ان كلام الكواكبي- برأي د. عمارة - لاشبهة فيه للعلمانية بل هو التطبيق لموقف الإسلام في إسلامية الدولة حتى لكأنه يدعو إلى تطبيق دستور دولة النبوة في المدينةالمنورة وتطبيق لعهد رسول الله لنصارى نجران سنة 10ه/631م الذي أمنّهم فيه على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وكل ما يملكون فالدين الإسلامي وليس العلمانية هو الذي يجعل رعية الدولة وأمتها وشعبها سواء في كل حقوق المواطنة مع جعل الحكم في الاختلاف الديني لله وحده يوم الدين. فالمساواة التي يتحدث عنها الكواكبي في حقوق المواطنة هي ثمرة لإسلامية الدولة وليس لعلمانيتها. ومن جهتنا نرى ان العلمانية هي أحد العناوين الكبرى للمواطنة وان الأخيرة هي أحد أهم انجازات الفكر الإنساني حيث يتساوى الجميع أمام القانون،دون النظر إلى انتماءاتهم الدينية والقومية. وان من مهام الإنسانية في القرن الحادي والعشرين المحافظة على هذا الانجاز وتطويره بما يجعله ثقافة سائدة مع استمرار حق التدين والاختلاف الديني، وجعل الآخرة محلاً للحساب وان تكون الدنيا محلاً للعمل والتعاون والابتكار والإبداع وليس محلاً للتنازع الديني الذي تكفل العلمانية عدم وقوعه(13). ويرى د. عمارة أن إشارة الكواكبي- في النداء الموجه إلى العرب غير المسلمين- إلى الاتحاد الوطني دون الديني ليس المراد منها استبعاد الدين الإسلامي والجامعة الإسلامية لأنه يتحدث إلى المسيحيين العرب وإنما المراد دعوتهم إلى الحذر من الوقوع في شباك الاتحاد الديني مع المستعمرين المسيحيين والولاء للأجانب الطامعين في استعمار بلادهم بحجة ان جامعة التدين بالمسيحية توحّد بين المسيحيين العرب وهؤلاء المستعمرين الغربيين. ويفسر هذا النص وهذا الموقف ملابسات واقع ذلك التاريخ فلقد كانت فرنسا الكاثوليكية- رغم علمانيتها المتوحشة في بلادها- تنصب نفسها حامية للكاثوليك العرب(الموارنة)وكانت روسيا القيصرية الارثوذكسية تنصب نفسها حامية للارثوذكس العرب وخاصة في الشام فأراد الكواكبي بهذا النداء الموجّه إلى العرب غير المسلمين تحذيرهم من الوقوع في شباك غواية الاتحاد الديني بينهم وبين المستعمرين وتنبيههم إلى ان روابطهم اللغوية والجنسية (القومية والوطنية) التي تجمعهم مع مواطنيهم المسلمين هي الروابط الطبيعية الموحدة لهم مع أمتهم العربية وليس الاتفاق في الدين أو المذهب مع الأجانب المستعمرين.ويؤكد هذا المعنى وهذا التفسير ما جاء في نداء الكواكبي هذا-للعرب غير المسلمين- بعد السطور التي أوردناها منه والتي اقتصر عليها جان داية من قوله لهؤلاء العرب المسيحيين محذراً من الغواية الاستعمارية باسم الاتحاد في الدين(أدعوكم واخص منكم النجباء للتبصّر والتبصير فيما إليه المصير أليس مطلق العربي اخف استحقاراً لأخيه من الغربي؟! هذا الغربي قد أصبح مادياً لادين له غير الكسب فما تظاهره مع بعضننا بالإخاء الديني إلا مخادعة وكذباً . هؤلاء الفرنسيس يطاردون أهل الدين ويعملون على أنهم يتناسونه بناء عليه ل اتكون دعواهم، الدين في المشرق إلا كما يغرد الصياد وراء الشباك) فالاتحاد الديني الذي يحّذر منه الكواكبي ليس الجامعة