يومه الثلاثاء 3 فبراير الحالي تكون قد اكتملت أربعون سنة (40)، بالتمام والكمال على وفاة سيدة الطرب العربي. ولما نستحضر هذه الذكرى، فإننا نستحضر معها جيلا من أساطين الطرب والموسيقى، قد لا يجود الزمن بمثله. وفي المقدمة كانت أم كلثوم المبدعة، المطربة العظيمة ونقيبة الموسيقيين أيضا. ليس لها صوت فقط، بل مساحة أصوات بطبقات متباينة، تتميز بقيمة فنية تستطيع أن تؤدي بها بيسر وبزخرف يصل حد الإعجاز، الجمل الغنائية الصعبة. صوتها بهذه المواصفات تجمع فيه ما تفرق في غيره. بين الرقة الانسيابية (رق الحبيب)، والرومانسي الحالم (هجرتك، طاب النسيم العليل)، إلى القوة العالية (للصبر حدود، الأطلال) واللمسة الروحية الموحية بالخشوع (سلو قلبي، ولد الهدى)، إلى طبقة الحماس في الاعتزاز بالانتماء للوطن (وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبني قواعد المجد وحدي) إلى الغناء للشعب سيد المصير (أنا الشعب، أنا الشعب، لا أعرف المستحيلا، ولا للخلود بديلا) وهذه، من قلائل الدرر التي لحنها الموسيقار والسياسي كمال الطويل للشعب. أتقنت أداء الدور والموال، وأبدعت في الطقطوقة والمونولوغ، بل جمعت في توليفة غير مسبوقة غاية في الجمال بين هذين الصنفين الأخيرين في (أنا في انتظارك). لكنها تفردت في القصيدة بشقيها الفصيح والعامي وحملتها في نقلة تحديثية أوركسترالية إلى الأرقى مع عمالقة بقيمة : بيرم التونسي وأحمد رامي وأمير الشعراء شوقي، شعرا، والشيخ أبو العلا امحمد معلمها الأول، والقصبجي والشيخ زكريا ورياض السنباطي لحنا. هناك تضارب في تاريخ ميلادها ما بين 1898 و 1900 و 1904. لكن ما هو مثبت في رسم الولادة هو التاريخ الأخير، وحتى إحياء الذكرى المائوية لميلادها الذي أقامته دار الأوبرا بالقاهرة، اعتمد هذا التاريخ. وهو نفس التاريخ (2004) الذي تم الاستناد إليه في إحياء نفس الذكرى بالدار البيضاء بتنظيم من الفرقة المغربية للموسيقى العربية وبشراكة مع دار الأوبرا المصرية، التي حضرت مديرتها الفنانة والدارسة والمغنية الأوبرالية الكبيرة، مؤلفة كتاب " أم كلثوم معجزة صوت " الدكتورة الراحلة رتيبة الحفني. قرية طماي الزهايرة بمحافظة الدقهلية هو مكان ولادتها، بدأت ترافق والدها المنشد الديني ابراهيم البلتاجي في المواليد والأفراح لتؤدي التواشيح والقصائد الدينية والصوفية. وحدث أن حضر بإحدى القرى، الشيخ " أبو العلا امحمد " مناسبة من هذه المناسبات. فأذهله صوت الطفلة في الإنشاد، وبفراسته وخبرته الفنية هو الملحن الكبير والمغني للقصائد والأدوار الذائع الصيت، عرف بكثير من الجهد كيف يقنع والدها لتنزل الطفلة للقاهرة عاصمة الفن، باعتبارها مشروع موهبة قيد التشكل. اقتصرت حفلاتها سنة 1916 على ما هو ديني وكانت البداية في قصر إحدى الذوات التي أجزلت لها العطاء. ومنذ هذا التاريخ أصبحت تتردد على العاصمة مرفوقة بوالدها، حتى قررت الاستقرار بها نهائيا سنة 1923. وبين الحين والآخر كان الشيخ أبو العلا يسند إليها تدريجيا بعض القصائد حتى أتممت ما لحنه وما غناه هو، ك (وحقك أنت المنى والطلب - أفديه إن حفظ الهوى - وكم بعثنا مع النسيم سلاما) التي أعاد غناءها الأستاذ أحمد البيضاوي بالعود بروعة متناهية. ولما غنت قصيدة " الصب تفضحه عيونه " بحضور مبدعها الشاعر الشاب أحمد رامي العائد لتوه من فرنسا بعد إتمام الدراسة، كان ذلك بداية الفتح الكبير لنهر متدفق في التعامل بين الاثنين، استكمل حلقاته الأساسية لما دخل إلى جانبهما على الخط الموسيقار المجدد الكبير " محمد القصبجي ". هذا بعدما سبق لها أن تعاملت مع عملاق آخر هو داوود حسني في أداء الأدوار على الخصوص (جنة نعيمي - يا عين دموعك). كان المونولوغ الغنائي (لو كنت أسامح وانسى الأسية) سنة 1928 قمة التعامل مع القصبجي ورامي حيث بيعت منه نصف مليون نسخة، وهو رقم لم يشهده تاريخ الفن في حدود هذه المرحلة. بل إنه مكنها من التفوق على من سبقوها من مجايلاتها ك " منيرة المهدية و فتحية أحمد و نجاة علي ... " واعتبارا لهذا المجد الذي بلغته حاولت تجريب التلحين لنفسها في (على عيني الهجر) لكنها لم تلق النجاح المطلوب. عرفها الشيخ زكريا أحمد سنة 1919 لكنه لم يلحن لها إلا سنة 1935 فلماذا ؟ الشيخ زكريا رغم أنه رائدا للمدرسة الكلاسيكية كان وهو الداهية يراقب، كيف يصقل أستاذه الشيخ أبو العلا الموهبة الواعدة من خلال غناء القصائد التي كان يرغب هو نفسه في تلحينها. نفس السنة (35) ستعرف تحولا كبيرا بينها وبين السنباطي الذي بدأ التلحين لها قبل ذلك في أواخر العشرينات، من خلال (على بلدي المحبوب) التي فعلت ما فعلته (إن كنت أسامح ..) المذكورة، في عموم مصر. من هنا عاود الحنين أم كلثوم التلحين لنفسها مرة ثانية، وكأنها تريد أن تنافس العملاقين المذكورين فكانت محاولتها هذه المرة فاشلة مما جعلها تقلع نهائيا عن التلحين. نفس السنة أيضا تعتبر فارقة في حياتها إذ أنها ستدخل غمار التمثيل من خلال أفلام : " دنانير - نشيد الأمل - عايدة - وداد وغيرها ". بعد هذا التاريخ ستبدأ سطوتي الشيخ زكريا في التلحين وبيرم التونسي في الشعر التي ستفرز أعمالا كبيرة جدا ك : (أهل الهوى - الآهات - الأولى في الغرام - أنا في انتظارك - حبيبي يسعد أوقاته - وأخيرا الهوى غلاب)، مما جعل النقاد يطلقون على هذا الثلاثي لقب الفرسان الثلاث. في نفس الوقت شق رامي والسنباطي مسيرتهما اللحنية عبر درر : (يا ليلة العيد - غلبت أصالح فيه روحي - سلو قلبي، من شعر شوقي ...) في سنة 1946. أم كلثوم الإنسانة خاضت مغامرة في الحب مع ملحن كبير، من مفارقاته وهو غير المحظوظ أن أعماله مشهورة جدا ولكنه غير مشهور منها (على شط بحر الهوى لكريم محمود - اسأل علي وارحم عيني لليلى مراد - رمضان جانا - حبيتك وححبك - يا حاسدين الناس - اسأل علي للمطرب الكبير محمد عبد المطلب - ثلاث سلمات لمحمد قنديل ...). هذا المحظوظ لدى أم كلثوم في العشق هو الموسيقار محمود الشريف. وتتويجا لهذا الحب الذي اقترن بزواج لم يعمر إلا بضعة أشهر اقترحت عليه أن يقدم لها عملا، وجاءته بشعر لبيرم التونسي (شمس الأصيل)، فلحنها سنة 1946. لكن السنباطي سيلحنها أيضا إنما بعد 9 سنوات 1955. فهل الصيغة الأخيرة للسنباطي أم لمحمود الشريف ؟ وهل هناك لحنين (لشمس الأصيل) فأين الأول، وأين الثاني ؟ وكيف نفسر اختفاء أحدهما ؟ هناك مؤلف للناقد طارق الشناوي (أنا والعذاب وأم كلثوم) ينسب التلحين لمحمود الشريف. هل كان للطلاق بين هذا الأخير وأم كلثوم والذي كان بقرار (فرمان) من القصر بدعوى أنها تحمل لقب " صاحب العصمة " الذي - يقيد حريتها في الزواج ممن لا يحمل نفس اللقب -، أثرا حتى على الفراق الفني ... !!! لما رفع الشيخ زكريا أحمد دعوى قضائية في مواجهة أم كلثوم متهما إياها أنها لا تفيه حقه لقاء التلحين كان الطلاق الفني بينهما الذي امتد لعشر سنوات. هنا ستنفتح الأبواب مشرعة لسيادة ألحان السنباطي. وهكذا سينطلق تدفقها ما بين أواخر الأربعينات وعقد الخمسينات وهي تغرف صيغا من جميع المدارس اللحنية الأصيلة، في توليفة سنباطية، سمت بأم كلثوم إلى كوكب فعلي للشرق في سماء الطرب والتطريب. فكانت الروائع الكبيرة (مصر تتحدث عن نفسها - سلو قلبي - الرباعيات - سهران لوحدي - النيل - هجرتك - ذكريات - أقبل الليل - دليلي احتار - عودت عيني على رؤياك - يا للي كان يشجيك أنيني، والقائمة تطول ...)