يبدو تصوّر الهويّة اليهودية - العربية المشتركة متعذر اليوم بحكم الوضع السياسي القائم في الشرق الأوسط، بيد أنها كانت حقيقة واقعة قبل الحرب العالمية الثانية، كما هي الحال مع الهويّة اليهودية - الألمانية. شهود هذه الهويّة اليهودية- العربية الممتزجة هم اليهود الناطقون باللغة العربية وشعراؤها. «من الواضح بلا شكّ أننا نشهد اليوم احتضار الثقافة والهويّة اليهودية - العربية» أبصر والِديّ النور ببغداد وهاجرا إلى إسرائيل عام ألف وتسعمائة وواحد وخمسين غصبا عنهما، وبعد ذلك بسنتين وُلدتُ في حيفا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. وكأي يهودي إسرائيلي المولد تلقّى تعليمه في إطار النظام التعليمي الإسرائيلي- الصهيوني، لُقّنت بأن الهويّتين العربية واليهودية نقيضان لا يلتقيان. وفي محاولتي كطفل للتكيّف مع المعايير الصهيونية- الإشكينازية الغربية السائدة، وكما كانت الحال مع بقية الأطفال من ذوي الخلفية الاجتماعية المماثلة، كنت، وأنا طفل، أشعر بالخجل من عروبة والديّ. أما بالنسبة إليهما، فلم أكن سوى عميل جهاز القمع الصهيوني الحكومي الذي أرسلته المؤسّسة الإسرائيلية الحاكمة، بعد تلقّي أفضل التمرينات والتدريبات، إلى قلب استحكامات العدو، أي: عائلتي، وقد أتممتُ المهمّة على أكمل وجه يمكن أن يؤدّيه طفل أمام والديه المحبّين، مستغلّا استغلالا تامّا ما تنطوي عليه محبّة الوالدين من ضعف إزاء طفلهما: حظرت عليهما الكلام بالعربية في الأماكن العامّة، أو الاستماع إلى الموسيقى العربية داخل بيتهما. ولم تكن العروبة مشكلة والدي الوحيدة فحسب، إذ كان نشيطا شيوعيا في وقت كان فيه الانتماء للشيوعية في إسرائيل لا يختلف عن الانتماء إلى منظّمة إرهابية. وأكثر ما أتذكّره عن والدي هو عشقه الكبير للشعر، ولا سيّما للشعر العربي، وكيف كان يستشهد به محاولا إرشادي وتثقيفي. لا أتذكّر بالتأكيد الآن أي شيء مما كان ينشد على مسامعي آنذاك من أبيات شعرية؛ أعرف فقط أنه كان يصرّ على إلقائه رغم أني، ويعود الفضل في ذلك إلى تربيتي الصهيونية المتشدّدة، لم أودّ الإصغاء إليه. وأعتقد أن إحجامي التامّ عن الاستماع إليه، هو ما دفعه إلى تكراره مرة تلو الأخرى، الأمر الذي أهّلني بعد ذلك بسنوات لاستعادة بيت واحد من الشعر، أذكر أنه على علاقة ما بالإبل والماء، ربما لأنني طوّرت حسّا بموسيقاه الداخلية المستمدّة من بحر الكامل الخليلي. وكان بيتا منسوبا إلى شاعر القرون الوسطى الأعمى الزاهد أبي العلاء المعري (973 - 1058) الذي أثير الكثير من الجدل حول إمكانية تأثّر دانتي أليغيري (Dante Alighieri) به عند كتابته «الكوميديا الإلهية» ? مأساتي. على كلّ حال، كانت أبعد ما تكون عن كونها إلهية: كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول حين بدأت أبحاثي في تاريخ اليهود العرب، موليا اهتماما خاصّا بعروبة اليهود العراقيين المتأصّلة