الإسلامية - التي كان من ابرز دعاتها- ولا المرجعية الإسلامية للدولة، وإنما هو غواية الاستعمار لمسيحي العرب بدعوى الاتحاد الديني والمذهبي بينه وبينهم. تلك هي الحقيقة التي غفل عنها الباحث جان دايه وزعيمه أنطوان سعادة وحزبه السوري القومي الاجتماعي فكان هذا الافتراء على الكواكبي بادعاء وقوفه مع فصل الدين الإسلامي عن الدولة وريادته لهذه الدعوى في الفكر الإسلامي الحديث. تستوقفنا في النص السابق عدة أمور: - أولها: أن د. محمد عمارة يتعامل مع مصطلح العلمانية، تعامل الموقف وليس تعامل الباحث فهو ينظر إليها بعصبية ظاهرة حيث تشي مفردات مثل(افتراء- دعوى خطيرة ومثيرة) وتعكسها بشكل جلي وواضح. - ثانيها: استخدامه لمفهوم خاطىء(المستعمرين المسيحيين) حيث سبق لشهيد الحرية عبد الحميد الزهراوي 1855-1916 ان نبّه إلى حقيقة الصراع في مقولته الشهيرة: أن هجوم الغرب على الشرق ليس هجوم دين على دين إنما هو هجوم قوة على ضعف، وعلم على جهل، وغنى على فقر فانظروا وتساءلوا لماذا انتم ضعفاء! ونرى ان هذه المقولة الكبيرة بمضامينها تضع الجاهلين (اوغير المؤمنين) بها في الضفة الأخرى للحقيقة وليس مقبولاً من باحث جاد بمستوى د. عمارة ان يكون ? في هذه الرؤية- في الضفة الأخرى. - ثالثها: أن المسيحيين هم عرب قبل كل صبغة سياسية كما يقول عبد الغني(14) العريسي- 1891-1916 ويؤكد ذلك عبد الرحمن الكواكبي في خطوة ربما تكون الأجرأ في المناداة بالعلمانية- في سياقها التاريخي- إذ يقول: نحن عرب قبل كل شيء . المسلمون عرب والمسيحيون عرب لكننا عرب قبل أن نكون مسلمين أو مسيحيين لقد تركنا الدين والصلاة في المساجد والكنائس إذ كنا عرباً قبل أن نكون مسلمين أو مسيحيين فهل يكون من المفاجئ أن نكون عرباً قبل أن نكون عثمانيين. ويشارك الشيخ محمد عبده، الكواكبي رأيه معتبراً أن انتساب غير المسلمين إلى الأمة لا يقل أصالة عن انتساب المسلمين أنفسهم إليها فالتاريخ مشترك وكذلك المصير لأبناء الوطن الواحد مهما اختلفت دياناتهم وان أقوى نوع من أنواع الوحدة إنما هو وحدة الذين ينتمون إلى الوطن الواحد بمعانيه القانونية من حقوق وواجبات وحرية وكرامة. وتشير كثير من وقائع التاريخ أن قبيلة بني تغلب تعاونت في رد الغزوات مع أبناء عمومتها وليس مع أبناء جلدتها. كما أن المسيحيين العرب دافعوا عن الأرض العربية أثناء حملات الفرنجة وتعرضوا لأقسى أنواع الوحشية وتحولت كنائس انطاكية إلى إسطبلات لخيولهم. . الدليل الثاني: ان الدليل الثاني ل(جان داية) هو قول الكواكبي في جمعية أم القرى : إنها لا تتدخل في الشؤون السياسية مطلقاً فيما عدا إشارات وإخطارات بمسائل أصول التعليم وتعميمه. ويرى د. عمارة أن لا علاقة لهذا الموقف بفصل الدين عن الدولة وإنما هو مذهب الإمام محمد عبده ومدرسته الإحيائية: مذهب التركيز على سياسة التربية قبل سياسة الإدارة للدولة وإصلاح الأصول التي تجدد إسلامية الأمة كطريق لإصلاح الدولة وإسلاميتها. فهو مذهب في ترتيب أولويات الإصلاح وليس مذهباً في فصل الدولة عن الإسلام. . الدليل الثالث: ل(جان داية) هو قول الكواكبي في طبائع الاستبداد: هل يجمع بين سلطتين أو ثلاث في شخص واحد أم تخصص كل وظيفة من السياسة والدين والتعليم بمن يقوم بها باتقان؟ ولا اتقان الابالاختصاص وفي الاختصاص كما جاء في الحكمة القرآنية// ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه الأحزاب 4 ولذلك لا يجوز الجمع منعاً لاستفحال السلطة. إن هذا الحديث عن التخصص هو الذي طبقته الدولة الإسلامية حتى في عصر النبوة- رغم بساطة الدولة- وليس في التخصص ما يعني فصل الدين عن الدولة . ولقد كان حذر الكواكبي من الاستبداد الذي يؤدي إليه الجمع بين التخصصات المختلفة في شخص واحد حتى لا تتكرر تجربة الكهانة الكنسية التي احتكرت الدين والدنيا جميعاً في (الاكليروس) ولم يكن حذراً من المرجعية الإسلامية للدولة بحال من الأحوال، فالتخصص ضرورة حياتية وعملية والمرجعية الإسلامية مرعية في جميع التخصصات. . الدليل الرابع:ل(جان داية) هو قول الكواكبي في طبائع الاستبداد: هل يكون للحكومة- ولو القضائية- سلطة وسيطرة على العقائد والضمائر أم تقتصر وظيفتها في حفظ الجامعات الكبرى كالدين والجنسية واللغة والعادات والآداب العمومية ولا تتداخل الحكومة في أمر الدين ما لم تنتهك حرمته؟ وهل السياسة الإسلامية، سياسة دينية أم كان ذلك في مبدأ ظهور الإسلام كالإدارة العرفية عقب الفتح؟ وليس في كلام الكواكبي هذا ما يعني فصل الدين عن الدولة، فالدين الإسلامي هو الذي يحرم ويمنع السيطرة على العقائد والضمائر، ليس فقط من قبل الدولة بل وحتى من قبل علماء الدين . لقد قال الله تعالى لرسوله//فذكر إنما أنت مذكر ولست عليهم بمسيطر// الغاشية 21-22. . الدليل الخامس: ل(جان داية) هو قول الكواكبي في(أم القرى) بمعرض نقده للدولة العثمانية: ولما وضع قانون تشكيل الولايات لم يرض المتعممون حتى جعلوا فيه قاضي المسلمين، وكذلك مفتي المؤمنين في كل بلد عضوين في مجلس لإدارة يحكمان بأشياء مما يصادم الشرع كالربا والضريبة على الخمور والرسوم العرفية وغيرها مما كان الأليق والأنسب بالإسلامية ان يبقى العلماء بعيدين عنه، كما ان القسيس- بل الشماس- لا يحضر مجلساً يعقد فيه زواج أو تفريق مدنيان ولا يشهد في صك دين داخله الربا فضلاً عن أن يقضي أو يمضي بصفة رسمية كهنوتية أمثال ذلك من الأعمال التي تصادم دين المسيحية وقول الكواكبي هذا شاهد ضد (جان داية) لاشاهد معه فهو لايعيب على علماء الدولة العثمانية الاشتراك في مجالس الإدارة والأحكام، وإنما يعيب عليهم الحكم( بأشياء كثيرة مما يصادم الشرع)الإسلامي فهو موقف ضد العلمنة والعلمانية وليس معها ودعوة لان تكون القوانين في الدولة شرعية لا مصادمة للشرع، وحض على عدم مخالفة العلماء ودوائر الحكم والإدارة(الإسلامية) بتعبير الكواكبي، أي دعوة لإسلامية الدولة وإسلامية القضاء والإدارة والقانون. . الدليل السادس: ل(جان داية) هو قول الكواكبي في (ام القرى) : لقد زعم كثير من حكماء تلك الأمم- الأوربية- إنهم ما اخذوا في الترقي الأبعد عزلهم شؤون الدين عن شؤون الحياة وجعلهم الدين أمرا وجدانياً محضاً لا علاقة له بشؤون الحياة الجارية على نواميس الطبيعة. والخطأ الغريب ل(جان داية) أنه جعل