حلت يوم 12 من سبتمبر الجاري، الذكرى 23 لرحيل الموسيقار الكبير بليغ حمدي. وحين يتذكر بليغ، نستحضر الموسيقى في أرقى تجلياتها. كثافة اللحن، غزارة في الإنتاج، َتنوع وتجديد في قوالب النغم وأساليب جمل اللحن.إن الأصوات الطربية الكبيرة، ومعها الموسيقى العربية، تدين لهذا الرجل الذي طبعت إبداعاته الفنية الرفيعة النصف الثاني من القرن العشرين. هو عبد الحميد حمدي مرسي بليغ، ولد في حي شبرا بالقاهرة في العقد الأخير من ثلاثينيات القرن الماضي. والده أستاذ الفيزياء في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا). تعلم العزف على العود وهو ما يزال طفلا يافعا، غرف الأصول الأولى من مدرسة الموسيقى الشرقية. ثم تتلمذ على الشيخ درويش الحريري، (ليس السيد درويش كما قد ينصرف إلى الدهن) وهو أحد الأساتذة الكبار لمحمد عبد الوهاب نفسه، والمغني الثوري الكبير الشيخ إمام عيسى. هذا الأخير الذي لا يقل مستواه في العزف وصياغة الألحان شأنا عن كبار الملحنين ك (زكرياء أحمد، القصبجي وداوود حسني). الفارق الوحيد بينه وين هؤلاء، أنه اختار الطريق الشاق. احترف بليغ الغناء، بادئ الأمر فسجل أربع أغان. إلا أن ميوله كانت منجذبة لسحر التلحين، بفعل التكوين الذي تلقاه منذ نعومة أظافره، سواء بالمدارس الأولية أو على يد الشيخ درويش الحريري أو في قسم الموسيقى بجامعة فؤاد الأول. كان أول لحن له للمطربة " فريد كامل " في (ليه فاتني)، ثم لفايزة أحمد في ( ما تحبنيش بالشكل ده). انطلقت مسيرته الفنية بنفس أكبر، لما احتضنه المطرب الكبير " محمد فوزي " وفتح له أبواب شركته (مصرفون) لترويج أعماله. وبذلك أفسح له مجال التلحين من بابه الواسع. من هنا أخذت شهرته في الانتشار، فكان أول لقاء له بعبد الحليم حافظ سنة 1957 في أغنية ( تخونوه)، والتي كان قد أعدها في الأصل للمطربة الكبيرة " ليلى مراد ". من جهتها أم كلثوم، وهي تتربع على قمة الهرم في الطرب العربي لم تكن عينها غافلة على ما يستجد في الساحة الفنية. فقامت باستدعاء بليغ الشاب ببيتها وهو لم يتجاوز 21 سنة، لتختبر إمكانياته اللحنية. عرضت عليه نص من الشعر الغنائي، وفور الانتهاء من قراءته أمسك العود ووضع للتو مقدمته اللحنية (الكوبلي) أدهشت كوكب الشرق. من هنا كانت رائعة (حب إيه) سنة 1961 ثم تلتها مطولات (أنساك، ظلمنا الحب، سيرة الحب، بعيد عنك، فات الميعاد و الحب كله) وغيرها من الأغاني الوطنية. وضع الكثير من الأغاني العاطفية لعبد الحليم، وهي معروفة للقارئ المتتبع. ولكن أهم ما يميز تعامله مع العندليب شيئين : الأول : أنه حول وجهة عبد الحليم إلى لون آخر من الألحان، تمتح من الفولكلور الصعيدي وأهازيج الأفراح مادتها الخام. وهذا بفضل الثنائي الذي شكله مع الشاعر الكبير عبد الرحمان الأبنودي وهكذا كانت (الهوى هوايا، على حسب وداد، جانا الهوى، سواح وكامل الأوصاف). الشيء الثاني : وشكل فيه ثنائي آخر مع الشاعر الغنائي محمد حمزةَ. وهو الذي (أي بليع) راكم تجربة كبيرة وبخاصة في تلحين المطولات لأم كلثوم، والتي أفادته كثيرا وقادته في نفس الوقت إلى إحداث نقلة نوعية في المسار الفني لعبد الحليم. أي ولوج المطولات، فكانت البداية ب " زي الهوى " ثم (موعود، مداح القمر وأي دمعة حزن). حيث سيدخل على الخط فيما بعد الموسيقارين محمد عبد الوهاب ومحمد الموجي. التقى بوردة في الذكرى العاشرة لاستقلال الجزائر سنة 1972 وهي التي انقطعت عن الغناء بسبب الزواج لمدة عشر سنوات. لكن الرئيس بومديان استدعاها لتشارك في الاحتفال، لحن لها بليغ للمناسبة (عدنا إليك يا جزائرنا الحبيبة) قال لها بعد العمل " انزلي، الساحة مستنياك " وهكذا عادت وردة بعد انفصالها عن زوجها لميدان الطرب. وضع لها أول أغنية " أحبك فوق ما تتصور، ثم العيون السود " فنشأت علاقة حب بينهما توجت بالزواج ولحن لها العديد من الأعمال الإبداعية ناهزت 250 عمل بالتمام والكمال. ويكفي ذكر روائع (أكذب عليك، معندكش فكرة، اسمعوني ثم بودعك). هذه الأخيرة التي لحنها سنة 1987 من منفاه الاضطراري بباريس وبعض انفصاله عن وردة سنة 1979. لحن أيضا أجمل ما شدت به المطربة الكبيرة شادية - وهي مقلة في أعمالها - (قولوا لعين الشمس/خذني معاك/يا حبيبتي يا مصر ويا اسمراني اللون) وأبدع للشحرورة صباح (عاشقة وغلبانة، يانا يانا، زي العسل ...) ولنجاة (أنا بستناك، الطير المسافر)، ولفايزة أحمد (حبيبي يا متغرب)، ولعفاف راضي أجمل ما غنت (رودوا السلام، هوى يا هوى، كله في الموانئ ...). ولا يمكن إغفال الإشارة لتعامله مع محمد رشدي في الطرب الشعبي الذي هو ضالة ألحان بليغ في روائع (إمتا حشوفك، مغروم صبابة، تحت الشجر يا بهية)، بالإضافة إلى محرم فؤاد في (سلمات وغزال اسكندراني)