لا أعتقد أن الشاعر عبد اللطيف اللعبي هو صاحب هذا الكتاب المعنون »منطقة الاضطرابات«. فالشاعر الصحيح على ما يقول لوك بريمون هو الذي لا يمكن أن يكون صاحب ما يكتب. هو ينقل من الصمت إلى اللفظ ومن اللفظ إلى الصمت، وشعراء الصمت يرتحل الشاعر منهم من غياب إلى غياب ومن صحو إلى صحو. هو ينقل من الصمت. يُملي من النغم. يصل من الكلمة إلى الورق عبرنا وعبر الآخر وعبر التجربة الشعرية ليبني الموقف. يحاول بالكلمة التي أبقى لها مثله جسداً محروراً آناً ومقروراً آناً، وهمه أن يقاتل على الأبواب قتالاً حزيناً موجعاً ضد زمن يتناثر في الهباء. للشريف الرضي هذا البيت الشعري إذ يقول: »القلب ذهن يحوم على معنى مستحيل«. ولعلّ المعنى المستحيل الذي بحث عنه الشاعر في »منطقة الاضطرابات« هو معنى الحياة ومعنى الموت، ومعنى كل ما يجري بينهما. والذي يحوم على المعنى هو الشعر ليس إلاّ. في »منطقة الاضطرابات« الشعرية تجري الأنهار العنيفة وتضطرب العلاقات داخل القصيدة ويفيض الشعر، تحضر الأسطورة ونتحكّم بنموّ القصيدة. ينبعث الرمز، يستبدّ الحنين بإيقاع القصيدة وتستيقظ الأسئلة الكبرى وتصبح كلّها الشاعر والقصيدة والمتلقي في مركب واحد، في عين الديك، في ذروة العاصفة، في قلب المواجهة. و »منطقة الاضطرابات« تشبه البرزخ حيث كل شيء يردنا إلى ماهيته الأولى، إلى بواكيره. كلّ شيء يحضر ما لا يحضر ولا يحدّ أو ينضبط في شكل. تحتدم في »منطقة الاضطرابات« جدلية التناقضات: الحياة والموت، الواقع والحلم، المرض والشفاء، الجسد والروح، الكلمة والصمت. لا أحد يعلم كم هو ليل المريض الساكن في »منطقة الاضطرابات« مرصّع بالألم، مرصع بالأمل، مرصع بالمعرفة الجديدة. يقول الشاعر: »بصبر نتعلم اللغة/ نفتح أعيننا/ على الفجر الجديد/ يشهد شروق شمس القصيدة/ بكامل مجدها«. بين شمس القصيدة وشمس الروح وشمس الحياة، كان الجسد يرتعش ويخطو خطواته الملكية نحو الشفاء. كان الغناء، كان الولادة الجديدة. هذا الشعر هو أغنية للحياة، أنشودة للحب حيث الشاعر يساعد الحياة من كل قلبه. كي تستقيم، والأمر كي ينهض، والسوي أن يندغم. والواقع ليس صحيحاً أن الإنسان لا يموت إلا مرة واحدة ولا يعيش إلا مرة واحدة. نولد كثيراً وقليلاً ونموت كثيراً وقليلاً أيضاً. نولد من الحب، من الصداقة، من الثورة، من الأمل، من الكتاب، من الفن... ولولا ذلك لكنا متنا من زمن. ومع ذلك نموت من الموت الذي نراه في الآخرين وفي الذين نحبهم، نموت في داخلنا وفي أحوالنا. نموت من الأسى والخيبة والظلم والقهر والنهاية المحتومة والخوف. ومن السؤال الذي طرحه اللعبي »هل كانت الحياة تستحق هذه الإهانات كلها«. ولكن عبد اللطيف اللعبي وجد طريق الخلاص، يريد أن يبقى في رفقة الكلمات التي أثبتت جدارتها ولو هزم الجسد. كأنّ قدر الشعر مثل قدر الشاعر أن يعشق العالم والحياة على رغم التاريخ والقدر والألم. في بعض قصائد الكتاب لوعة ساكتة ولوعة متأججة محترقة تمشي بك إلى حيث الشهقة العالية. وفي بعض قصائد الديوان، يبدو اللعبي ليس عليلاً من المرض بل عليلاً من الرقة. يستنجد بالضوضاء وبالجلبة العادية، بالنأمة لترده إلى الحياة. ولكن السؤال كيف نجا الشاعر من »منطقة الاضطرابات«؟ ننجو بفضل الشعر على ما يقول ماثيو أرنولد: »نجوت، يا عافاك الله، وتحولت في قصائدك من شاعر إلى شعر«. وهل تملك من قصائدك أكثر ما تملك من نفسك؟ وقد بلغت المناطق العالية من نفسك تماماً مثلما وصف جورج شحاده الشعر بأنه الكلمة إذا بلغت المناطق العالية من نفسها. ولكن هل يمكن لمن نجا وخرج سالماً من »منطقة الاضطرابات« وعاد إلى الحياة أن يقبلها كما هي. رفض الشاعر كل هذا الخواء وكلّ هذا الزيف، كلّ هذا الغلط في العالم، كلّ هذا التلاعب بالتاريخ والضمائر واللاوعي. أمدته الكلمات بما أراد وطاوعته على ما أشتهى. وكانت غايته أبعد من إرادة وشهوة، بل صرخة عبور إلى الحياة الجديدة متطهراً من الآلام والآثام والمرارات. ارتفع في شعره من الآن وعاد إلى اليوم مكتنزاً في ما يشبه العود الأبدي. وكل ذلك على متن الألم، على متن الكلمة في لعبتها الحاذقة بين أقاليم الروح والجسد وفي ما تعارف على تسميته فن الشعر. إنها ولادة جديدة للشاعر من قلب رماد الذات والموضوع واللغة، ولادة من قلب معاناة المغامرة. معاناة عمل اللغة الجليل إذ تنتج المعنى الذي يبدع الحياة بحسب رولان بارت، والذي يضمن اختلافنا الإنساني وثراءه في آن. وأخيراً، ماذا يبقى في مقياس الحياة؟... يختم الشاعر: »على ما سبق ربما على ما يجري الآن وليس على الآتي/ الغد/ ليس من شأني لست ولا أعرف أن أكون إلا ابن اليوم«. ماذا عساه أن يفعل بعدما انكشفت أمامه السبل وتهاوت الأقنعة وتناثرت الأوهام؟ أن يصلح الماضي أن يُريّث المستقبل. لا يملك سوى أن يكون ابن اليوم، ابن اللحظة الرجراجة الشفافة المخاتلة، ابن الحاضر الملعون على ما يقول تشارلز ديكنز، ابن الحياة وابن القصيدة المفتوحة على العبرة والوجود والأمل. كلمة أخيرة عن ترجمة عيسى مخلوف للكتاب من الفرنسية إلى العربية والتي أنجزها بحدس شعري خالص ولغة مصفاة تثري وتضيف. (»منطقة الاضطرابات« ديوان للشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، ترجمة عيسى مخلوف، مع مقدمة من عبده وازن، دار نلسن، بيروت).