الزعم الذي زعمه فلاسفة العلمانية الأوربية- والذي أورده الكواكبي على سبيل الحكاية باعتباره زعماً- جعله جان داية رأي الكواكبي في أن الدين مجرد أمر وجداني لا علاقة له بشؤون الحياة وهو خطأ كبير وغريب من هذا الباحث جعل(استدلاله) هذا (زعماً) لا علاقة له بحقيقة فكر الكواكبي حول علاقة الدين بالدولة! . الدليل السابع: ل (جان داية): وهو من أهم الأدلة عنده على علمانية الكواكبي فهو ما كتبه كاتب بتوقيع (مسلم حر الافكار) في جريدة المقطم- غشت 1899 حول الجامعة الاسلامية وفصل الدين عن الدولة وهي مقالات أدعى (جان داية) ان كاتبها هو عبد الرحمن الكواكبي. ويكفي لاثبات ان ماجاء في هذه المقالات هو الدليل العمدة ل(جان داية) على علمانية الكواكبي ومن ثم على علمنة الإسلام، انه قد خصص لها في كتابه(الإمام الكواكبي، فصل الدين عن الدولة) نحو 100صفحة في كتاب مجموع صفحاته 158 صفحة، أي نحو ثلثي الكتاب! ولقد وقفنا أمام هذه المقالات وقفات فاحصة ومتأنية استخدمنا فيها المنهج العلمي في فقه النصوص ونقدها فثبت لنا ثبوتاً يقينياً ان هذه المقالات لا علاقة لها بالكواكبي , بل إن كاتبها-في اغلب الظن-ليس مسلماً رغم توقيعها بعبارة(مسلم حر الأفكار). ولست ادري كيف غفل باحث جاد مثل (جان داية) عن ان يقرأ في صلب هذه المقالات العبارات التي تفضح- بأبلغ عبارة- عن أن كاتبها لا يمكن أن يكون هو المصلح الإسلامي العظيم عبد الرحمن الكواكبي. ومن الأدلة على هذه الحقيقة التي غفل عنها (جان داية): 1- ما جاء في رد الشيخ محمد رشيد رضا على هذا ال(مسلم حر الأفكار) من التحذير من الاغترار بكلام مارق غادر يصف نفسه بأنه مسلم حر الأفكار وما جاءته حريته إلا من رقّ الكفار. 2- فلما رد (مسلم حر الأفكار) على الشيخ رشيد رضا جاء ردّه تعليقاً على عبارة(وما جاءته حريته إلا من رق الكفار)التساؤل: فمن هم الكفار الذين يعنيهم؟ الأوربيون الذين يعيبني على الدرس في مدارسهم؟ فقد كشفت هذه العبارة اعتراف هذا ال(مسلم حر الأفكار) بأنه واحد من المثقفين اللبنانيين الذين تعلموا ودرسوا في مدارس الإرساليات المسيحية وفي هذا دليل قاطع على انه لا يمكن أن يكون هو الكواكبي الذي درس في المدرسة الكواكبية الإسلامية بحلب. 3- ولقد عاد الشيخ رشيد رضا في رده على هذا الرد من كتاب(جان داية) فأشار إلى حقيقة هذا الاكتشاف الذي غفل عنه- أيضا-جان داية وذلك عندما قال عن هذا ال(مسلم حر الأفكار) ان كتابته تشيد عليه إحدى الغميزتين: - عدم فهم الإسلام. - اعتقاد أن تركه سعادة للأنام. وهو مع ذلك ينفي التهمة عن نفسه بالاعتزاز بالأوربيين والتبجح بالانتماء إليهم والأخذ بتعاليمهم وإنكار إطلاق لفظ الكفار عليهم ولا يمكن لقارىء-فضلاً عن باحث مثل جان داية- أن يقول إن أوصاف الاعتزاز بالأوربيين والتبجح بالانتماء إليهم والأخذ بتعاليمهم وإنكار إطلاق لفظ الكفار عليهم، يمكن ان تجعل هذا الكاتب مسلماً فضلاً عن أن يكون هو الشيخ عبد الرحمن الكواكبي احد أئمة الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث. 4- ثم يعود الشيخ رشيد رضا ليعيد الحديث عن هذا الاكتشاف الذي حسم القضية، اكتشاف ان ال(مسلم حر الأفكار) هذا هو واحد من خريجي مدارس الإرساليات المسيحية في لبنان فيقول الشيخ رشيد: إنني ما عبته على الدرس في مدارس الأوربيين، ثم يختم الرد موجهاً إليه القول: فالزم شأنك، مكتفياً بعلومك الأوروبية والسلام على من اتبع الهدى فكاتب مقالات المقطم الداعية إلى فصل الدين عن الدولة هو خريج إحدى مدارس الإرساليات المسيحية في لبنان وليس الكواكبي. 