في عمق التاريخ العربي وما قبله، عذّبني هذا البيت كثيرا. وقد بلغ العذاب مدى لا يطاق حينما قرأت، لأوّل مرة، رائعة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش (1941 - 2008) «أنا يوسف يا أبي» من ديوان «ورد أقل»، وخصوصا عندما استمعت إلى مارسيل خليفة يغنّيها: أنا يوسف، يا أبي، يا أبي إخوتي لا يحبّونني لا يريدونني بينهم يا أبي يعتدّون عليّ ويرمونني بالحصى والكلام يريدونني أن أموت لكي يمدحوني وهم أوصدوا باب بيتك دوني وهم طردوني من الحقل هم سمّموا عنبي يا أبي وهم حطّموا لعبي يا أبي حين مرّ النسيم ولاعب شعري غاروا وثاروا عليّ وثاروا عليك فماذا صنعتُ لهم يا أبي ؟ الفراشات حطّت على كتفيّ، ومالت عليّ السنابل، والطير حطّت على راحتيَّ فماذا فعلتُ أنا يا أبي، ولماذا أنا ؟ أنت سمّيتني يوسفا وهمو أوقعوني في الجبّ، واتّهموا الذئب؛ والذئب أرحم من إخوتي أبتِ ! هل جنيتُ على أحد عندما قلتُ إني رأيت أحد عشر كوكبا، والشمس والقمر، رأيتهم لي ساجدين. تساؤل يوسف المتكرّر «ماذا فعلت أنا يا أبي؟» و»هل جنيت على أحد؟»، بعث، وما زال يبعث، في قلبي، شعورا عميقا بالندم. والسؤال الأخير يفيد نفس المعنى الوارد في الشطر الثاني من بيت أبي العلاء الذي أوصى بنحته على قبره : «هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد». ولأن النزوع نحو الزهد أفعم قلب المعري بالغيظ من والده الذي أنجبه، فقد قمع شهوته الجنسية خشية تنسيل ذريّة من صلبه. أما بالنسبة إليّ فشعرت أن عليّ بالأحرى قراءة البيت بشكل معاكس تماما: هذا ما جنيت على أبي وما جناه على أحد. كان إصراري على رفض التراث الحضاري العربي، الذي كان تراث والديّ قبل هجرتهما إلى إسرائيل، متأصّلا في قلبي ومتحكّما في هويّتي الإسرائيلية الصهيونية على مدى سنوات طويلة. ولم يفارقني هذا الإصرار حتى عندما بدأت تعلّم اللغة العربية في المدرسة الثانوية، وبعد ذلك في الجامعة، إذ كان النظر إلى اللغة العربية دائما من خلال عدسة الضرورات الأمنية الإسرائيلية، تحت شعار «اعرف عدوّك !»- كان النظر إلى إتقان العربية وظائيفيا بحتا، أي، إجادة العربية لكي يكون بالإمكان خدمة الأجهزة الأمنية في المعركة ضد العرب. وعندما أطلّ الآن على تلك الفترة المبكّرة من حياتي، لم أجد أفضل تعبير عن مثل ذلك الانفصام في هويتي - عروبة والديّ الأصلية مقابل التثقيف الصهيوني الساعي إلى شطب هذا العروبة - ممّا قالته الشاعرة الإنكليزية كريستينا روسيتي (Christina Rossetti) (1830- 1894) في مطوّلتها الشعرية «عفريت السوق» (Goblin Market): «بإمكان شخص واحد أن يقود حصانا إلى الماء، لكن عشرين شخصا لا يستطيعون أن يجعلوه يشرب». اكتشاف الهويّة اليهودية - العربية كانت توبتي تدريجية وبطيئة للغاية، ولكن في «باب التوبة» من «الرسالة القشيرية» يرد القول إن الله يحبّ التوّابين، فعلى الأقلّ، هكذا أسلّي