14 الشعر لم يعد مجرد كلام موزون مقفى، بل تخييل حسب تعريف أحد أبناء المغرب الكبار حازم القرطاجني. الشعر موقف في الحياة والفن، رؤية متجددة على جميع الصُّعُد: اللغة، الجملة، الإيقاع، الصورة، الإنسان، والوجود بصفة عامة بكل ما يضمه ويطوله.. الشعر إبداع لعالم ممكن، وليس اجترارا لآخر قائم.. والشعر، بمعنى ما، بدعة، ضلالة عن كل ما هو عادة مكرورة.. الشعر بناء، ليس على غرار، بل على نقيض.. الشعر تخييب لأفق انتظار، وليس استجابة سهلة ومجانية .. الشعر مسار غير مكتمل، هو مشروع مفتوح على المستقبل.. الشعر انخراط كلي، من باب أن كل نص يخلق معاييره.. حيث يصير لكل كيان شعري إيقاعه الخاص، لغته الخاصة، كونه الدلالي- الجمالي الخاص أيضا.. وما ندري كيف يكون عليه حال الشعر، وكذا تعريفه بعد غد.. فالشعر يقيم في المستقبل، ومن ثم يكتسي أمر إبداعه طابع المغامرة المترحلة باستمرار، المشرعة على المجهول.. ولذلك، كله، يكون الشعر أقرب إلى الإقامة في الخيمة المترنحة، حيث الزوابع والرمال المتحركة.. أبعد من الإقامة في البيت، حيث نفس الجدران، ونفس الأثاث، ونفس الهواء القديم الراكد أيضا.. 15 حين وقع ما وقع في الأمسية الشعرية الثالثة بقاعة الموكار، حاول أحد الرفاق الجزائريين، في سياق الحديث عن تداعيات ما حصل، أن يفسر الموقف على أساس أن، هناك، تكريسا للقدامة الشعرية على حساب الحداثة في تجربة الشعر الجزائري الراهن. ويضيف مؤرخا لذلك، بصعود «نجم» جبهة الإنقاذ الإسلامية في سماء المشهد السياسي ذات انتخابات.. لست مؤرخا للشعر الجزائري، ولا خبيرا بوهاده ومنعرجاته، باستثناء ملاحظات عامة يحالفها الصواب أو يجانفها. ولأن النماذج الشعرية، المقترحة في العكاظية الأخيرة، لا تترك الفرصة لأية مواربة، فإن مؤشر حضور «الخليج» الشعري في الجزائر، يدعم، من جهته، هذا الارتماء شبه الجماعي في حوض القدامة الشعرية.. والمقصود، بالذات، الخليج التقليدي، درءا لكل لبس. لذلك، لم يكن من الغريب أن تحتشد البطاقات الشخصية للشعراء الجزائريين بالجوائز الخليجية، ومنها جوائز البابطين، وأمير الشعراء،.. هذا هو الأفق.. واللافت أنه بدلا من أن يتم تجاوز تجربة مفدي زكريا بالإغناء، وهي تجربة موفقة شعريا إلى حد بعيد، لدرجة أن الجار في المغرب لم يعرف شاعرا مثله اتساعا في المقروئية على مستوى العالم العربي.. وقريبا منه محمد العيد آل خليفة للإشارة. هي مجرد نماذج مقترحة، مشروطة بتظاهرة شعرية، محددة في الزمان والمكان.. باعتبار أن الجزائر، في واقعها وإمكانها، أبعد من أن تحدها نماذج معينة، باعتبار الحيوية الفنية التي يشهدها المجتمع الجزائري، والتي من تجلياتها أسماء كبيرة في كناش الأدب العربي الحديث، من مثل الطاهر وطار، أحلام مستغانمي، واسيني الأعرج، محمد ديب، وغيرهم كثير. 16 هكذا، بدل أن تقلنا الحافلة إلى حيث صانع ثورة المليون شهيدا يصنع خبز يومه بأناة، وبين الفينة والأخرى ينخرط في ضحك، مثل البكاء، من هذا الزمن العربي الرديء من النهر إلى البحر.. في تصاد مع ذلك المغربي الذي يرفع صوته في السماء، شاتما البشر والحجر.. و.. فيرتد الصدى، قويا، بين المشرق والمغرب: يا أمة ضحكت من جهلها.. وبدل أن تقلنا إلى الخرائط العميقة، حيث شعراء الهامش يموتون يأسا، وبين أسنانهم قصائد غضة في حب الإنسان المقيم في عبوره الأبدي.. في حب الوطن المطل من فوهة زهرة برية.. في حب الحياة، منفلتة من قارورة عطر طيبة، أو من بين إبطي صانع يشقى في كدحه.. لا فرق.. هكذا، وجدتني، فجأة، أقرأ شيئا ما، وقبالتي وجوه ألفت الإنصات إلى هشاشاتها الإنسانية بعمق كبير: عيسى لحيلح، يوسف عبد العزيز، عباس باسم، عبد الحميد شكيل، عاشور فني، الصديق عمر الصديق.. لم أتصور، يوما، أن يكون «الشعر» بمثل تلك القوة المدمِّرة.. وهو لا يعدو كلمات نسمع مثيلاتها على ألسنة معتوهين وحمقى.. ليس غير هراء في هراء، انحراف، شذوذ، انزياح، خرق، لعب مجاني.. بحسب لغة أهل الشعريات الحديثة، واللسانيات، والبلاغيات، وهلم