5- ثم ان الذين كتبوا في المقطم داعين إلى فصل الدين عن الدولة ? قبيل نشر مقالات هذا ال(مسلم حر الأفكار) كانوا جميعاً كتاباً مسيحيين(حنا الطرابلسي- ميشيل حكيم) ولم يكتب كاتب مسلم واحد باسمه الصريح حول هذا الموضوع في ذلك التاريخ. 6- ثم أن هذا الكاتب يتهم دعاة الجامعة الإسلامية التي كان الكواكبي من إعلامها بالتهم التي اجتهد الكواكبي كثيراً في دفعها عن الإسلام والمسلمين. يتهم هذا(المسلم حر الأفكار) دعاة الجامعة الإسلامية بأنهم يرون أن الخطر لا يزول عن الإسلام إلا بتمزيق شمل المسيحيين وان عز الإسلام لا يكون إلا بذل المسيحيين. وهذه دعاوى واتهامات لا يقول بها إلا المسيحيون الذين تعلموا التعصب ضد الإسلام والمسلمين في مدارس الإرساليات التنصيرية(!) التي اعترف هذا(المسلم حر الأفكار ) بأنه قد تربى وتعلم فيها ولا يمكن لعاقل ان يتصور صدور هذه الاتهامات للمسلمين (تمزيق شمل المسيحيين، ذل النصارى) من المصلح الإسلامي السيد عبد الرحمن الكواكبي. أن طبيعة الرد على الأدلة السبعة التي قدمها الباحث (جان داية) والتي خرج بعضها عن السياق العلمي الموضوعي ولغة الحوار الهادىء، تجعل منها جزءاً من المشكلة لا جزءاً من الحل إذ بدت هذه الردود وكأنها(بل هي) تدفع تهمة العلمانية عن الكواكبي وهي تأتي نقيضاً لما ذهب إليه د. محمد عمارة(15)، ذاته في كتابه: الأعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي حيث اعتبر أن الكواكبي قد وصل إلى ذروة الحسم والوضوح في معالجة مسألة الفصل بين السلطة الدينية والسياسية، أي قضية العلاقة بين الدولة ونظام الحكم وبين العقيدة الدينية عندما يعلن في جرأة يحسده عليها معاصرونا فضلاً عن معاصريه ضرورة الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية. ومن المعاصرين الذين يرون في الكواكبي إصلاحيا دعا إلى إعادة بناء العلاقة بين الدين والدولة على أساس عصري حيث يكتب محمد جمال باروت(16) أن الكواكبي هو من ابرز المثقفين الليبراليين في القرن التاسع عشر الذين طرحوا ضرورة إعادة بناء العلاقة بين الدين والدولة على أساس عصري بشكل يلعب فيه الدين دور استيعاب المدنية والتقدم في هذا القرن الذي يتسم بالكثير من الأحداث والمتناقضات ولذلك ميزّ مابين الدين والدولة واعتبر أن الدولة هي وكالة سياسية عمومية عن الناس تقوم بالفصل بين السلطات بما فيها الفصل عن السلطة الدينية ومابين الدين كعقيدة روحية وعقيدة دينية ولكن من داخل تفكيره كمثقف إسلامي. إذ كان الكواكبي شديد الفخر بالإسلام كدين وكحضارة، وكان يريد العودة بالإسلام إلى أصوله الأولى قبل أن تطرأ عليه المزيدات كما كان يرى . وكان يعتبر أن النهضة يجب أن تبدأ من