في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي شهدت القاهرة حدثان فنيان بارزان: الأول هو افتتاح أول إذاعة رسمية لاسلكية في المنطقة العربية في العام 1934 وقد دشنها الملك فؤاد الأول في كلمة مقتضبة تلاها آيات من الذكر الحكيم ت.د.، الحدث الثاني كان مؤتمر انبعاث الموسيقى الشرقية، وقد تداعى لعقده مجموعة كبيرة من محبّي ومقدّري الموسيقى في طليعتهم الدكتور طه حسين والدكتور علي مصطفى مشرفية والسياسي الذواق مكرم عبيد، ومعهم طلعت باشا حرب مؤسس «بنك مصر» ولفيف من كبار القوم من أمثال لطفي السيد وأمين بك بارودي ومحمد المهدي وغيرهم وغيرهم. التأم المؤتمر الموسيقي العربي الأول والأخير في ربيع العام 1934، مثل مصر: الشيخ زكريا أحمد ومحمد القصبجي والآنسة أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وصالح عبدالي. مثّل العراق: محمد أفندي القبخي ويوسف عمر وعفيفة اسكندر. بينما اقتصر الوفد اللبناني على إيليا بيضا وإيليا ربيز والشاعر بشارة عبدالله الخوري (الأخطل). تبارى المتبارون وغنى المغنون والمغنيات. وكانت أصواتهم وأصواتهن تذاع من «إذاعة مصر اللاسلكية»، التي كانت تسمع (بضم التاء) في جميع دول الشرق العربي. ثم خرجت القرارات الرسمية للمؤتمر ونصها: اختيار أم كلثوم «كأجمل صوت لانبعاث الأغنية العربية». كما تقدم «القبنجي أفندي بمقام جديد أضيف إلى المقامات الشرقية السائدة آنذاك وعرف «بالمقام اللامي» الذي ذاع صيته وغناؤه في بلاد الشام تحت اسم «المقام البغدادي» وكان أبرع من غناه إيليا بيضا وشقيقه شكر الله والآنسة اسمهان فيما بعد. أم كلثوم كوكب الشرق؟ في العام 1927 زار الشيخ زكريا أحمد مدينة بيروت برفقة المغنية الشابة آنذاك «توحيدة» وبعد ان قضى شغله مع آل شاهين الذين كانوا يتاجرون بالأسطوانات وآلات الموسيقى اتجه إلى مرفأ بيروت ليركب السفينة العائدة إلى الاسكندرية وفيما كانت السفينة تبحر لمع في عينيه «يافطة» تلمع في سماء بيروت عنوانها «كوكب الشرق». وكان هذا الكوكب الأرضي عبارة عن نادي للتسلية ولعب القمار في وسط ساحة البرج الذي صار يعرف فيما بعد «بنادي الشرق» وهاكم التفاصيل: سرح الشيخ زكريا مع هذه اليافطة، ثم تذكر فجأة أن معظم المطربات والمطربين في مصر لهم ألقاب: فمنيرة المهدية لقبها «سلطانة الطرب»، فتحية أحمد «مطربة القطرين» وفاطمة رشدي «ساره برنا الشرق». فلمعت في رأسه فوراً أن يكون لقب أم كلثوم «كوكب الشرق»، بدلاً عن «الآنسة أم كلثوم ابراهيم البلطجي» وصمم ألا يتورط هو شخصياً في الاقتراح نتيجة العلاقات المتوترة دائماً بينه وبين الآنسة. وخطط أن يكون السنباطي هو الهامس والمقترح للقب بسبب العلاقة الحميمة بينه وبين أم كلثوم (كلاهما بلديات من منطقة سبلوين في محافظة الشرقية). وهكذا كان وابتداء من العام 1935 صار اسم أم كلثوم «كوكب الشرق». لكن القصة لا تمر عادة مع أم كلثوم بسهولة. فهي معتدة بنفسها وشديدة الذكاء ومقدامة في تصرفاتها الاجتماعية والفنية. في صيف العام 1936 سافر «حسن الجاك» للمرة الثالثة إلى القاهرة وفي نيته أن «يقنع» أم كلثوم بإحياء حفل