نفسي، يحبّني الله. لقد ارتقيت طريق التوبة (وربما أضحى ذلك واحدا من هويّتي المبتكرة الحالية) يوم 14 كانون الأول/ ديسمبر 1984، أي بعد خمس سنوات من وفاة والدي، حينما كنت جالسا في قسم الأخبار في إذاعة إسرائيل باللغة العربية حيث كنت أعمل يومها، بعد أن صرت أتقن العربية، محرّرا للأخبار توفيرا للقمة العيش. أما في أبحاثي الأكاديمية فكنت منهمكا في تحقيق نصوص الزهّاد والصوفيين القدامى ضمن دراستي في الجامعة العبرية في القدس - فلم تكن ثقافة اليهود العرب في العصر الحديث في أي حال من الأحوال ضمن موضوعاتي المفضّلة. فالتصوّر السائد آنذاك في الجامعة العبرية (وهناك من يصرّ أن هذا التصور ما زال سائدا هناك حتى الآن) هو أن العرب المعاصرين ليسوا إلا « أمّة بائدة»، أي أمّة ذات ماض عريق حضاريا، ولكن بلا شيء ذي قيمة حاليا. في ذلك اليوم الشتائي، أبلغنا مراسلنا للتوّ بوفاة الشاعر أنور شاؤل (1904 - 1984) في كيرؤون، بالقرب من تل أبيب، وأذعنا الخبر مع نبذة مقتضبة عن سيرة حياته. اتّصلت فورا بالمسؤولة عن تحرير الأخبار في القسم العبري، إذ ظننت أن من المهمّ، رغم تربيتي الصهيونية المتزمّتة، أن يذاع في النشرة العربية أيضا خبر موت أحد آخر الشعراء اليهود العرب. «أنور من؟» سمعت المحرّرة في القسم العبري تزعق. شرحت لها باختصار أهمّية الخبر إلا أنها سرعان ما قالت: «هذا لا يعني مستمعينا بتاتا» لم أحاول إقناعها وقتذاك، لكن بعد ذلك بسنتين، وفي عام 1986، خطف الموت شاعرا يهوديا عربيا آخر هو مراد ميخائيل (1906 - 1986)، ثمّ في السنوات اللاحقة أدركت المنيّة المزيد من الشعراء والكتاب اليهود العرب في غفلة تامّة: شالوم درويش (1913-1997)، داود صيماح (1933 - 1997)، يعقوب بلبول (1920 - 2004)، إسحاق بار- موشيه (1927 - 2004)، وكذلك سمير نقاش (1938-2003)، من أعظم الكتّاب العرب في جيلنا، من وجهة نظري. وأصرّ على قولي، من أعظم الكتّاب العرب وليس اليهود العرب فقط، وأدعو كل من يعتقد أني أبالغ بحكمي النقدي أن يحتفظ بتحفّظاته إلى أن يقرأ رواية نقّاش العراقية الرائعة «نزولة وخيط الشيطان» التي نشرت عام 1986. مات سمير نقاش وهو مفتقر إلى الوسائل الأساسية اللائقة بأسباب العيش الكريم مما حدا به، قبل موته المبكر ببضع سنوات، أن يعبّر عن عزلته في المجتمع الإسرائيلي على جميع المستويات بقوله: «لا أعتبر نفسي كائنا حيّا في هذا البلد (إسرائيل)؛ ليس ككاتب، ولا كمواطن أو حتى كإنسان. لا أشعر بأنني أنتمي إلى مكان ما منذ انتزعت جذوري من الأرض (في بغداد)». ومنذ وفاة سمير نقاش وافى الأجل كاتبين رائعين آخرين من الكتاب اليهود العرب هما: مير بصري (1910 - 2006) في لندن وإبراهيم عوبديا (1924 - 2006) في حيفا. لقد كان اليهود العرب، الذين هاجروا إلى إسرائيل بعد تأسيسها، عرضة لمؤسسة ثقافية عبرية- صهيونية سائدة، فرضت هيمنتها المطلقة على كافّة الكيانات الثقافية