المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم الشعر في فجر الدولة العلوية (بالمغرب)
نشر في طنجة الأدبية يوم 14 - 08 - 2008

إن إعطاء مفهوم محدد للشعر ليس بالأمر السهل لأن كلمة "شعر" إذا أطلقت أثارت في نفوس الناس معاني مختلفة حسب أذواقهم واتجاهاتهم وتصوراتهم لماهيته ومبانيه وأهدافه ومميزاته، فنجد مفهوم الشعر عند الفقهاء يختلف عنه عند علماء اللغة والأدب، كما يختلف عن مفهومه عند علماء العروض والقافية وهكذا ...
وقبل التطرق إلى مفهوم الشعر لدى شعراء المرحلة، لابد من تحديد مفهومه لدى النقاد القدامى والمحدثين، حتى نتعرف على المقاييس التي اعتمدها هؤلاء في شعرهم، ونستنتج إن كانت قد ظلت هي نفسها المعتمدة لدى أدباء المرحلة.
فمن المعلوم أن الشعر يعد أهم الفنون الشعرية التي عرفها العرب، عرفه ابن طباطبا العلوي بقوله: "كلام منظوم بان عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم بما خص به من النظم الذي إن عدل به عن جهته مجته الأسماع وفسد على الذوق" .
ويبدو من التعريف تركيز ابن طباطبا على جانبي الطبع والذوق، وهو لا يبدي كبير اهتمام للجانب التخييلي في الشعر.
ويؤكد جابر عصفور هذه الفكرة، فيقول: "وأهم ما في هذا التعريف أنه يحدد الشعر على أساس الانتظام الخارجي للكلمات.، صحيح أن التعريف لا يشير صراحة إلى القافية إلا أنها منتظمة فيه، والتعريف- فضلا عن ذلك- لا يهتم بالجانب التخييلي من الشعر، من حيث مصدره أو تأثيره، وإنما يهتم بالشعر في ذاته باعتباره بنية لغوية منتظمة على أساس من الطبع والذوق. ولقد استقر- في عصر ابن طباطبا- تعريف الشعر عند الفلاسفة على أنه "الكلام المخيل الذي ينشأ من فاعلية "المخيلة" عند المبدع، ويحدث تأثيره بتحريك قوة المخيلة عند المتلقي" .
أما قدامة بن جعفر فيقول معرفا الشعر:" قول موزون مقفى يدل على معنى". وقد تبنى كل من المرزوقي، وابن سنان الخفاجي، والزمخشري، في تعريفهم للشعر نفس كلام قدامة دون أن يضيفوا عليه جديدا.
وهذا التعريف يعد منطقيا لكنه في رأي بعض النقاد يعد قاصرا لأنه لا ينظر إلى أشياء أخرى في الشعر غير الوزن والقافية والمعنى، إن في الشعر أشياء لا يمكن للناقد أن يضع يده عليها. وهي ذوقية بالأساس، يقول الدكتور محمد زكي العشماوي عن هذا التعريف: "وهذا التعريف فوق ما فيه من مجافاة ظاهرة لطبيعة الشعر، أشبه ما يكون بالقاعدة النحوية التي لا مكان لها في البلاغة ولا في الفن، والتي ترجع اللغة إلى المنطق غير عابئة بما في لغة الشعر من دلالات أخرى. من أجل ذلك جاء تعريفه للشعر تعريفا عاجزا قاصرا، فليس كل كلام موزون يدل على معنى يعتبر شعرا" .
أما ابن رشيق فيقول في الشعر إنه "يقوم بعد النية من أربعة أشياء، وهي: اللفظ، والوزن، والمعنى، والقافية، فهذا هو حد الشعر، لأن من الكلام موزونا مقفى، وليس بشعر، لعدم القصد والنية، كأشياء اتزنت من القرآن، ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما لم يطلق عليه بأنه شعر" .
وتعريف ابن رشيق هذا هو نفسه تعريف قدامة مع إضافة شرط النية. لكن الدكتور عبد الرحمان منصور يذهب إلى التقليل من أهمية هذا الشرط إذ يرى أن ابن رشيق التزم تعريفه" قدامة" وإن كان قد أضاف إليه ما سبق أن أشار إليه أبو عثمان الجاحظ "من شرط القصد والنية" لغرض ديني. فقد وجد المسلمون تعابير في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، فاشترطوا هذا الشرط لينفوا عن القرآن أن يكون شعرا، وعن النبي صلى الله عليه وسلم لأن يكون شاعرا.
يتبين أن هذا الشرط لا علاقة له بحقيقة الشعر، وإنما هي قضية دينية بعيدة عن جوهره. هكذا يمكننا أن نقول: إن تعريف ابن رشيق للشعر هو بعينه تعريف قدامة" .
وإذا كان ابن رشيق قد أضاف إلى تعريف "قدامة" شرط النية، فيبقى رغم ذلك تعريفه للشعر قاصرا، فاشتراط النية قد يفيد في التفريق بين الشعر وبين القرآن وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه مع ذلك يغفل جوانب أخرى في الشعر غير الوزن والقافية والمعنى.
فهذا أبو العلاء المعري قد وقف وقفة شاعر يتأمل صناعته تأملا يسيرا أو عابرا يقول: "والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إذا زاد أو نقص أبانه الحس" .
فالمعري هنا يرى في الوزن خاصية أساسية تميز الشعر عن غيره من فنون القول الأخرى، وهو نفس ما ذهب إليه قدامة بن جعفر قبله" إلا أن هذا الوزن في رأي المعري يتجاوب مع حس غريزي لدى الإنسان" .
