أحب أم كلثوم لأسباب شتى، لأن أول إسطوانة عرّفتني معنى الغناء كانت «رباعيات الخيام»، على جهاز عتيق أدّى ثمنه والدي بالأقساط الطويلة. ولأن الإسطوانات التي دخلت منزلنا بعد ذلك كانت كلها للست ذات المنديل الأبيض، والشعر المعقوص كتاج عثماني على الرأس، قبل أن يزاحمها محمد عبدالوهاب على شغاف قلب الساكنين والزوار. وأحب أم كلثوم لأن أمي رحمها الله كان اسمها كذلك، ولأن أبي أحبها لأن اسمها على اسم «الست» الكبيرة، ولأنني أحببت طه حسين والعقاد وأحمد شوقي ونجيب محفوظ لإحساسي المبكر بسحر المواطنة المشتركة لكل هؤلاء الكبار مع نجمة الجماهير. كانت أم كلثوم هي طريقنا لتلك السلسلة الذهبية من الكتاب والمسرحيين والسينمائيين، بل وحتى الجرائد والمجلات المصرية وصور الكاريكاتور والقفشات القادمة من أرض الكنانة، كانت بنكهة كلثومية. لكن بقدر ما كانت «الست» بوصلة، فقد كانت حجابا كبيرا مثلها مثل طه حسين ونجيب محفوظ، اليوم فقط أحسّ أنني أحب «زكريا أحمد» لذاته، ولأنه ليس فقط ملحن روائع «بيرم التونسي» لأم كلثوم، ولكن لأنه صاحب فصاحة طربية عز نظيرها، ومالك صوت ينفذ إلى قرار الفؤاد. ولأنه يتكلم طربا، بعيدا عن صنمية «الست» وكاريزماتها الموجعة، كأنه نقيض للوقار الطربي المؤثل في صور النجوم وتداولاتهم المبهورة، اكتمال وعمق لا يفصم صلته مع الخفة الشعبية، يشدّ ويرخي دون ابتذال. هو متكلم في أدائه لا يتعب ولا يبدل طاقة في الغناء، يتدفق من الحلق بأريحية ممهورة بلين ودعة. لهذا فأنت لا تملك إلا أن تتعاطف مع صورة «زكريا أحمد» ببدلة وبابيون. وهو يغني بتلقائيته المعجزة، ومرحه الدافق، مع حياء كظيم، تحس أن ملامحه تداري اللوعة بالابتسام ، وكأن في الأمر خجلا من اجتراح طرب في زمن أم كلثوم. وربما أقسى قدر قد يصادف مبدعا موهوبا أن تضعه الظروف في زمن عبقرية ظالمة، هو القدر الذي وضع موديلياني في زمن بيكاسو، وزكريا أحمد في زمن أم كلثوم، وأحمد ضيف في زمن طه حسين. بيد أن ألعن من المعاصرة أن تنتمي إلى مجد الآخرين، ركنا أصيلا وحجرة زاوية، لكن في النهاية، مجرّد ركن وحجر في صرح مجيد.