لمجموعة دول الساحل والصحراء (سين-صاد)، تحدث عن ما سعى إليه من وراء «الحوكمة السياسية والاجتماعية والاندماج الوطني»، لم يخلُ حديثه من نزعة حنين إلى النضال الإفريقي الشامل الذي طبع جيلا بكامله، ترحم بنفس الروح على الملك الليبي السنوسي وعلى معمر القذافي وعلى جمال عبد الناصر، وكان جازما، في كون «الدول التي خرجت من رحم الاستعمار بدت عاجزة عن حماية حدودها ومتطلبات شعوبها»، كما عجزت عن إيجاد صياغة ديمقراطية لتقاليدها وعاداتها، أما بالنسبة للانقلابات فقد عزاها إلى وجود هذه الدول ضمن رحى «استقطابات قوى خارجية»، وهو ما يجعلها هشة، إضافة إلى عجزها «عن مراقبة الشباب الذين تستقطبهم حركات الانفصال والجهاد». واعتبر المتدخل أن الدول، كما هو حال نيجيريا ومالي، عاجزة في الوقت الراهن على مراقبة أوضاعها ومازال العامل الخارجي يعمل سلبيا في هذه الظروف، وكغيره، دعا إلى «ديمقراطية إفريقيا». حديث جانبي هذه الخلاصة التي تكررت، كانت موضوع تعليق مشترك وقد تقاسمته مع بعض الزملاء والحاضرين، منهم عبد الإله التهاني وتوفيق العمراني عن «الجزيرة»، وتوجهت به إلى السيد وزير الخارجية التشادي في لحظة من لحظات تواجدنا بقصر الثقافة، قلت بعد التهنئة وإبداء الإعجاب بالتناسق الذي طبع تدخله، «أنني لا أشاطره الرأي بخصوص البحث عن نموذج إفريقي»، وأضفت بالحرف «هل أمراض إفريقيا وآلامها، يجب أن نعالجها بإخراج القارة من التاريخ الإنساني الشامل للديمقراطية وقيمها»، طبعا أوضح أكثر ما يريد من وراء فكرته، وقال إنه لابد من «تكييف الديمقراطية مع الحقائق في واقعنا القاري». وقد كان الافتتاح الذي انطلق أول أمس الأحد قد طبعته لحظات مميزة، منها اختيار ممثل الخارجية المغربية للشعر كمطلع لكلمة، واستهلها ببلند الحيدري وضمنها جملا درويشية. وتعد هذه الدورة هي الثالثة والأربعون لموسم أصيلة الثقافي الدولي والدورة 36 من جامعة المعتمد بن عباد المفتوحة، المنظمة تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس من طرف مؤسسة منتدى أصيلة في دورتها الخريفية. ويتم تنظيم الموسم، الذي جرت دورته الأولى الصيفية بين 30 يونيو و24 يوليوز وخصصت للفنون التشكيلية، بشراكة مع وزارة الثقافة والشباب والتواصل (قطاع الثقافة)، وجماعة (بلدية) أصيلة، ويستضيف هذا العام فعاليات ثقافية وفنية من دولة الإمارات العربية المتحدة. وبالمناسبة، قال وزير الشؤون الخارجية والتعاون الافريقي والمغاربة المقيمين بالخارج ناصر بوريطة، في كلمة تليت نيابة عنه خلال الجلسة الافتتاحية للموسم، إن النجاح الذي حققه موسم أصيلة مبهر ومتفرد على مدى عقود من الزمن مع القدرة على الحفاظ على ألق متوهج ونفس موصول ومتجدد، لم تنل منه شيئا عوامل «التعرية التاريخية»، التي عصفت بإيديولوجيات وأعادت تشكيل مجتمعات وفككت نظما في الاقتصاد والفكر، منذ سبعينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا. وأضاف أن قصة نجاح أعلنت عن نفسها منذ ثلاث وأربعين سنة، تكرس على امتدادها موسم أصيلة قبلة للثقافة والفكر، بل وأيضا فضاء للتفكير الجماعي البناء في التحديات