فإذا كان المعري قد ركز في تعريفه للشعر على الوزن والطبع الشعري- وهو المقصود عنده بالغريزة التي هي جبلة في النفس البشرية- فإن ذلك لا يعني إهماله للفظ والمعنى، إذ هما متضمنان قطعا في المفهوم العام للكلام.
أما ابن سينا فالشعر عنده" كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة. ومعنى كونها موزونة أن يكون لها عدد إيقاعي، ومعنى كونها متساوية هو أن يكون كل قول منها مؤلفا من أقوال إيقاعية، فإن عدد زمانه مساو لعدد زمان الآخر. ومعنى كونها مقفاة هو أن يكون الحرف الذي يختم به كل قول منها واحدا... وإنما ينظر المنطقي في الشعر من حيث هو مخيل، والمخيل هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط عن أمور من روية وفكر واختيار" .
فالشعر عند ابن سينا كلام موزون صادر عن أخيلة الشعراء مؤثر في نفوس المتلقين متجاوز للحقيقة الحرفية للواقع في أفق تأسيس تصورات مجردة تخاطب العقل والوجدان معا. فابن سينا بتعريفه هذا جعل للخيال دورا بارزا، فلم يعد الشعر عنده مجرد كلام موزون مقفى، وإنما هو كلام موزون مخيل.
أما الشعر عند حازم فهو:" كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه. لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيأة تأليف الكلام، أو قوة صدقه أو قوة شهرته أو بمجموع ذلك. كل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها الخيالية قوي انفعالها وتأثرها" .
فقد أضاف حازم إلى تعريف ابن سينا عنصر المحاكاة عن ذلك يقول الدكتور عبد الفتاح عثمان: "وإذا كان ابن سينا قد طور التعريف بإدخاله عنصرا جوهريا فيه، فإن حازما القرطاجني من نقاد القرن السابع الهجري قد أضاف عنصرا جديدا أثرى التعريف، وأعطاه دلالات جديدة أكسبته شمولا وعمقا، وتتمثل هذه الإضافة في النص على المحاكاة التي عرفناها من قبل في التراث اليوناني. وبذلك أصبح الشعر عنده يقوم على التخييل والمحاكاة والموسيقى" .
أما السجلماسي فتعريفه للشعر يتطابق إلى حد كبير مع تعريف ابن سينا يقول: "هو الكلام المخيل المؤلف من أقوال موزونة متساوية وعند العرب مقفاة، فمعنى كونها موزونة: أن يكون لها عدد إيقاعي، ومعنى كونها متساوية هو: أن يكون كل قول منها مؤلفا من أقوال إيقاعية، فإن عدد زمانه مساو لعدد زمان الآخر، ومعنى كونها مقفاة: هو أن تكون الحروف التي يختم بها كل قول منها واحدا" .
يبدو إذن – من خلال ما تقدم من تعريفات للشعر- أن تعريفات الفلاسفة التي مثلنا لها بتعريف ابن سينا، كانت متميزة عن تعريفات النقاد لتركيزها على عنصر التخييل في الشعر، وهكذا فقد استفاد المتأخرون كحازم والسجلماسي من تعريفات الفلاسفة فاعتمدوها مما جعل تعريفاتهم ذات أهمية خاصة.
أما ما نستنتجه من أبحاث النقاد المحدثين أن الشعر نقيض النثر يخالفه في كل شيء، فالشعر عند المحدثين إلهام كما أنه وليد اللاوعي، أما النثر فهو تفكير ووليد الوعي يقول "كروتشي": "عالم الشعر يخلو من التفكير والنقد والفلسفة فهو عالم الخيال المطلق بينما الفكر والفلسفة عالمهما الواقع والحقيقة. والفلسفة تقتل الشعر" .
فالشعر عند المحدثين "يستمد قوته من الألفاظ المفردة التي تلفت النظر بغرابتها أو رنتها الموسيقية، أما النثر فقوته في الألفاظ مجتمعة لا منفردة. وقد يعتمد بعض الناثرين على سحر الألفاظ، لكن الكاتب الكبير هو الذي يحدث تأثيرا قويا بكلمات عادية حسنة الرصف والتنسيق" .
والشعر عند الرمزيين صور موسيقية لها قوة الموسيقى التعبيرية وتأثيرها، فهو "يشبه الموسيقى في الوزن وانسجام الأصوات وترجيعها بصورة متسقة بين طويل وقصير، ضعيف وقوي، لكن وقفات القصيدة لا يضبطها العدد بالدقة التي تنضبط بها وقفات الموسيقى. والتعبير الموسيقي أصفى من تعبير الشعر لأن الأصوات أقرب إلى النفس من الألفاظ وأوفى تعبيرا لكنه تعبير غير محدود ولا مقيد بل يفهمه كل سامع على طريقته، بينما تعبير الشعر أقرب إلى الوضوح والتحديد لأنه مضبوط بمعاني الألفاظ" .
ويعد الشعر أيضا تصويرا، فهو عبارة عن "صور نظرية وسمعية وشمسية ولمسية وذوقية ومتحركة يستمد قوته من التصوير المحسوس في جميع أشكاله وينفر من المجردات ويرتاح إلى التشبيه والاستعارة والتمثيل والحركة وما يرافق ذلك من تخطيط وتلوين ، ومادته المعاني المحسوسة التي تنبض بالحركة والحياة " .