غنائي في بيروت في سينما «ماجستيك» التي كان استأجرها لفترة زمنية طويلة. والسينما تقع في وسط ساحة البرج ولا يفصلها عن «نادي كوكب الشرق» سوى عشرات الأمتار. غنت «الست» وأبدعت كعادتها. ومن بيروت من ساحة البرج شدت بلحن السنباطي الشهير «يا ظالمني». كان علية القوم كعادة في الصف الأول ولاحظت من بينهم القاضي الظريف سامي الصلح ورفيقه البريزيدان نقولا طراد وغيرهما من الشخصيات اللبنانية والسورية لكنها وهي شديدة الملاحظة والذكاء لاحظت أن لقبها «كوكب الشرق» يلمع في عينيها وهي منسجمة في الغناء. وعندما أقفلت الستارة وجاء وقت المصافحة والتهنئة اقترب منها سامي الصلح وهنأها بحرارة بالغة. عند ذاك فاجأته بهذا الطلب البسيط. قالت له: «موش عيب يا سمي بك يكون لقبي عبارة عن خمّارة ولعب ورق وما يستتبع ذلك». فتجمّد سامي بك في أرضه، وقال لها: «بعد يومين لن يكون «كوكب الشرق» إلا مع الآنسة أم كلثوم». وبالفعل بعد يومين وعبر صداقاته في بلدية بيروت آنذاك طلب من رئيس البلدية تغيير نادي «كوكب الشرق» إلى أسم جديد هو «نادي الشرق» فقط. واستمر حتى الحرب الأهلية حيث كان العبقري «شوشو» يقدم مسرحياته الساخرة في الطابق الأرضي من العمارة نفسها. نقيبة الموسيقيين في منتصف الثلاثينيات فازت في فرنسا «الجبهة الشعبية» ذات الميول الاشتراكية بزعامة «ليون بلوم» وقد أبلغت بذلك من صديق عمرها أحمد رامي ومن منافسة ذي الميول الاشتراكية الشاعر الكبير بيرم التونسي. فدعت إلى اجتماع طارئ في بيتها الجديد في «الزمالك» دعت إليه السنباطي والشيخ زكريا والقصبجي ومحمود الشريف الذي سيصبح فيما بعد «زوجها المحروم» وطرحت عليهم فكرة إنشاء نقابة للموسيقيين أسوة بالدول الأوروبية المتحضرة. وافق الجميع. تبرّع أحدهم بتقديم طلب الرخصة. وبعد أسبوع عاودوا الاجتماع وبايعوا «أم كلثوم» بمنصب النقيب وبذلك كانت أول امرأة تتولى نقابة فنية في بلاد العرب كلها. ولمّا انتهت ولايتها بعد أربع سنوات جدّد لها الموسيقيون الثقة وانتخبت للمرة الثانية. صراعها مع عبد الوهاب في الوقت نفسه أي منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي استطاع محمد عبد الوهاب أن يتصدر ويفرض نفسه «المطرب الأول» أو كما كان يصفه التابعي «بمطرب الملوك والرؤساء» وبذلك أزاح صالح عبد الحي من الواجهة لتبدأ المواجهة بينه وبين أم كلثوم. غنى عبد الوهاب للملك فاروق أغنية شهيرة مطلعها «الفن من يعرفه» فردت أم كلثوم بأغنية شهيرة عنوانها «مليكي يسعد أوقاته». وذلك في عيد ميلاد الملك فاروق. طار عبد الوهاب في العشرينيات من ذلك الزمن إلى بغداد مع أستاذه أحمد شوقي وأنشد «يا شراعاً وراء دجلة يسري»، وذلك بحضرة الملك فيصل الأول ملك العراق وسوريا في ذلك الزمان. فردت أم كلثوم وطارت إلى بغداد في أواخر الثلاثينيات. ولأسباب بروتوكولية لم تغن في قصر الملك «قصر الزهور»، بل غنت في «فيلا رئيس الوزراء نوري السعيد» ولأنها رفضت بعض عروضه سحب منها لقب «باشا» وأهداه لليهودية سليمة مراد التي سافرت فيما بعد (منتصف الخمسينيات إلى إسرائيل) وكانت مطربة عراقية جميلة الشكل.