الأخرى تحت مظلّة الليبرالية اليسارية، وكانت في ذات الوقت تحتقر وتخشى الشرق وثقافته. لم تختلف سياسة إعادة قولبة هويّة اليهود العرب المهاجرين في صورة الإشكينازي الأبيض وهويته الثقافية الغربية عن السياسة البريطانية في الهند، والتي عرّفها توماس بابنغتون ماكولي (Thomas Babington Macaulay) (1800 - 1859) في كلمة له عام 1834 أمام الهيئة العامة للتعليم العام. متحدّثا عن الأهداف التعليمية للبريطانيين في الهند، دعا بابنغتون إلى خلق نوع جديد من الأشخاص يكون «هنديا بالدم واللون، وإنجليزيا في الذوق، الأخلاق والذكاء». لقد حقّقت الحركة الصهيونية نجاحا باهرا بالضبط حيث عجزت حتى بريطانيا عن تحقيقه - خلق نموذج جديد للإسرائيلي: شرقي في دمه ولونه، وصهيوني وإشكينازي وغربي في الذوق والرأي. هكذا، مثلا، قسر النظام التعليمي الإسرائيلي نسل العوائل اليهودية العربية على القبول بالهولوكوست كما لو أنها كانت محرقتهم الذاتية - وأستطيع أن أضيف أحيانا، كما لو أنها روح- تاريخهم الوحيد والعلامة الفاصلة في هويتهم الثقافية. الهويّة العربية الأصلية لليهود المهاجرين من العالم العربي إلى إسرائيل حضاريا وثقافيا ألقيت في سلّة المهملات التاريخية. مساءلة الهويّة الإشكينازية الغربية وصار المدافعون عن الميول الغربية للهويّة الإسرائيلية المخترعة يتفجّعون خوفا من «خطر» تشرّق» و«تمشرق» المجتمع الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال كتب الصحافي آريه جيلبلوم (Arye Gelblum) في صحيفة «هآريتس» الإسرائيلية يوم 22 أبريل 1949 ما يلي: «نحن نتعامل مع أناس في غاية البدائية، مستوى معرفتهم يقترب عمليا من الجهل المطلق، بل أسوأ من ذلك؛ إنهم لا يتمتّعون ولو بالقليل من الموهبة التي تؤهّلهم لفهم أي شي عن الثقافة». أحد هؤلاء الذين وصفهم جيلبلوم بأنهم «لا يتمتّعون بقليل من الموهبة تؤهّلهم لفهم أي شي عن الثقافة» كان نسيم رجوان (ولد عام 1923)، الذي كتب باستمرار في الأربعينات لصحيفة «Iraq Times» الإنجليزية التي كانت تصدر في بغداد، وكان يهتمّ خصوصا في شؤون الأدب الأنجليزي. وبالرغم من ذلك، وبعد هجرته إلى إسرائيل، كان غالبا ما يعامل ككاتب يفتقر للقابليات الثقافية المناسبة عندما أراد الكتابة عن القضايا غير العربية، حينما كان يعمل مثلا لصحيفة «جيروزاليم بوست» (Jerusalem Post). أما رجوان نفسه فلا يتردّد الآن في حكمه على تلك الجهات الرسمية التي سعت إلى شطب الهويّة اليهودية العربية واستهانت باليهود العرب: «إنها المؤسّسة السياسية- الثقافية (الصهيونية) الحاكمة، التي ينحدر قادتها وروّادها الثقافيون، على الغالب، من قرى وغيتوات روسيا والمناطق البولندية في روسيا، وهم الذين تقنّعوا بقناع «الغربيين» الأصليين - هذه المؤسّسة أخضعت المهاجرين الشرقيين إلى عملية منظّمة من التثاقف والتطهير الثقافي التي أجبرتهم على التنازل عن