وقد بالغ الرمزيون في مبدأ التصوير الشعري، إذ جعلوه رموزا، فلم تكن صورهم عبارة عن تشابيه واستعارات فقط بل هي صور تعبر عن المعنى "كما تعبر الزهرة عن الشجرة التي انحدرت منها من غير أن تشبهها" . ويمتاز الشعر أيضا لدى النقاد المحدثين بقوة الإيحاء، وهو ما يتضمنه من معنى خفي إلى جانب المعنى الظاهر، إذ يوظف الشاعر صورا لا يدل ظاهرها على معناها الحقيقي، بل تكلف القارئ أو المتلقي وتترك له مجالا للتفكير والاستنتاج، لهذا "يستقبح بعض الشعر التعليمي لأنه يقول لك ما يجب أن تستنتجه بنفسك" .
أما الشعر الحسن فهو الذي لا نمل قراءته لأنه في كل مرة نقوم باستجلاء معاني جديدة لم تظهر لنا فيما قبل. "فمن محاسنه أنه لا يمكن فهمه فهما تاما وأنه لا يخلو من حيرة وغموض وكأن الأثر الفني دائم النمو كلما أطلنا فيه النظر" .
أما في الفترة المدروسة فقد حضي مفهوم الشعر باهتمام بالغ من قبل الأدباء والنقاد، إذ حاولوا طرح هذا المفهوم في مختلف أبعاده ومقوماته رغبة منهم في تقريبه وتحديد شروطه، معتبرين الشعر الوسيلة الأولى للمعرفة.
فهذا علي مصباح الزرويلي يقول في تعريفه للشعر:"فأما الشعراء فجمع شاعر كعلماء وصلحاء جمعي عالم وصالح، مشتق من الشعر وهو العلم فكل من علم بشئ وشعر به فهو شاعر" . ثم صار "الشعر كالعلم بالغلبة على هذا القول المنظوم المعروف لا ينصرف عند الإطلاق إلا عليه، غلب عليه لشرف الوزن والقافية وصار الشاعر كذلك كالعلم بالغلبة على قائله لا ينصرف عند الإطلاق إلا إليه، غلب عليه لشرفه وفضيلة الوصف الذي قام به" . وهذا ما عبر عنه أيضا الشاعر ابن الطيب العلمي حينما قال: (البسيط)
الشِّعْرُ عِنْدَ ذَوِي الْبَصَائِر وَالْبَصَر عِلْمٌ يُجَلُّ عَنِ النَّظَائِر فِي النَّظَر
أما أبو علي اليوسي فهو يقول في تعريفه للشعر:"و أما علم الشعر فالمراد به القدرة على صوغه، فإنه ليس كل من يعرف علم العروض يقول الشعر، فقول الشعر موقوف على ثلاثة أمور: أحدهما معرفة العروض تعلما أو طبيعة، الثاني معرفة النحو كذلك، الثالث وجود سليقة فيه، و إلا فلا ينفعه العلم إلا تكلفا" .
فالشعر في نظر اليوسي علم يتطلب أرضية خصبة ينطلق منها الشاعر، وتَسِعُه بالكثير من المعارف والأدوات التي لا يجب على الشاعر أن يجهلها أو أن تقل بضاعته فيها.
ولعل هذا المفهوم يقتضي من الشاعر المبدع شيئا كثيرا من المهارة و الإتقان ومن ثم كان مفهوم الشعر في الفترة: صناعة لها أدواتها ومكوناتها، فكان بذلك إحياء وبعثا لما ذهب إليه بعض النقاد المشارقة الأوائل، خاصة إذا وجدنا علي مصباح يتبنى موقف هؤلاء النقاد ويلح عليه، فيقول وهو ينقل ما قاله ابن سلام الجمحي ، في ذلك مرورا بكتاب العمدة : "الشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف الصناعات، منها ما تثقفه العين ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان، من ذلك اللؤلؤ والياقوت، لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره، ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم، لا تعرف جودتها بلون ولا مس ولا طراوة ولا دنس... ويعرفه الناقد عند المعاينة...إلى غير ذلك من أنواع الصنائع يعرفها حذاق أهلها، فكذلك الشعر يعرفه أهل العلم به، ويميزون بين جيده ورديئه" .
وهذا ما عبر عنه عبد الرحمان الفاسي حينما جعل الشعر صناعة كباقي أنواع الصناعات: (الرجز)
صناعة المنظوم والنثر معا في اللفظ والمعنى يجيء تبعا
أما الشيخ الشرقي بن أبي بكر الدلائي (ت 1079ه1669م ) فيرى عكس ذلك يقول مخاطبا العلامة عبد الوهاب ابن العربي الفاسي (ت 1078ه -1668م): (الكامل)
يا سيدا ملأ القلوب جلالة والأذن صيتا والعيون جمالا
إن الذي زعم القريض صناعة دعه يقول من البحور مثالا
ومنهم من جعل الشعر علما من علوم البلاغة كاليوسي الذي لم يجعل علوم البلاغة ثلاثة، كما هو الشائع، هي البيان والمعاني والبديع، بل جعلها علوما ستة من بينها علم الشعر إذ قال:"علوم البلاغة ستة: علم البديع، وعلم الميزان، وعلم القافية، وعلم الشعر، وعلم الكتابة، وعلم النقد".