، لم يدخل في هذه المرحلة على خط التلحين كمنافس سوى واحد هو الموسيقار الرقيق محمد الموجي بأغنيتين : الأولى (للصبر حدود) والثانية (اسأل روحك) وفي استجواب له بالمغرب الذي كان يتردد عليه كثيرا رفقة عبد الحليم أجاب في استضافة تلفزية في السبعينات أن أم كلثوم أتعبته كثيرا في اللحن الأول بحيث تطالبه دائما بإعادة صياغة اللحن، حتى كاد أن يتخلى عن العمل فقال (كلتمتني،، في للصبر حدود) وأنا (موجتها،، بمعنى فرضت أسلوبي كموجي في اسأل روحك). عرفت علاقة السنباطي بأم كلثوم بحلول الستينات نوعا من الفتور بسبب بعض الخلافات. فأمسك لمدة أربع سنوات عن التلحين لها وهو المعروف بعزة النفس والكبرياء. وتشاء الصدف أن يعرفها صديقها المطرب محمد فوزي عن ملحن شاب في الثانية والعشرين من عمره لا زال في بدايته. أعطته أم كلثوم كلمات للتجريب ولما عاد إليها أمسك العود وهو جالس على الأرض وبدأ يدندن الكوبليه الأول للحن، وما أن سمعته " الست " حتى أخذ بلبها فنهضت لتجلس بجانبه هي الأخرى على الأرض فكانت أغنية (حب إيه ...) وكان الشاب هو عبقري الألحان (بليغ حمدي). ومن تم كان العطاء التجديدي في موسيقى أم كلثوم حيث أدخلت آلات جديدة كالأورغ والكورديون وسادت أعمال مثل : (ظلمنا الحب - ألف ليلة وليلة - بعيد عنك - سيرة الحب و فات الميعاد وغيرها .. ). ترجع المصادر سبب تأخر موسيقار الأجيال في التلحين لأم كلثوم، للمنافسة الشديدة التي طبعت مسيرتهما الفنية منذ النصف الثاني من العشرينات وبخاصة أن هذه المنافسة امتدت إلى من يكون عن طريق الاقتراع نقيبا للموسيقيين. وكان الفوز يحالف أم كلثوم. و من تم فضل كل منهما رسم معالم طريقه في استقلال عن الآخر. سنة 1964 سيتدخل الرئيس جمال عبد الناصر بنفسه حبيا بينهما ومعاتبا في نفس الوقت. وقد أثمرت المبادرة لقاء بين الهرمين في (انت عمري)، التي اعتبرها بعض النقاد الموسيقيين وعلى رأسهم محمد الموجي نقطة فاصلة بين مرحلتين وبالتالي بين أم كلثوم وأم كلثوم ثانية بعدها. ما يهمنا أن عبد الوهاب زود ربيرتوارها ب (أنت الحب - أمل حياتي - دارت الأيام - هذه ليلتي وفكروني ...)، هذه الأخيرة التي أدتها بمراكش عند زيارتها للمغرب سنة 1968 أمام العاهل الراحل الملك الولوع الحسن الثاني، بمصاحبة الجوق الملكي في العزف. وقد سمحت لأول مرة بعد وفاة القصبجي قبل سنتين (66)، والذي تركت مقعده شاغرا أن يمسك الفنان الكبير والصديق العربي الكوكبي أو (با العربي)، أطال الله في عمره، آلة العود ويشغل مكان عملاق. كان لها أيضا وهي في المغرب مشروع لحن مع الموسيقار أحمد البيضاوي وشعر أحمد صبري لكنه لم يرى النور مع الأسف. سنة 1965 ستشهد التصالح مع السنباطي، وربما كانت سنوات الجفاف دفعته للتأمل وإعادة ترتيب الأوراق وتتبع المستجدات اللحنية لبليغ حمدي وعبد الوهاب. وكان الرد قويا من خلال تلحين (للأطلال) التي ستدخل ضمن اختيار أغان القرن الماضي في العالم. بعد ذلك جاء التعامل مع سيد مكاوي في (يا مسهرني). كانت خاتمة ألحان السنباطي القصيدة الرائعة (من أجل عينيك) من شعر الأمير عبد الله الفيصل صاحب (ثورة الشك) وكان في جعبة السنباطي قصيدة جديدة من شعر إبراهيم ناجي مبدع الأطلال، قال عنها أنها ستضاهي هذه الأخيرة، لكن الحالة الصحية لأم كلثوم لم تكن تسمح حيث كانت وفاتها فيما بعد ... وكذلك نفس الأمر كان مع سيد مكاوي في (أوقاتي بتحلو) التي أسندها للمطربة وردة. ونختم بإشارة لا بد من سردها عقب ثورة الضباط الأحرار 23 يوليوز 1953 تم منع أغان أم كلثوم وصودرت من الراديو رغم أنها كانت أول من افتتحه سنة 1926 بأغنية من أغانيها، وكان هذا باجتهاد من الضابط المشرف على الإذاعة بعد الثورة. ولما نما لعلم عبد الناصر عن طريق الصحفي أحمد أمين الخبر. استدعى الضابط على الفور مستفسرا عن الأمر فأجاب هذا الأخير أن أم كلثوم تنتمي إلى العهد البائد. فاستشاط غضبا، ورد ساخرا : لماذا لا تزيلوا الأهرام، فإنها تنتمي أيضا إلى العهد البائد ؟!.