"اليومَ، لا أحَدَ يُنْصِتُ لِي، و لا يَعْرِفُ كَيْفَ يَتَلَقَّى ما أعْرِضُهُ" [نيتشه] « الشِّعر المغربي الحديث، و قصيدة النثر «، خَلَقَ لَدَيَّ هذا العنوان? نوعاً من الارتباك. ثمة مفاهيم، هنا، تحتاج إلى تَقَصٍّ. فالعنوان خليط مفاهيم لا تُفْضِي إلى شيء. « الشعر المغربي الحديث... «. زمَنِياً، يعود بي هذا الجزء من عنوان النّدوة إلى ما يتجاوز عقد الستينيات. أعني ما يعود بي إلى ما قبل هذا التاريخ بكثير، أي إلى المُقتَرَح الشِّعري التقليدي، الذي كان لحركة البعث و الإحياء، في المشرق العربي، دور في تفعيله. و هو نفس ما يُمكن أن يَسْرِي على المقترح الرومانسي في المغرب. لو كان الأمر يقتصر على هذا الجزء وحده، لاعْتَبَرْتُ أن المطلوب هو الذهاب إلى هذه الأمكنة، لقراءة أرَضِيها الشعرية، باعتبارها شعراً حديثاً، لكن الشٌِّطْرَ الثاني من العنوان، و الذي يَشُدُّهُ إلى ما قبله؛ العَطْفُ، كان كافِياً لخلق المأزق: « .... و قصيدة النثر «. ما العلاقةُ، إذن، بين السَّابقِ و التَّالي ؟ هل المطلوبُ هو البحث في هذا الماضي الشعري القريب. أعني « الحديث «، عن « قصيدةِ نَثْرٍ «، أو عن مُقْتَرَحاتٍ، ربما تكون غَيَّرَتْ مجرى هذا الشعر، الذي هو في أساسه استمرار لنظام شَعْرِيٍّ سابق، هو نظام الشطرين، بكل ما يستدعيه من تَمَاثُلٍ و تَوَازٍ، و ما يُمَثِّلُهُ من آليات اشتغال نَصِّيٍّ. أعرفُ جيداً أن هذا ليس هو المطلوب، لكن لِلُّغَةِ مََقَالِبُها، و أنا عملي هو اللغة، هذه النِّعْمَة التي تَحْمِلُ أكثر من خَطَرٍ، كما يقول هايدغر، فهي أخطر النِّعَمِ. المأزقُ الثاني، الذي هو أحد الارْتِبَاكَاتِ المطروحة في هذا العنوان، هو « قصيدة النثر «. في كتاب « رهانات الحداثة، أفق لأشكال مُحْتَمَلَة «، الصادر في التسعينيات، كنتُ شرَحْتُ بعض مآزق هذا المفهوم، و ذهَبْتُ إلى ما يَعْتَرِيهِ من قَلَقٍ، أو من اخْتِلالاتٍٍ في الجمع بين مفهومين، المسافَةُ بينهُما، في المفهوم، كما في الزمن، يَتَعذَّرُ علينا حَلُّها بما نتوقَّعُهُ من سُهولةٍ. هذا أيضاً، ما ذهبتُ إليه في « حداثة الكتابة.. «، و في غيرها من الكتابات التي وَاصَلْتُ فيها تنوير مواطن الخلل في ما نستعمله من مفاهيم لا نَعِي مواقع الخلل فيها. في الثقافة العربية، و في الفكر الذي تأسَّسَت عليه هذه الثقافة، ظل الفصلُ بين لُغَةٍ للشِّعر، و أخرى للنثر قائماً. حُدودٌ تفصل بين مَاءيْنِ، و لا يجوز وَصْلُ ماءٍ بآخر. هذا ما عيبَ على أبي نواس، و على أبي العتاهية، و هو ما أخرجَ أعمالَ الصُّوفيينَ من دائرة المُقْتَرَحِ الشِّعْرِيِّ، لأنهم دخَلُوا إلى الشِّعر، أي إلى « القصيدة «، تحديداً، من باب النثر. هذا الفصل بين لُغَةٍ للشِّعْرِ، و أخرى للنَّثْرِ، عَمِلَ على تَعْطيلِ كثير من المُقترحات الشعرية، واسْتَبْعَدَها، في مُقابِلِ « القصيدة «، التي لم تكن تقبلُ غير الشِّعري، بما هو لغة، و ليس مفهوماً. « القصيدة «، في الشعر القديم، لها بناؤها، وهي تقوم في تَصَوُّرِها النظري، كما ذهب إليه الشاعريون العرب، على نظام التماثُل و التوازي. البيتُ فيها مُستَقِلٌّ بذاته، و لا يُفْضِي إلى غيره. وهي، إيقاعياً: الوزن + القافية + المعنى، و هناك مَنْ يُضيف النِّيَةَ، أو القَصْدَ، الباقلاني، مثلاً. « القصيدةُ « لها توزيعُها [الكتابي] الخاص، و هي، في مظهرها، و في لغتها، كما في إيقاعها، شفاهية، أو تقوم على وَعْيٍ شَفاهيٍّ. الشاعر القديم، حتى حين كَتَبَ، كانت الكتابةُ لديه نَوْعاً من الاستجابة لِلِّسَانِ، أو هي مُجَرّد تَدْوينٍ، و رَسْمٍ، و ليست وَعْياً، أو سُلُوكاً كِتَابِياً. « القصيدة «، وفق هذا المنظور، هي مفهومٌ له تاريخُهُ، و له شَرْطُهُ المعرفي الذي يَحْكُمُ طبيعة بنائها. فما الذي يجمع بين « القصيدة «، لا الشعر، و « النثر « ؟ الشِّعرُ ليس هو « القصيدة «، فهو أوسع منها، و يِشْتَمِلُ عليها. الشِّعْرُ كَثْرَةٌ، جُمْلَةٌ من الاقتراحات التي تَمَّ إلْغَاؤُها، و بقيت القصيدة هي المقترَح الوحيد الذي نُعَمِّمُهُ على كُلّ الشِّعر، و بها نُجْرِي حُكْمَ الجُزْئْيّ على الكُلِّيّ، لأنها، كانت، في التصور المعرفي لفترة التدوين، هي ما يستجيبُ لطبيعة الرؤية التي حَكَمَت جَمْعَ، و تدوينَ النصوص الشعرية. هذا المرجع الذي سيكون سَنَداً للنص الديني في حَلِّ بعض مُعْضِلاتِه اللُّغَوية. لنتذكَّر ابن عباس؛ إذا أَشْكَلَ عليكم شيء في القرآن، فعودوا إلى الشِّعر، و المقصود، هنا، القصيدة. وما الذي يجمع بين « الحديث «، و هذه الممارسة النصية، أعني « قصيدة النثر «، التي تعود إلى الستينيات من القرن الماضي، و ربما، عربياً، و ليس في المغرب، إلى ما قبلها بقليل ؟ لَسْتُ مُطْمَئِناً لهذا العنوان. مفاهيم، و تركيبات خيميائية، لا تَجُرُّ إلا لِمُضَاعَفَةِ القَلَقِ، و خَلْطِ، ما نحن في غِنىً عنه، من هذه المفاهيم، لأنَّ ما يَعْتَمِلُ في جسد الشعر المغربي المعاصر، و ها أنذا أُشير إلى المفهوم الذي يمكن أن نُعيدَ به ترميمَ الجزء الأول من العنوان، يحتاجُ إلى ضبطٍ للمفاهيم، و الاستعمالات المفهومية المرتبطة بسياقاته. في مثل هذا النوع من الاستعمالات المفهومية، أعني « قصيدة النثر «، نُحَاوِلُ أن نُعطي طَرَفاً مَعْنىً، هو في أصله مُسْتَمَدٌّ من الطرف الآخر، فالمفردة، أو المفهوم الثاني، يتلقى معناه من المفردة، أو المفهوم الأول، أكثر ممَّ يعطيه، كما يقول دريدا. أي أن النثر، حين اقترن بالقصيدة، فهو كان يحتمي بشيء ما فيها، لا يَتَوَفَّرُ فيه هو كنثر. لعلَّ في التعبير الذي افتتح به أُنسي الحاج مقدمةَ ديوانه « لن «، و هو في صيغة استفهام، « هل يمكن أن نُخْرِجَ من النثر قصيدة ؟ «، ما يشي بِمُعْضِلَةِ هذا الزواج، الذي سيبدو فيه اختلالٌ، حتى قبل كتابة عَقْدِهِ. و من الالتباسات الكبرى التي وقع فيها أنسي الحاج، كما وقع فيها أدونيس، و كل مَنْ سار في طريقهما، هو اعتبارُهُما القصيدة من حيث المفهوم، أوسع من الشِّعر. و هذه من مواطِنِ النِّسيان التي ينبغي تَذْكِيرُها باستمرار. إنَّ لِمُرَاجَعة « الأصول «، دور مُهم في مراقبة ما نستعمله من مفهومات، حين يَحْدُثُ فيها خَلَلٌ ما، يَحْدُثُ الخلل في التصور أيضاً. أعودُ إلى الشعر المغربي، و أنا هنا، أتحدثُ عن الشعر المغربي المعاصر، و لن أستعمل مفهوم « قصيدة النثر «، و لا مفهوم « قصيدة «، و هذا سيكون، بالضرورة، حَاصِلَ ما ذهبتُ إليه، في الفقرات الثلاثة السابقة. سأذهَبُ إلى ما أُسَمِّيه ب « حداثة الكتابة «، في هذا الشعر. بالعودة إلى الممارسة الشعرية المعاصرة في المغرب، أي ما يبدأ زمنياً، من الستينيات إلى اليوم، و ما يتعلق بالشعر المعاصر، دون