وقد تنبه أدباء ونقاد هاته الفترة إلى الشروط الفنية التي يتوجب وجودها في الشعر لتحقيق جودته، فللشعر مقاييس يتميز بها جوهره وهي: اللفظ والمعنى والوزن والقافية والتي ذكرها النقاد القدامى وهكذا ظلت هذه المقاييس هي نفسها عند أدباء المرحلة. يقول علي مصباح:"وأما ما ينبني منه الشعر فأربعة: اللفظ والمعنى والوزن والقافية، وبتوفر هذه الأربعة في الكلام يخرج عن كونه نثرا إلى كونه شعرا وباختلال واحد منها يختل كونه شعرا".
وفي نفس المعنى يقول محمد المرابط الدلائي: "الكلام الموزون المقصود وزنه مرتبطا لمعنى وقافية، فالموزون إخراج لغيره. والوزن: تساوي نسبتين عددا وترتيبا. والمقصود وزنه إخراج لما لم يقصد... وهذا الحد شامل لأنواع المنظوم من شعر وغيره من الأعاريض المخترعة لكل إقليم على طباعهم. معربا كان أو ملحونا".
أما عبد الواحد البوعناني فيقول في تعريفه للشعر: "والشعر كلام وزن على قصد بوزن العرب، فقولنا كلام جنس يشمل الشعر وغيره وقولنا وزن، فصل يخرج الكلام المنثور. وقولنا على قصد: يخرج ما كان وزنه اتفاقيا كآيات قرآنية اتفق جزء الوزن فيها وكلمات شريفة نبوية، جاء الوزن فيها اتفاقيا غير مقصود، فمثل هذا لا يسمى كذلك لو وقع من متكلم لفظ موزون لم يقصد وزنه كما يتفق الكثير من الناس ويقع مثل ذلك لعوام لاشعور لهم بالشعر ولا إلمام لهم بالوزن، وقولنا بوزن العرب يشمل ما كان من نظم العرب بألسنتهم وما كان منظوما وكلام غيرهم على طريقتهم وهو مخرج لما خالف أساليب أوزانهم" .
فمعرفة الوزن والقافية وحدهما غير كافيين لقول الشعر الجيد، إذ لا بد من مراعاة العناصر الأخرى الأساسية مثل تخير اللفظ وإصابة المعنى، وصدق التعبير، وقوة التأثير، وهذا ما أشار إليه أبو سالم العياشي في قوله: "إن الشعر إنما كانت منزلته رفيعة، واستحلته الأسماع لاشتماله على بدائع الألفاظ وغرائب المعنى، وتجويد لحنه، وتحريكه في النفوس، وتنشيطه لها" .
فالعياشي يحاول أن يوضح لنا أن الشاعر الحق هو المتفطن لاستخراج المعاني من معادنها واستثمار مخمات الكلام من مكامنها، حاديا للألفاظ على معانيها مساويا لمثالثها ومثانيها، يضع التشبيه مكانه، ويحمل اللفظ إمكانه، ويطابق بالوصف موصوفه، وينال من كل أحد معروفه" .
ومن حدود الشعر عند اليوسي تلك العلاقة بين اللفظ والمعنى انطلاقا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة" رواه البخاري . فقد عبر في كتابه "زهرة الأكم" عن مزية الفصاحة عند العرب من جهة عذوبة الألفاظ وحلاوتها وتأديتها للمعاني بأجمل الصناعات يقول: "... ولأجل هذا يقال: أنزلت الحكمة على ثلاثة أعضاء في الجسد قلوب اليونان، وألسنة العرب، وأيدي أهل الصين. وما ذلك إلا لاختصاص اليونان بمزية التبحر في علم الأشياء، ومعرفة القوانين، وإتقان البراهين، واختصاص أهل الصين بمزية علم الصنائع العجيبة، وإتقان الأعمال الغريبة، واختصاص العرب بمزية إبانة المعاني العجيبة والأمثال والمواعظ المفيدة في أشعارها وخطبها. ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من الشعر لحكمة) فمن خلال هذا النص يظهر لنا تقسيم المعارف عند اليوسي واختصاص العرب بالإبانة عن المعاني، إذ حكمتهم في ألسنتهم وهذا يفضي بنا إلى قضية اللفظ والمعنى" .
وإذا كانت جدلية اللفظ والمعنى في الإبداع الشعري عند العرب قد طرحها النقد العربي منذ قرون بعيدة – بحيث انشطر الناس حينها إلى قسمين مناصري اللفظ ومناصري المعنى- فإن هذه القضية ظلت محط اهتمام الأدباء والنقاد في الفترة المدروسة، بحيث ظل فكرهم متأرجحا بين مناصرة هذا الجانب أو ذاك.
فهذا علي مصباح يذهب إلى ضرورة عناية الشاعر بكل من ألفاظه ومعانيه إذ يقول: " فيجب على الشاعر أن يصحح كلا من لفظ شعره ومعناه، فمهما سلم له المعنى واختل له بعض اللفظ بغرابته أو ابتذاله أو استهجانه كان نقصا للشعر وهجنة، كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك من غير أن يذهب الروح، ومهما سلم له اللفظ واختل له بعض المعنى كان أشنع قبحا وأعظم فسادا من عكسه، وسرى النقص إلى اللفظ مع حسنه ففسد الجميع. فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتا لا فائدة فيه. كما أن الميت لم ينقص شيء من شخصه في رأي العين إلا أنه لا ينتفع به ولا يفيد فائدة، وكذلك إن اختل اللفظ جملة وتلاشى من لم يصح له معنى لأنا لا نجد روحا في غير جسم البتة، وكذا في العمدة" . فاللفظ جسم والمعنى روح يقول: "والمعنى أرواح الألفاظ، والألفاظ كالأجساد، فإن خلا اللفظ من المعنى كان كالجسد بلا روح، يضعف بضعفه ويقوى بقوته" .