ثقافتهم، ولغتهم وطريقتهم في الحياة. هكذا أفلحت إسرائيل في تفويت ما كان فرصة نادرة للاندماج في المنطقة بشكل يرحّب بها الجيران العرب - بدلا من الانغلاق على النفس ككيان غريب في قلب المنطقة التي تأسّست فيها». ومن جانب آخر، أرفض تماما الأسطورة، التي تغذّيها المؤسّسة الصهيونية بكل عناية، ومفادها أن يهود العراق كانوا في خطر داهم، أنقذتهم منه عملية إنقاذ خيالية قامت بها أجهزة الدولة اليهودية الجديدة. فالحقيقة هي أن يهود العراق رفضوا الهجرة إلى إسرائيل حتى مطلع عام 1950، بل وحتى حينما أصدرت الحكومة العراقية قرارا يسمح لليهود بالهجرة مقابل تخلّيهم عن الجنسية العراقية أو ما سمّي بالتسقيط. طُرح خيار تسقيط الجنسية المذكور لفترة سنة واحدة فقط ولم تكن الاستجابة له في صفوف اليهود قوية - إلى أن بدأت القنابل تتفجّر في بعض المعابد والمؤسّسات اليهودية في بغداد. تُرى من فجّر هذه القنابل ؟؟ سؤال حرج، وبالفعل، لا أعرف، وربما لا يعرف أحد ذلك الآن؛ ولكن يسعني القول، بكل ثقة، إن معظم يهود العراق الذين تسنّى لي الاستفسار لديهم عن هذه الحوادث الغريبة لا يساورهم أي شكّ بهويّة الجهة الفاعلة، أو بالأحرى بهويّة تلك الجهة التي حقّقت أكبر المنافع حينما أسرع ما لا يقلّ عن مئة ألف من يهود العراق إلى الهجرة إلى إسرائيل. ووفق هذه العجالة التاريخية المنسوجة بمذكّراتي الشخصية، من الواضح بلا شكّ أننا نشهد اليوم احتضار الثقافة والهويّة اليهودية - العربية. كان العنصر الأساسي في «التكافل الخلاق» (creative symbiosis)، ويعود الفضل في طرح هذا المصطلح إلى الباحث شلومو دوف غويتيان (Shlomo Dov Goitein) (1900 - 1985)، بين المسلمين واليهود في القرون الوسطى وحتى العصر الحديث، كون الغالبية العظمى من اليهود الواقعين تحت الحكم الإسلامي، قد تبنّوا اللغة العربية كلغة لهم. أما في عصرنا فلا وجود لمثل هذا التكافل، لأن العربية أصبحت تتلاشى الآن كلغة يتقنها اليهود. وإذا التقيت اليوم يهوديا يتحدّث العربية بطلاقة، فكن على ثقة بأنه إما أن يكون قد ولد في بلد عربي (وعددهم يتناقص، بطبيعة الحال، باستمرار) أو أنه يعمل في إطار أجهزة الاستخبارات أو المباحث العامة الإسرائيلية (وعددهم، بالطبع، يزداد على الدوام). فالنخبة اليهودية- الإسرائيلية سواء كانت الرسمية أو الثقافية لا تعتبر اللغة العربية وثقافتها كنزا حضاريا. وليس هناك، مثلا، ولو كاتب يهودي واحد وُلد بعد 1948 ويكتب بالعربية. هكذا يتلاشى تدريجيا تراث حضاري نشأ قبل أكثر من ألف وخمسمائة عام، أو بالأحرى هكذا يتمّ، أمام أعيننا، الإجهاز بشكل منظّم على هذا التراث الحضاري الرائع في حين يقف الجميع مكتوفي الأيدي، وذلك بناء على تآمر غير معلن تشارك فيه الصهيونية، من جهة، والقومية العربية، من جهة أخرى، وكلّ منهما يجد دعما لموقفه في دين سماوي يستلهمه، وكأن الإسلام واليهودية يجمعان على ضرورة