ذِكرا.. نعم، هراء، سوريالية إن شئت.. والقائمة طويلة من المفاهيم البليدة، التي تسعى، عبثا، للقبض على روح الشعر، أقصد سر الإنسان الكامن فينا على الدوام.. ليس هناك من جديد، حتى يتم تصويب ذلك الرشاش في وجه أي حركة تحدث فوق الركح.. ليس، هناك، بلادة أكبر من تنصيب النفس حارسة لوردة شعرية شاخت، والورود تتفتق كل حين، وليس بيننا وبينها غير شباك نطل منه كل صباح على شمس بهية، سيدة الشعر، والمقاومة الإنسانية، والثورة الفنية الدائمة.. أن تفرغ ما في الجعبة من رصاص، وبعدها تصعد فوق الجثة لتنشد الحب، الحياة، والحرية.. مشهد في غاية من القرف، لا يوازيه إلا قرف إفريقيا من عادة الانقلابات العسكرية بين عشية وضحاها.. - لا مبايعة لأبطال في ساحات من كارتون، ولا صهيل أحصنة على أسوار من شمع.. 17 هي ذات اليد التي تستمني: يدي، يدك، يده.. أيدينا، جميعا، قبل أن ترتفع للأذان بالصلاة، وتهم بالتسبيح.. هي ذات اليد التي حملت السلاح من أجل تحريرنا جميعا.. هي ذات اليد التي علمتنا كيف نتناول القلم، ونكتب نصا يعنّف لا يدغدغ، يربك لا يطمئن، يزعج لا يهدئ، يكدِّر لا يهدهد .. لكن، ليست ذات اليد التي تصفق من فوق المنبر، مباركة خيباتنا وخساراتنا وإحباطاتنا من الماء إلى الماء.. 18 لا أدري لماذا يتداعى، في الخيال، العمود الشعري مع العمود الذكري للرجل.. خصوصا في مثل بيئتنا العربية، حيث يسود الرجل، ويحكم بعصاه، بقلمه، بأصبعه.. بكل شيء ناتئ فيه.. - التداعي مثير،حقا.. - ويحتاج إلى تحليل بسيكولوجيا المجتمع العربي.. 19 بعد العشاء الفاخر، وفي ساحة إقامة الميثاق الخارجية، كانت الشاعرة العمودية تسير بخطى رشيقة، أقرب إلى قصيدة النثر منها إلى قصيدة العمود.. وفي خلفية الصورة، كانت، هناك، نساء جميلات، ما فتئن يعجن خبز الحياة.. والفن.. والرجل.. بإبداع عجيب، يصل حد الإعجاز: خليدة، نصيرة، حسيبة،.. أسماء جزائرية عظيمة بامتياز.. لا عليك، سيدتي الوزيرة، المبدعة إبداع من صنعوا ثورة الجزائر، فأنت أعظم قدرا، وأجل شأنا ممن وضعوا في طريق خطواتك المضيئة: «الفطاحل»، و»الفواحل»، و»البواسل»، وحتى الكواسر.. فقد كان إنصاتك المُبدِع، لأكثر من ساعتين، سيّد الشعر، وألقه الحي الذي لا تطوله كلمات من معجم رث قديم.. ولا عجب، إن قال أحدهم، ذات مرة، إن مستقبلنا المشرق تصنعه المرأة لا الرجل.. بعد أن طال اليأس من الأخير، جراء ما خلفه من حروب، وجهل، واستبداد.. فلتنهض، من الآن، حضارة المرأة على أنقاض حضارة الرجل الخِربة.. لتنهض القصيدة، صِنو المرأة، خفيفة، عميقة، في غير حاجة لصليل قواف أو سيوف.. 20 في الفندق، كنت على موعد مع لبنان، وفلسطين.. أقصد الشاعرين باسم عباس، ولينا أبو بكر، وكانت طيور ثورة الجزائر، وجميع ثورات العالم، تخفق في سماء تلك الليلة المقمرة الأخيرة.. بكامل الأدب الجم، واللطف الأنيق، والخيال الوثّاب، يتحدثان.. ونتحدث جميعا.. قال باسم من عمق قصيدته: : - في كل حرب عدوة على الجنوب، نجد أنفسنا في أكثر المواقف اختبارا لقدرة تحمُّل الإنسان فينا.. - لسنا طلاب موت، ولكن كيف نحمي مستقبل القصيدة في أرضنا: هدأة الصبي يرقد في حجر أمه، اشتعال الليل على آهات خليلين، تكسر شجر الأرز على جنبات طريق، سمفونية العصافير في فناءات بيوت.. .. ثم قامت لينا تتحدث عن أبيها، وكان حديثها قطعة سكر تتداعى في كأس ماء.. - الحديث عن الشعر، عن المرأة، عن الوطن،.. هو ذاته الحديث عن الأب، مادامت الكلمات تتضوع من فم نفس القارورة، سمها ما شئت: العقل، الروح، القلب. وفجأة، التحق عبد الله، وكانت فلسطين تشرف من حدقتيه قاب قوسين أو أدنى، وهو يقرأ من شعره.. 21 في الصباح، غادرنا الفندق.. كانت الجرائد ضاجة بالأخبار المفخخة عن ملتقى القبائل العربية في دورته الرابعة.. وكان المغرب يستعجل الخطى .. - إلى اللقاء، جزائر الثورة، الإنسان، والشعر.. - هنا، إذاعة الرباط .. الساعة، الآن، الثانية بعد الزوال. - ومباشرة، تصلني رسالة من اتصالات المغرب على هاتفي المحمول.