والموقف ذاته يتبناه ابن الطيب العلمي كذلك عندما يقول: " إن الشاعر أول ما يجب عليه المحافظة على سلامة ألفاظه ومعانيه، فإن اللفظ كما قيل جسم روحه المعنى يضعف بضعفه ويقوى بقوته. فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان ذلك هجنة على الشاعر... ولا يوجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ وجريه على غير الواجب، فإن اختل المعنى كله بقي اللفظ مواتا لا فائدة فيه، وإن كان حسن الطلاوة في السمع. كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأي العين إلا أنه لا ينتفع به، وكذلك إن اختل اللفظ كله لم يصح له معنى لأنا لا نجد روحا في غير جسم البتة" . وقد يتجاوز ابن الطيب العلمي موقف علي مصباح ويعلن انحيازه إلى جانب اللفظ يقول: "إن للناس في تقديم اللفظ على المعنى أو عكسه آراء ومذاهب، فمنهم من آثر اللفظ فجعله غايته، وهم فرق ويذهبون إلى فخامة الكلام وجزالته مع تضييع المعنى. وهذا النوع أدل على القوة. ومنهم من يوثر المعنى فيختار صحته، ولا يبالي حيث وقع من هجنة اللفظ وخشونته وقبحه كابن الرومي، وأبي الطيب، وما شاكلهما، وأكثر الناس على تأثير اللفظ" . ويستمر ابن الطيب العلمي في الاحتجاج لجانب اللفظ سيرا على آراء من سبقوه من النقاد القدماء، يقول: "قال بعض الحذاق: قال العلماء: اللفظ أغلى من المعنى ثمنا، وأعظم قيمة وأعز مطلبا. فإن المعاني موجودة في طباع الناس ضرورة يستوي الجاهل فيها وغيره، والعمل على جودة الألفاظ، وحسن السبك وصحة التأليف" .
أما الشاعر أبو سالم العياشي فهو يقول مناصرا الجانبين معا: "وإنما الشعر استخراج المعاني وانتقاء الألفاظ الحسنة، والاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى، فإذا تم هذا احتاج إلى قالب يفرغ فيه، وميزان تعادل به أجزاؤه، وإلى ضبط ألفاظه ليفهم المعنى الذي أراد" .
أما الشاعر عبد الرحمان الفاسي فهو في أقنومه يلح على ضرورة الاهتمام باللفظ أكثر من المعنى في قوله: (الرجز)
صناعة المنظوم والنثر معا
في اللفظ والمعنى يجيء تبعا
وإنما المعنى لكل أحد
يوجد طوع فكره في المقصد
وهو إلى صناعة تعبر
عنه بتآليف اللغى يفتقر
كالماء في البحر على اختلاف
آنية تختار لاغتراف
فالماء واحد وخذ من زخرف
أو ذهب أو فضة أو صدف
وباختلاف جنسها تختلف
جودتها والماء لا يختلف
فجاهل الأسلوب إن رام الخبر
كمقعد رام النهوض ما قدر
ولعل هذا الموقف نجده نفسه عند الشاعر اليوسي، فهو لا يخالف ما ذهب إليه أغلب النقاد القدامى في تفضيل اللفظ على المعنى وعلى رأسهم الجاحظ، بمعنى تفرد الشعر عن غيره من العلوم بخاصية وهي طبيعة لغته الشعرية التي تعطي صاحبها نوعا من التميز، فالمعاني معروفة متداولة لكن الذي يعطيها جدة وطلاوة هو اللغة الشعرية، نجده في شرحه لشعره يؤكد أنه كان يلبس في شعره لكل معنى من المعاني ما يناسبه من الألفاظ حتى تتحقق الجودة شكلا ومضمونا يقول: "والأنسب في هذه القصيدة أن ما كان منه في سري الليل، وسير المطايا، وقطع المفاوز، ونحو ذلك، مما هو شأن العرب أن يجلى في منصة كلامهم بالألفاظ الجزلة، وما كان منه في ذكر الأزهار والأنهار والرياض والحياض ونحو ذلك مما يولع به أهل الحضر أن ينظم في سلك كلامهم رقة ولطافة، وما كان منه في المديح والوصايا والحكم والأحكام، ونحو ذلك مما هو قدر مشترك أن يتوسط فيه..." .
أما عبد القادر بن محمد السجلماسي (ت1187ه / 1773م)، ففي شرحه للهمزية يقول مؤكدا على الاهتمام بجانبي اللفظ والمعنى: "وليس الفصاحة كما توهمه البعض هي الإتيان بالألفاظ المسجعة، والأبيات المرصعة، مع الخلو من المعاني الرفيعة، واللطائف البديعة، فإن ذلك التوهم -كما قال ابن أبي يحيى- سهم أخطأ الغرض، وآس قصد المعاطب فضاعف المرض" .
وإذا كانت قضية اللفظ والمعنى قد نالت اهتماما كبيرا لدى نقاد و أدباء المرحلة فإننا نجد قضية أخرى نالت حظها من هذا الاهتمام باعتبارها تميز الشعر عن النثر عندهم. إنها قضية الصدق والكذب أو الغلو في الشعر. فإن كانت قد اختلفت اتجاهات الأدباء والنقاد في هذه المرحلة بين التأييد والرفض فإنهم يرون جميعا المبالغة ذميمة، والغلو مرذولا، والإفراط عيبا.