هنا كما بدأت النهضة في الغرب من باب الإصلاح الديني في تطهير المسيحية من المزيدات والانتقال من الإصلاح الديني إلى السياسي ولكن في نقاط أخرى يبرز أولوية الإصلاح السياسي وهذا ما يتعلق بأطروحته في مجال الاستبداد. وبالعودة إلى التاريخ يتعرض محمد جمال باروت إلى أزمة الاجتماع الإسلامي في مختلف الحقب الإسلامية ويلاحظ الاستقطاب مابين (الدعوة) و(الدولة) و(الشريعة) و(العصبية) و(أهل الفقه) و(اهل الحكم) ماسّوغ الانفصال بين الأمة والدولة في التاريخ الإسلامي، وأدى إلى طغيان السياسة على الشريعة وهذا مانراه بالنظر الى تاريخ حسن البنا وتأسيس جماعة الإخوان المسلمين ، وظهور فكرة الحاكمية في الإسلام عبر خطاب أبو الأعلى المودودي الذي مهّد لطرح ادلوجات تجهيلية وتكفيرية انقلابية في الفكر الديني ويقسم محمد جمال باروت الحركات الإسلامية إلى: حركات حاكمية جهادية تقوم على إسقاط الدولة وأسلمة المجتمع، وحركة اخوانية، وحركة شيعية اثني عشرية تنقسم بين دعاة ولاية الفقيه والدولة الديمقراطية الإسلامية والحركات التي أسقطت شعار الدولة الإسلامية باعتبارها وسيلة لاغاية. إن فكر الكواكبي الذي جسّده في إنتاجه المختلف كان شائعاً لدى المفكرين الأحرار والليبراليين في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وكان سبقه جيل من المفكرين والمثقفين الليبراليين في تلك الفترة. كانت محاولة لبناء الدولة على هذا الأسس،ومحاولة تحويل الدولة العثمانية إلى دولة ديمقراطية يعني لم يكن يعكس حلماً سياسياً بل كان يعكس عملية سياسية واقعية وهذا ما عبرت عنه مرحلة التنظيمات العثمانية، يعني مرحلة بناء الدولة على أسس عصرية. ويرى باروت أن لدى الكواكبي أشياء كثيرة يمكن أن يقولها لنا اليوم على صعيد العلاقة مابين الدين والدولة والأسس العصرية والقانونية للدولة وعلى صعيد الفصل بين السلطات ومنع الطغيان والاستبداد من خلال تحقيق الفصل الحقيقي مابين السلطات وفي هذا المجال يمكن للكواكبي أن يكون راهنياً. إن الأهم في نظرنا ونحن نعالج موقف الكواكبي من هذه القضية (العلمانية) هو انه ليس كغيره ممن نادوا بالنزعات الفكرية الوافدة أو النظريات العلمية الحديثة أو مقلدين لما جرت به الأمور في أوربا من تنحية الكنيسة وسلطانها عن الهيمنة على مقدرات أمور السياسة والحياة وإنما هو يصدر في ذلك عن الدين الإسلامي ذاته وبمفهوم سياسي ناضج يستخدمه في فهم الدين ومعالجة علاقاته بالحياة فهو بعد أن يرى أن إدارة الدين وإدارة الملك لم تتحدا في الإسلام تماماً إلا في عهود الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز فقط، يتقدم ليرى انه لا يوجد في الإسلام نفوذ ديني مطلق في غير مسائل إقامة الدين وهو في ذلك الموقف إنما يعكس رؤية معقولة للعلمانية التي ينظر إليها المسلمون في عمومهم على أنها فكر مناقض بل هدام للقيم الإسلامية الأساسية وهي في مضمونها الفكري دعوة للإلحاد وفي مضمونها السياسي دعوة لفصل الدين عن الدولة وفي كلتا الحالتين يطلب من الدين الانسحاب من المجتمع والسياسة والركون إلى الجامع والكنيسة باعتبارهما وسيلتين للعبادة