محو هذا التراث الحضاري اليهودي- العربي العريق المشترك. بكلمة أخرى، أصبحت الهويّة اليهودية- العربية مثل الوباء الذي تنبغي مكافحته، وأصبحت الحاجة ملحّة لعزل هذه القلّة من الناس التي ما زالت مصابة به في حجر صحي خشية انتقال وباء الهويّة غير المرغوب بها، لا سمح الله، إلى غير المصابين. إن دور القومية العربية في عملية محو الحضارة اليهودية- العربية أمر لا يمكن إنكاره، إلا أنني لا أعتبر نفسي مؤهّلا للتطرّق إليه - فعلى المسيحيين والمسلمين أنفسهم أن يدركوا خطأهم التاريخي الفادح ويعترفوا به - فمن دواعي السرور أننا بدأنا نرصد بعض المؤشّرات الإيجابية في هذا الاتجاه، إلا أن الطريق ما زال طويلا. أما بالنسبة للصهيونية، فقبل 20 سنة فقط، أي في نهاية الثمانينات، بدأت أفهم أن المجتمع الحضاري المتطوّر الذي أعيش فيه لا بدّ وأن تنطبق عليه مقولة فالتر بنيامين (Walter Benjamin) (1892 - 1940): « ليست هناك وثيقة في الحضارة ليست، في ذات الوقت، وثيقة في البربرية». تعريف الهويّة ولكن ما هي الهويّة اليهودية- العربية ؟ وأيضا، من، يا ترى، يحتاجها اليوم «بعد خراب البصرة» ؟، كما يقول العراقيون. عليّ أن أعترف، بداية، بأن اهتمامي بنظريات الهويّة حديث نسبيا. وقد بدأ هذا الاهتمام عندما رأيت العديد من المجتهدين في هذا المجال يتناقشون حول الهويّة اليهودية- العربية دون أن يكون لهم أي مدخل مباشر إلى النصوص الأصلية، إذ أن حقل دراسة الحضارة العربية- الإسلامية بوجه عام هو، كما أشار إلى ذلك المفكّر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد (1935 - 2003)، أحد الحقول القليلة التي يكتب فيها العديد من الباحثين الذين لا يتقنون العربية، ويدّعون في ذات الوقت عدم الحاجة للتبحّر في هذه اللغة وحضارتها. فمن السهولة بمكان التصدّي للسؤال الثاني المارّ ذكره أعلاه - فهناك حاجة لمناقشة مفهوم الهويّة اليهودية- العربية في المحيطات الصهيوني، والإسرائيلي، والعربي، واليهودي، والإسلامي، والمسيحي، شأنها شأن الحاجة لمناقشة الهويّات الأثنية والأنثوية والمثلية الجنسية وغيرها من الهويّات الشخصية والجماعية والاجتماعية والوطنية والقومية والثقافية. تقول الباحثة جوان سكوت (JoanScott)، من أبرز المنظرين في مجال الجنوسة (Gender): «ما أن نفهم أن الذات (Subject) يجري بلورتها والتعبير عنها من خلال عمليات الاستثناء والإقصاء (exclusion)، حتى يغذو من الضروري تقصّي طبيعة هذه العمليات التي من شأنها أن تؤدّي إلى بلورة هويات معيّنة ومحو أخريات». أما الباحث أندرو إدجار (Andrew Edgar) فيقول: «ما أن ندرك أن الهويّة لم تنشأ كبناء ناجز، وإنما تعتمد على عوامل أخرى، ينفتح الأفق النظري أمام المجموعات المضطهدة والمهمشّة للتحدّي وإعادة نقاش الهويّات التي فُرضت عليها في عملية الهيمنة. وهكذا أُخضعت الهويّات الأثنية، الجنسية المثلية، والهويّات