فبالنسبة لليوسي نجده يقر بأن الكذب جائز في الشعر، لكنه يعترف بمزية الصدق في كل الأحوال، يقول في ذلك: "ومع أن الشعر حسنت فيه أشياء لم تحسن في النثر، وذلك مما يفضل به الأدباء، منها الكذب الذي وقع الإجماع على حرمته، فإنه جائز في الشعر، إلا أن في المبالغة والإيغال تفصيلا مذكورا في علم الأدب، وأفضل الأمور الصدق، وما قرب منه" .
فإن كان اليوسي يرفض الغلو في الشعر فهو ينطلق من محيطه الديني من جهة هذا المحيط الذي يمنع الكذب انطلاقا من قوله تعالى: "كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" . وانطلاقا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الكاذب ولو كان مازحا" . وينطلق من جهة ثانية من الذوق الأدبي العام الذي يتوخى الصدق في كل إبداع أدبي و خاصة منه الشعر ، انطلاقا من قول حسان بن ثابت: (البسيط)
وإن أحسن بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته صدقا
ونفس الرأي نجده عند علي مصباح يقول: "وسئل بعض العلماء عن الشعراء فقال: هم أرباب النظام وأمراء الكلام، وما عسى أن يقال في قوم الاقتصاد محمود إلا منهم، والكذب غير جائز إلا لهم؟ وهذا من فضل الشعر وخواصه" . فالشاعر الزرويلي لم يكتف بنقد هذه المبالغات في الشعر فقط بل نجده تعداها إلى السب والشتم، يقول: "وقد خاب سعي كثير من الشعراء أولعوا بالشعر من أول مرة، فتبعوا شقائق ألسنتهم فأوقعتهم في المهالك، فترى الواحد منهم يهجو حتى يقذف، ويهتك الأعراض التي انعقد إجماع الأمم من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم على حرمتها، وحرمة الأخذ منها، إلا بحقها ويمدح طلبا للدنيا، ونيل الحظوة حتى يجعل ممدوحه إلها أو نبيئا، أو يفضله على الأنبياء....فيكفرون من حيث لا يشعرون، غير مبالين بعظيم ما صدر عنهم، قبحهم الله وقبح شعرهم" .
فالشاعر هنا "يناصر الصدق ويدعو إلى الالتزام بالحقيقة الدينية والتمسك بالواقع الذي يجده الشاعر أمامه دون أي تغيير أو تزييف في تناوله" . وهذا نفس الموقف الذي نجده عند ابن زاكور الفاسي الذي يقول في قصيدة يمدح فيها محمد بن عبد المومن الجزائري: ( السريع)
خذها على رغم العدى غادة لفعها الصدق بأقبيته
ونفسه عند محمد المرابط الدلائي الذي يقول في قصيدة نبوية:(الكامل)
فإليك من كلف بكم مدح قد زانها في وصفك الصدق
وعلى الرغم من ذلك، فقد نجد بعض الشعراء في هاته المرحلة يقبلون ما قد يعتري هذا الشعر من كذب لأنه في نظرهم يزيد الشعر حلاوة وعذوبة، وبذلك يكون عنصر الصدق في الفترة المدروسة أحد الوجهين المقبولين في الإبداع الشعري إلى جانب عنصر الكذب أو التضخيم على الأصح، ومن ثم قال عبد الرحمان الفاسي في هذا الشأن: (الرجز)
الشعر منه ما انبنى على اليقين ومنه ما من الأغاليط يزين
أما الشاعر الإفراني فنجده يدافع عن المبالغة في الشعر بل يعتبرها من محسنات الكلام، فخلال شرحه لبيت ابن سهل في موشحته يقول: (المديد)
تركت ألحاظه من رمقي أثر النمل على صم الصفا
يقول بعد توضيحه لما جاء في البيت من صور بيانية: "وأنكر بعضهم المبالغة وقالوا: ليس فيها إلا التهويل على السامع، وربما أحالت المعاني، فأخرجتها عن حد الكلام الممكن إلى حد الامتناع، والصواب أنها من المحسنات التي لا يجول في حلبات سبقها إلا فحول هذه الصناعة، كفى شاهدا على ذلك قولهم في الشعر: أكذبه أعذبه" . فالإفراني يعد من أنصار مذهب الغلو في الشعر لأنه يعترف بشكل واضح وصريح أن خير الشعر أكذبه.
وإذا كان في هذه الفترة موقف مؤيد وآخر معارض أو رافض لعنصر المبالغة في الشعر، فإننا نجد هناك موقفا وسطا أو معتدلا لا يرفض المبالغة قطعا ولا يتحمس لها كما فعل الإفراني، بل يحاول أن ينهج طريقا وسطا وأهم من يمثل هذا الموقف ابن زاكور الذي رأيناه سابقا يناصر الصدق، يقول في كتابه "الصنيع البديع " خلال شرحه لبيت الناظم للقب الغلو:....(البسيط)
عزيز جار لو الليل استجار به من الصباح لعاد الناس في الظلم
وعد منه قول الفرزدق: (البسيط)
يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
وهذا البيت ومثله من المقبول من الغلو، لأن لفظ "يكاد" قربه من الصحة، كقوله تعالى:" يكاد زيتها يضيء ولم تمسسه نار" . ومن المقبول ما تضمن نوعا حسنا من التخييل كقوله: (الكامل)
عقدت سنابكها عليها عثيرا لو يبتغي عنقا عليه لأمكنا
حيث خيل أن الغبار المرتفع بسنابك الفرس، لكثرته انعقد فوقها وصار كالأرض، بحيث يمكنها الجري عليه وقد اجتمع التخييل الحسن واللفظ المقرب إلى الصحة في قول امرئ القيس:(الطويل)
يخيل لي أن سمر الشهب في الدجا وشدت بأهذابي إليهن أجفاني
فإن لفظ" يخيل" أشعر بأن ذلك على سبيل التخييل لا على سبيل التحقيق. ومن التخييل الحسن بيت الناظم رحمة الله عليه فقد ضرب في القبول بسهم مصيب وظفر منها بأوفر نصيب. مع أن ذلك في جنب قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه أقرب بقريب.