وحسب. فالكاتب الإسلامي محمد البهي(17) يرى ان العلمانية كفيلة بأبعاد الإسلام من مجال التوجيه والحياة العامة ومنعه من التدخل في شؤون الدولة وعلى الأخص في المجال التربوي. هذا يعني في المآل والنتيجة إخلاء المجتمعات من الإسلام. أما الشيخ يوسف القرضاوي(18) فانه يرى أن العلمانية وتحت شعار الدين لله والوطن للجميع فإنها تهدف إلى عزل الإسلام عن الدولة والمجتمع وحصره في المساجد وبعض زوايا الحياة التافهة. أما أنور الجندي(19) فيعتبر ان العلمانية هي اللادين بينما يذهب محمد حسين فضل الله(20) إلى اعتبارها بمثابة دين آخر.ان هذه المسألة لم تكن غائبة عن رواد الإصلاح الديني في عصر النهضة فهم انطلقوا من فكرة أساسية عبّروا عنها بأشكال مختلفة (غير سلبية بالحدة التي نظر إليها محمد البهي ويوسف القرضاوي) وهي العودة إلى ينابيع الإسلام الأولى ورفض كل مايرون انه الصق بالإسلام وليس من طبيعة تعاليمه في شيء والكواكبي ? برأينا- يبدو أكثر تحرراً من أخلافه المذكورين آنفاً فهو في رؤيته يعبر عن الحاجة إلى حكماء لايبالون بغوغاء العلماء الغفل الأغبياء والرؤساء القساة الجهلاء، يجدّدون النظر في الدين فيفيدون النواقص المعطلة ويهذبونه من الزوائد الباطلة مما يطرأ عادة على كل دين يتقادم عهده فيحتاج إلى مجددين يرجعون به إلى أصله المبين. لقد استطاع الكواكبي أن يوازن بين التراث والمعاصرة ، ونظر إلى التراث من زاوية المعاصرة وليس العكس. كما استطاع ان يوفق بين الإسلام والعلمانية إلى درجة لا تبدو فيها العلمانية على انها شر مستطير للمسلم بل هي رؤية في الدين والدولة، مع احترام لخصوصية كل منهما دون تداخل أو اختراق وبذلك بدا الشيخ عبد الرحمن الكواكبي معاصراً وأصيلا في رؤيته ونهجه وحسبه في ذلك فخراً في ذلك الزمن الصعب. هوامش وإحالات: 1 العظمة، عزيز - العلمانية من منظور مختلف- بيروت- مركز دراسات الوحدة العربية 1992 ط1 ص17-18. 2 انظر كتاب ساطع الحصري- رائد المنحى العلماني في الفكر القومي ?تيخونوفا-دار التقدم 1987. 3 أركون، محمد ? الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد- ترجمة وتعليق هاشم صالح- دار الساقي ?بيروت1992 ص135-136 وص211 ونود أن نشير هنا إلى أن عبارة(الإسلام دين ودنيا) غير دقيقة على صعيد الشكل حيث يعتبر الشيخ محمد مهدي شمس الدين(ينظر كتابه: العلمانية-تحليل ونقد- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر- بيروت 1983 ط2 ص85-86) ان مفهوم (دين ودنيا) هو مفهوم مضاد للمفهوم الثقافي الإسلامي فالدنيا حسب المفهوم الإسلامي لا تقابل الدين وإنما تقابل الآخرة. كما أن مفهوم الدين والدولة ? خارج السياق الإسلامي- قد حسم بعد ان تحررت أوربا من سلطة الكنيسة فأصبح الدين يتحرك في فضائه الخاص(الروح) والدولة تتحرك في فضائها الخاص(المادة) بما تعنيه من إدارة مصالح البشر وأمورهم الحياتية فيما يتحرك الدين في تنظيم علاقة البشر بالله وليس هناك من علاقة بين هذا وذاك في الإطار العام غير الشخصي إذ تبقى علاقة الفرد بربه، مسألة شخصية لا علاقة للدولة بها. 4 العظمة،عزيز- مصدر سبق ذكره ص49-50. 