الأنثوية لعمليات التغيير السياسي». وممّا لا شكّ فيه، أن اليهود العرب، الذين أصبح من المألوف في إسرائيل بعد 1948 أن يطلق عليهم، من باب لطف التعبير (euphemism) اسم «مزراحيم» (شرقيون)، قد اضطُهدوا طوال عقود طويلة من القرن المنصرم، من قبل الصهيوينة والقومية العربية وعملائهما السياسيين والاجتماعيين والثقافيين المتنفّذين. كما تحوّل اليهود العرب أنفسهم، أحيانا، وربّما بسبب ما مرّوا به من شطب لهويّتهم الأصلية وإحلال هويّة تنكر العروبة محلّها، إلى قامعين للآخرين، وخصوصا للفلسطينيين. غير أن السؤال الأصعب هو ما هي بالفعل الهويّة اليهودية- العربية ؟ وكيف نستطيع أن نحلّل عناصرها ؟. أودّ بهذا الصدد أن أقترح التعمّق في تصوّرات طُرحت على المستوى النظري في السنوات الأخيرة، وتقول بأن الهويّات ليست أبدا أحادية البنية، وإنما متعدّدة البنى، وهي قائمة على مستويات وممارسات ومواقف مختلفة، غالبا ما تكون متداخلة ومتضادّة. فالهويّات إذن تدور حول قضايا استخدام الموارد التاريخية واللغوية والثقافية في عملية صيرورة أكثر منها عملية وجود: ليس «من نحن ؟» أو «من أين ننحدر ؟»، وإنما في الغالب «ما الذي سنصير عليه ؟»، وكذلك «كيف ولماذا جرى تمثيلنا على هذا النحو ؟» و»ماذا سيكون تأثير هذه التساؤلات على كيفية تمثيلنا لأنفسنا لاحقا ؟». بكلمة أخرى، تنطلق الهويّات من «حكائية» الذات، لكن الطبيعة القصصية الخيالية الضرورية في هذه العملية لا تقوِّض، في أية حال من الأحوال، مادّتها الاستطرادية أو تأثيرها السياسي. وأودّ أن أبدأ بمفهوم الهويّة الذي يقترحه الشاعر والناقد السوري أدونيس (علي أحمد سعيد) (المولود عام 1930). فهو يقول في كتابه «المحيط الأسود»: «لا تأتي الهويّة حصرا من »الداخل« وحده، ولا من »الخارج« وحده، إنها في هذا التفاعل المتحرّك أبدا. لهذا يمكن القول إن الهويّة ليست في ما يثبت بل في ما يتغيّر. أو يمكن القول، بتعبير آخر، الهويّة معنى لا صورة له - أو هي، بشكل أدقّ، معنى في صورة متحرّكة دائما. فالهويّة »لا تتطابق مع أية تجربة محسوسة«، كما يعبر ليفي شتراوس. إنها تتجلّى في »الاتجاه نحو«، لا في »العودة إلى«. إنها في التفتّح، لا في التقوقع، في التفاعل لا في العزلة، في الإبداع لا في الاجترار. في الشعر، في الإبداع الفني، بعامة، تتجلّى مسألة الهويّة في إشكاليتها الأكثر سطوعا. فالهويّة، في اللغة الشعرية، هي موضع تساؤل دائم. لا يكون الإنسان نفسه، في تجربة الإبداع الفني، إلا بقدر ما يخرج ممّا هو. فهويّته جدل بين ما هو وما يكون: هي في هذه الحركة الدائمة - في اتجاه أفق آخر، وضوء آخر. والهويّة في هذا المنظور، هي أمام الإنسان أكثر مما وراءه - وذلك بوصفه مشروعا، وإرادة خلق وتغيير. أو لنقل: الهويّة هي أيضا إبداع: فنحن نبدع هويّتنا، فيما نبدع حياتنا وفكرنا» (ص 17 - 18). * أستاذ اللغة والأدب العربيين في جامعة حيفا