فابن زاكور استقى أفكاره من التراث النقدي العربي القديم، إذ "كل ما دنا من المعاني من الحقائق كان ألوط بالنفس، وأحلى في السمع وأولى بالإستجادة" .
وإذا كانت أغلب آراء أدباء هاته الفترة ونقادها تكاد تجمع على موقف واحد هو نبذ الغلو في الشعر، بحيث كان لزاما عليهم أن يتسم شعرهم بنوع من الصدق في التعبير وصحة المعاني ومقاربة الواقع أثناء سرد الأحداث، فإن السؤال المطروح والذي يهمنا في البحث هو: هل استطاع هؤلاء الشعراء أن يتجنبوا في شعرهم وبالضبط في قصيدتهم المادحة عيب الغلو والمغالاة؟ هذا ما سنراه لاحقا أثناء تطرقنا للصورة الفنية ومدى اشتغالها في المدحة العلوية.
و كما تطرق شعراء وأدباء هذه المرحلة إلى مفهوم الشعر، فقد تناولوا كيفية عمل هذا الشعر، وما هي الشروط التي يجب توفرها في الشاعر حتى يبدع شعرا؟ فقد أشاروا إلى عنصر الموهبة والسجية والذين لولاهما لكان الإبداع الشعري متكلفا.
فاليوسي لا يرى الشعر كلاما موزونا مقفى يدل على معنى فحسب، وإنما ما انبعث من الوجدان ولعبت فيه الملكة والموهبة دورا أساسيا في عملية صوغه وكتابته و إلا جاء متكلفا بادي الصنعة والتعمل.
ونفس الشيء نجده عند علي مصباح الذي ينص على: "أن الإنسان إن لم تكن له سجية أصلا، ولم يكن في طبعه قابلية لذلك، فلا كلام على هذا، ولا فائدة في إرشاده الطريق إلى ذلك، فإنه لا سبيل له إلى قوله ولو كان إماما في علوم الأدب" . على أن من أبرز خصائص هذه الموهبة أو السجية عند شعراء الفترة ونقادها أنها تخلق مع الإنسان، ولا تدرك بالممارسة والتعلم، ومن ثم فهي هبة من الله تعالى، يحضى بها من أراد من عباده.
فالسجية إذن عند علي مصباح شرط أساسي لابد من توفره في الشاعر حتى يبدع شعرا. وهذا ما عبر عنه الأديب محمد العالم في قوله: "إن الأدب لا ينال ذوقه إلا بفطرة سليمة، لا بكثرة العلوم" .
ولعله نفس الرأي الذي ألح عليه ابن زاكور الفاسي إذ نجده يقول: "و الشعر لم يكن في طبع كل عربي، وإن من كان ذلك في طبعه سهم كان يعانيه كما نقل عنهم، والله أعلم " . مؤكدا بذلك أن الشعر موهبة في المقام الأول ثم هي المقياس الأساس للتمييز بين الشعراء المطبوعين والمتكلفين وخاصة في المرحلة الأولى من الفترة المدروسة وإذا كان نقاد هذه المرحلة قد أجمعوا على أهمية الموهبة في الإبداع الشعري، فإنهم يرون ضرورة تعزيز هذه الموهبة بعنصر الثقافة والمعرفة العلمية حتى تتعزز هذه الموهبة، وفي ذلك يقول علي مصباح:"نعم يتزايد شعر الشاعر حسنا وبلاغة كلما زاد علما بآلاته، فأصل السجية هبة من الملك الوهاب، وهي تنمو بالاجتهاد في الاكتساب" .
فقد كان مرجع الشعر عند علي مصباح إلى شيئين: "السجية وهي لا تكتسب ولا تدرك بالتعلم والاجتهاد" ، والمهارة في علوم الأدب وإتقانها، وهي تؤخذ بالتكسب.
وانطلاقا من هذا كان الشاعر في نظر علي مصباح هو الذي يجمع بين الموهبة التي تولد الشعر، وبين تحصيل العلوم المكتسبة التي تقوم هذا الشعر وتثقفه. فلا بد إذن للشاعر أن يتسلح بالثقافة الأدبية المتنوعة حتى يكون لإبداعه قيمة وحتى يتجنب الوقوع في الخطأ، وهذا ما أكد عليه علي مصباح حينما يقول: "أما إن كانت لأحد سجية جيدة، ومادة سالمة غير أنه جاهل بعلوم الشعر أو بعضها، فإن شعره ذلك لا عبرة به، لأنه قد يلحن فيه من جهة الإعراب أو من جهة التصريف، أو يأتي بلغة غير مستعملة، أو يكسر الوزن، أو يأتي بمثل في غير محله... أو نحو ذلك" .