5 كاريزماcharisma:هذا المصطلح مستمد من العهد الجديد في النص اليوناني الذي يعني(عطية النعمة الالهية) وادخله عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبرMaxweber-1864-1920 ليعني الصفة الخارقة التي يمتلكها بعض الأشخاص فتكون لهم قوة سحرية على الجماهير. وقد ميز (ماكس فيبر)بين كاريزما الفرد التي تنشأ من صفات طبيعية عنده وكاريزما المنصب المستمدة من الطبيعة المقدسة للمركز. وفي الفاشية يطلقون على القائد لقب الزعيم أو الساحر الذي قد تغلفه الأساطير وهو يهتم بالجماهير والإخراج المسرحي والشعارات الكبرى فيرتبط الزعيم بالشعب ارتباطاً وثيقاً ويرتدي أشكالا هستيرية جماعية(ينظر كتاب الطاغية- إمام عبد الفتاح إمام- عالم المعرفة- الكويت- العدد 183لعام 1994 ص84). 6 الأنصاري، محمد جابر، الفكر العربي وصراع الأضداد- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 1996 ط1 ص390ومابعد. 7 عبد الرازق، علي- الإسلام وأصول الحكم- القاهرة-مطبعة مصر 1925ط2 ص14-17 وص71-73 وص103. 8 راجع الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده التي قام بجمعها وتحقيقها د. محمد عمارة- المؤسسة العربية للدراسات والنشر ج3 1974ص 287 وما بعد. 9 انظر كتاب: الرؤى الإصلاحية للمفكر النهضوي عبد الرحمن الكواكبي الذي حرّره د. محمد جمال طحان والذي يضم أعمال الندوة الدولية التي أقيمت في إطار فعاليات حلب عاصمة الثقافة الإسلامية من 25 وحتى 27 تموز 2006 الصادر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق 2007 ص68 وما بعد(من مداخلة محمد راتب الحلاق). 10 المصدر السابق ومعطياته- ص208 وما بعد (من مداخلة سعد زغلول الكواكبي) ونشير إلى أن الأخير هو حفيد الكواكبي. 11 سعادة، انطوان- الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية- دار فكر للأبحاث والنشر ?بيروت 1997 ط5 ص276-277. 12 عمارة، محمد- الشيخ عبد الرحمن الكواكبي هل كان علمانياً؟ نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع 2006 ط1 ص13-30. 13 للاستزادة في موضوع العلمانية والمواطنة نرى الرجوع إلى كتابنا: من قضايا الفكر السياسي ?المواطنية انموذجاً- الصادر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق 2010. 14 شرابي، هشام- المقفون العرب والغرب- دار النهار للنشر- بيروت 1978 ط2 ص128-129. 15 عمارة، محمد- الأعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي- الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1970 ص48-50. 16 انظر كتاب: الرؤى الإصلاحية للمفكر النهضوي عبد الرحمن الكواكبي-م-س ص 212-213(من مداخلة محمد جمال باروت) (. 17 البهي، محمد- مشكلات الحكم والتوجيه- دار الكتاب اللبناني- بيروت 1982ط2 ص 48-92 بتصرف يخدم الفكرة. 18 القرضاوي، يوسف- الحلول المستوردة- مؤسسة الرسالة- بيروت 1989 ط15 ص52-55 بتصرف يخدم الفكرة. 19 الجندي، أنور- سقوط العلمانية- دار الكتاب اللبناني- بيروت 1973 ط1 ص95-97 بتصرف يخدم الفكرة. 20 فضل الله، محمد حسين- أفاق الحوار الإسلامي المسيحي- دار الملاك- بيروت 1994 ط1 ص281.