الشِّعر، الشِّعر.. يُطْرح الملفوظ كما لو كان الأمر يتعلّق باستغاثة من وسط غابة أخذت تحترق، وأحيانًا تتخيل طقطقة الخشب وهو يحترق، واللحاء وهو يحترق، بل الثمار وهي تحترق. تريد أن تتخيّل العصافير وهي تحترق، فلا تقدر. ولا الأنساغ كذلك. دالّ «لا تقدر» هو النزعة الإرادويّة المقاوِمة التي ينبغي أن يؤمن بها شاعر معاصر في مكان من هذا العالم؛ وإلا سيلفح السديم الأصمّ مسامّنا ويملأ علينا بداهة الأفق، ويأتي إلينا النهر بالجثث والريش واللقى ومِزَق الكتب التي استعملت لتدليس الحقائق. العصافير هي امتداد المطلق الذي يمدّ إليه الشعر أياديه المرتجفة، بقدر ما هي رفرفته التي ينشدها على أجنحة الحلم، والأنساغ هي جذوره. بينهما نداءٌ خفيٌّ وأبديٌّ نلتقطه في شكل أغنية، ومن هذه الأغنية نستلهم لوجودنا شكل حياة، بل شكلًا قاسيًا للحياة التي نستمرئها على شفا الموت. هذا هو شُغْل الشعر المعاصر، بلا تجميلات ومزايدات. صحيحٌ أنّ الشعر يشغل حيّزاً مهمّاً من شواهد إرثنا الثقافي والجمالي الضارب بأطنابه في أعماق التاريخ والحضارة، والهاجع في اللاوعي الجمعي. وصحيح أنّ ثمة خوفًا يتلبّسنا من أن تتلف الريح الجائحة تلك الشواهد التي بينها وبين الهاوية سنتيمترًا واحدًا، وتضيع الكلمات في الظلام حيث الصوت الأجشّ المبحوح لا يصل إلا نظيره من المجهول؛ وذلك على نحو ما يشبه خوف بول فاليري في سنة 1919؛ أي قبل قرن، وهو يتحدّث عن أزمة الروح، عن موت الحضارة، فيما كانت اللوحات ذات الحجم الكبير للوحشيّين الجدد تغشى الأفق. هذا الخوف – فعلًا- لا يمكن إلا أن يصاحبنا في كلّ لحظة من زمننا الذي باتت تغشاه «لوحات» التقنية الأكثر صممًا وإخلاصًا للجائحة. لكن ليس صحيحًا أنّ في الشعر خلاصًا من تباريح الأرض، وترياقًا لداء اكائن السرمدي، فالوظيفة التقليديّة التي ارتبطت به وقالت بخلاصيّته ومشروعه النبوئي باتت ضربًا للعبث، وعماوةً من فراغ اليد. من عديم الجدوى أن يبحث الشعر عن دور جماهيري، أو بالأحرى يُبْحث له عن مثل هذا الدّور، ولا وهم التّمثيل والمحاكاة، ولا عن خطاباتٍ تُعزّز الإجماع الكاذب. إن الذين يربطون الشعر بحالة الطمأنينة، وببلوغ الخلاص إنما يتحاملون على الشعر، ويُكرّسون فَهْم العامّة له كشيء ساذج، نفعي وآنيّ. قُوّة الشّعر في هشاشته التي لا تُزهر إلاّ في العتمة، وفي مواعيده اللامتوقعة التي تودع في الشقوق بستانًا من الأمل، وتترك لتصدُّعات الرّوح أن تتكلم زمنها بفرح غير آبهة بقهقهات البرابرة وخناجرهم المسمومة. قد يستغرق التغيير الذي ينشده الشعر أمدًا طويلًا، فهو ليس موظّفًا في مصلحة المستعجلات، ولا تعنيه الإملاءات من خارج؛ إنّه ابن داخله التي يتدفق بأنهار الفقدان، ووليد لحظته التي اختلسها من السفر اللامرئي وهو يعبر أشياءنا المتناثرة حولنا، ويبثُّ فيها حميّة الإنساني والجوهري من غير أن ننتبه عادةً إلى ذلك. وإذن، فليس بوسع أحد من الشعراء أن يدّعي بأنه سينقذ أو يغير العالم، فإنّ أقصى ما يطمح إليه الشعر هو أن يغير نظرتنا المتراخية للعالم بقدر ما يؤنسن العلاقات بيننا- نحن بني آدم الذين صرنا أكثر عداء لبعضنا البعض، بيد أن ذلك يتطلب غير قليلٍ من التسامح ونبذ الخلاف الذي يتعاظم في عصر «حقوق الإنسان» . ما يرسخ اقتناعي بقيمة الشعر وضرورته هو هذا: الشِّعر.. الشِّعر (بنبرة أقلّ خفوتًا)، فذلك يتيح لي أن أتسمّع الأغنية من هناك، وبِجُماع الجسد النشوان لا أترك النار تلتهم عدالة الغابة ولا تتداعى طقطقاتُها لتتلف لحن الأورغانون الذي يتأتّى من حصّة الحِمْلان . أدخلُ الغابة، فأحارُ لِشجرةٍ تتدلَّى عليَّ أَغْصانُها بِقوافٍ لشاعرٍ جاهليٍّ مات قبل ألفَيْ عام، وأخرى أخفَتْ عنِّي طريقَ العودة. أتقدّمُ حثيثًا مثل النار ونفسي، يا أصدقائي، أن أطعم عصافيركم على ضوء سريرتي كسل الكَرْم وآفة الزُّؤان. كُلَّما قصرت ذُبالة الطريق، أرفع الأَنْخاب في ليل القصيدة وشفتايَ على الأورغانون.