وهذا ما يؤكد عليه اليوسي في كتابه القانون، إذ يرى أن الشعر صناعة وثقافة وخبرة يقول: "... وأما الأشعار فهي أيضا علوم باعتبار نقلها وتدوينها وليست علوما باعتبار إنشائها، مع أن ذلك مستودع وجود علم ولذا يقال في الشاعر: إنه عالم بالصنعة، وفلان أعلم بها من فلان، ومن ثم قسموه إلى مخترع ومولد" .
ونجد علي مصباح يؤكد على أثر الحفظ والرواية في إغناء ملكة الشاعر: "وإنما يحصل له هذا الأمر من حفظه الأشعار إذا كان متفهما لمعناها، مستحضرا لمقاصدها. وإلا لم ينفعه حفظها... وأنه لا يصير مبرزا في قول الشعر حتى يكون راوية له، وأن الشعراء كانت تسود بكثرة حفظها الأشعار" .
ونجد عبد الرحمان الفاسي يعتبر الحفظ شرطا أساسيا من شروط الإبداع. يقول: (الرجز)
الحفظ من أنواع شعر العرب شرط فينتقى العزيز المطلب
وهذه الظاهرة نجدها عند مجموعة من شعراء المرحلة، بحيث كانوا يحفظون دواوين بعض الشعراء ويستفيدون من هذا الحفظ. ويذكر عبد الرحمان الفاسي في موضع آخر بفوائد الحفظ يقول: (الرجز)
وقيل في المحفوظ شرط النسيان له ليمحى لفظ عن اللسان
وتتكيف به النفس لان تقول في أسلوبه قولا حسن
ويمكننا أن نضيف عنصرا آخر له دور مهم في الإبداع الشعري إنه عنصر المذاكرة، وقد أشار إليه ابن الطيب العلمي إذ قال: "قال لي بعض الحنفيين الشعر مثل عين الماء، إن تركتها اندفنت، وإن استسقيتها هتنت، واستسقاؤها بالمذاكرة، فإنها تقدح زناد الخاطر، فتفجر عيون المعاني، فتوقد أبصار الفطنة والشعر في مسألة المذاكرة كغيره من العلوم" . فعنصرالمذاكرة يلعب دورا مهما في تنمية الموهبة من جهة، وإغناء الثقافة بما يمدها من معلومات ومعارف من جهة أخرى. وهو ما عبر عنه علي مصباح بقوله من قصيدة: (الطويل)
هو الشعر فلتخضع إليه العوالم
وتدعن لنجواه الملوك الأعاظم
له كلمات نافذات كأنها
سيوف بأيدي الفاتكين صوارم
فكم نبهت من خامل الذكر فارتقى
مراقي تحكيها النجوم الرواجم
وكم وضعت من شامخ العز، إنها
بذلك وذا بين الأنام حواكم
بالإضافة إلى الموهبة والثقافة والمذاكرة لا نغفل عنصرا آخر أكثر أهمية في عملية الخلق الشعري، إنه عنصر التجربة الذاتية التي أكد النقد الأدبي أهميتها سواء في امتداده الزماني أو المكاني، ويبدو أن هذا العنصر بما له من أهمية في العملية الإبداعية عامة، قد انطلقت منه قصيدة الفترة مهما اختلفت موضوعاتها واختلفت قضاياها، وسواء كانت التجربة ذاتية يعيشها الشاعر ويعاني من ضغطها، أو كانت غيرية يعايشها الشاعر أو يستقيها من مرجعيته التاريخية أو الاجتماعية. فقصيدة الفترة التزمت بعنصر التجربة الذاتية التزاما وثيقا، وهذه أبيات للشاعر علي مصباح تؤكد العلاقة الجدلية بين الإبداع الشعري وبين التجربة الذاتية الدافعة إليه، يقول: (الطويل)
وما كنت في نظم القوافي بفارس
فعلمني نظم القوافي صدودها
فصرت إذا استدعيت بيتا تزاحمت
بفكري المعاني والبيان يقودها
قريب معانيها إلى الفهم مطمع
ومن رام ينشي مثلها فبعيدها
فإذا اطلعنا على دواوين هذه الفترة نجد معظم شعرهم كان وليد تجارب عاشها هؤلاء الشعراء، فإن عدنا مثلا إلى شعر المديح الذي قيل في السلطان المولى إسماعيل، نجدهم يتغنون بحسن سياسته وتدبيره، فكل ذلك نابع من تجربتهم إذ أنهم عرفوا خلال عهده نوعا من الاستقرار والأمن، فراحوا ينطلقون من هذه التجربة ويجسدونها في مدائحهم. ولعل هذا العنصر هو الذي يجعلنا نميز بين الشعر والنظم، فالشعر ينطلق من اهتزاز عاطفي ووجداني أساسه التجربة والمعاناة. أما النظم فهو عبارة عن رصف كلمات وترتيب صياغات دون انفعال أو معاناة.
وإذا كنا قد اطلعنا على مفهوم الشعر في الفترة المدروسة، وعلى المقاييس الفنية الضرورية للإبداع الشعري. فما هي إذن القوالب والأنواع التعبيرية التي صيغ فيها مفهوم الشعر لدى هؤلاء الشعراء؟ وكما اعتمدنا هذا السؤال جوهرا لمتن بحثنا، كان حريا بنا لتجلية ما نروم إليه، مقاربة العوامل المساعدة لفن المديح في الفترة المدروسة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.