الراهنة والضاغطة في تناغم ذكي ووفق رؤية ثاقبة واحترافية، أضحى معها الموسم نموذجا يحتذى وعلما بين منتديات النقاش الفكري والإبداع الثقافي والفني. وشدد ناصر بوريطة على أن الاهتمام الذي توليه هذه الطبعة من «موسم أصيلة» للحركات الانفصالية وللمنظمات الإقليمية في إفريقيا، دليل على الأهمية المتجددة لهذا المنتدى، وعلى يقظة القائمين عليه، مبرزا أن التحديات الأمنية التي تواجه القارة الإفريقية اليوم هي تحديات تبقى في مجملها غير مسبوقة، ولا مرتقبة وتتسارع وتيرتها وتتعاظم تعقيداتها بكثافة، حيث سجل بوريطة أن الفكر الانفصالي لا يتسبب في نشوب حروب أهلية وحسب، بل تعداه إلى تغذية التطرف والإرهاب، «فالحركات الانفصالية والحركات الإرهابية تلتقيان في أكثر من موقع». وأكد وزير الشباب والثقافة والاتصال محمد مهدي بنسعيد ، في كلمة تليت نيابة عنه، أن العمل التراكمي المتواصل جعل هذا اللقاء منتدى بارزا للتداول في القضايا الإنسانية والتحديات الإقليمية والدولية التي تزداد تعقيدا يوم بعد آخر مضيفا أن المنتدى واكب، بكثير من التميز وبحضور شخصيات وازنة من عالم الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد من مختلف البلدان، العديد من التحولات التي عرفها العالم بمنهج العرض والتشخيص وبخلفية التنبيه للمخاطر والمنزلقات وباجتهاد اقتراح الحلول وإيجاد البدائل. وأبرز أن المنتدى استحضر دائما عمق الثقافة والفن في تشكيل ذلك المشترك الإنساني الذي يمد العلاقات بين الشعوب بأسباب إعادة الاكتشاف والتعارف والتفاهم، معتبرا ان النزاعات والعداء في عمقهما ينبعان من الجهل، ونور المعرفة والثقافة والفنون هو الكفيل بكشف هذا الجهل، وبالتالي احتوائه في سبيل أمن واستقرار ورفاه الإنسانية. ومن جهته، قال محمد بن عيسى، أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة ورئيس جماعة أصيلة، إن «هذا الالتفاف المنزه عن المآرب هو ما مثل دوما ذخيرة الموسم، وسنده المعنوي الراسخ. مثلما شكل الدعم الموصول، والرعاية السامية المتوالية، والاهتمام الخاص الذي يوليه جلالة الملك محمد السادس للثقافة والفنون». وأضاف أن الدورة الجديدة للموسم تنعقد ل»تسترسل في طرح أسئلة العلاقة بيننا نحن المنتمون لهذا الفضاء الجغرافي المشترك، أي واقع سياسي نعيش، وأي مستقبل نريد ونتوق إلى أن يتحقق؟ هدفنا هو شحذ طاقة جديدة للتأمل في موضوع «الانفصال» في علاقته بالدولة الوطنية، وقد قطع أشواطا معتبرة من الجدل، واستطاع أن يراكم قراءات متنوعة توحد في ما بينها هواجس الانتماء لمجال مشترك» . وأعرب بن عيسى عن الأمل إلى الوصول إلى معادلة لمعالجة ظاهرة الحركات الانفصالية في إفريقيا من منظور الأزمات الأمنية وسياسات واستراتيجيات المنظمات الإقليمية في مواجهتها، مشددا على أن الهدف هو مناهضة محيط العنف المتنامي والإرهاب المتصاعد بإيقاع مرعب، ما يساهم في تفتيت القدرات الإفريقية الطبيعية والبشرية، وفي بلقنة الكيانات الوطنية وإضعافها بل إغراقها في نزاعات وحروب أهلية مدمرة. عدد من هذه النزاعات والحروب نشاهدها اليوم في مختلف أنحاء إفريقيا.