غيره، يمكن أن نقف على المظاهر الآتية: لم تخرج هذه الممارسة إبَّانَ الستينيات عن نظام الشطر الواحد، أو « قصيدة التفعيلة «. الاستثناء الذي لم يلتَفِت إليه النقد، و حتى ما أُنْجِزَ من دراساتٍ حول هذه المرحلة، كان هو محمد الصبّاغ، و هو مَنْ كان يُمَثِّلُ ما تُسَمُّونَهُ، في هذه الندوة، ب « قصيدة النثر «. في السبعينيات، ظلَّت تجربة الشطر الواحد حاضرةً، لكن الممارسة الشعرية المُوَازيَة، أو « قصيدة النثر «، عرفت بعض التَّوَسُّعِ، قياساً، بما كان عليه الأمر من قبل. إذا كانت التجربة الشعرية المُعاصرة، إبَّانَ الستينيات، ظلَّت مُلْتَزِمَةً بقوانين « الشعر الحُر «، كما ذهبت إليها نازك الملائكة، خصوصاً، في ما يتعلق بنظام، أو قانون الوقفات الثلاث، و استقلالية الشطر، أو البيت ووحْدَتِه، أي بعدم استعمال التدوير، أو « التضمين «، و لم تخرج عليها إلاَّ لِماماً، فإن مرحلة السبعينيات، عرفت نوعاً من الخروج عن هذه القوانين، بنقل النص الشعري من « الشعر الحر «، بالمفهوم أعلاه، إلى « الشعر المعاصر «، الذي فيه تَمَّ تَفْتِيتُ الوقفات، و الانتقال بالنص الشعري، من البيت الشعري إلى الجملة الشعرية، أو المقطع الشعري. يَسْتَتْبِعُ هذا، طبعاً، كَسْر نظام التوازي، ليس بإقصاء نظام الشطرين، بل بِتَدَفُّقِ النص و انْشِرَاحِهِ. هذا سَيُفْضِي إلى نوع من الكتابة ذات النَّفَسِ « النثري «، الذي أصبح فيه التَّدَفُّقُ يُتِيحُ للشاعر استعمالَ السرد، و استعمال أدوت لم تكن مُتَاحَةً من قبل، أو كانت مُقْتَصِرَةً على بعض أجناس الكتابة دون غيرها. ما يعني أن النص بدأ يعرف نوعاً من الانفراج، و شَرَعَ تدريجياً، في التحرُّر من الصيغ الشعرية التي يَسْتَدْعِيها الوزن، أو الصيغ الشعرية التي كانت تفرضُ نوعاً من التركيب دون غيره، و تفرضُ اختيارات لغوية لا تسمحُ بغيرها مما كان يُعْتَبَرُ لا شِعْرِياً. لكن رغم هذه التحولات، التي كانت بدأت، آنذاك، تتأثر بموجة مجلة شعر، فإن النص الشعري السبعيني، ظل محكوماً بالوعي الشفاهي، كونُه من حيث الموضوعُ، لم يخرج عن السياق الإيديولوجي للمرحلة، بما في ذلك، ما تُسمُّونَهُ « قصيدة النثر «. في الثمانينيات، وأنا، هنا، أتحدث عن مرحلة تَعْنِينِي، لأنني واحد من شُعَرائها، تقلّصت مساحةُ التفعيلة، فيما عرف الذهابُ نحو كِتَابَةٍ خالية من هذا الشرط، تَوَسُّعاً لم يكن مُتاحاً في المرحلتين السابقتين. قليلون هم شُعراء هذا الجيل الذين ظلوا يَخُوضون الكتابةَ بإيقاعاتٍ، الوزنُ أحد مُكَوِّناتِها، و أغلبُ أفراد هذا الجيل، و مَن أتى بَعدهُم، كانت المُمَارَسة النثرية، هي الأكثر حُضوراً في ما يكتبونه. يُمكن تبرير هذا التَّوَجُّه نحو النثر، إبَّانَ هذه المرحلة، بطبيعة التحولات الأيديولوجية و السياسية التي بدأت تَحدُثُ في المغرب، و تَحَلُّل أغلب شُعراء هذا الجيل من أي التزام سياسي، كان من قبل يحكم رؤية الشاعر، و يُوَجِّه وَعْيَهُ الشعري. لكن ينبغي أن نتوقف هنا، عند طبيعة المرجعيات التي حكمت المعرفة الشعرية لدى أفراد هذا الجيل، و غيره ممن أَتَوْا بعده. إذا كان شعراء السبعينيات، و حتى من جاؤوا قبلهم، تربطُهم علاقات جوار و معرفة، عن طريق الجامعة، و ما كانوا يتلقونه من دروس، على يد بعض شعراء الستينيات، فإن جيل الثمانينيات، كان جيلَ شتاتٍ بامتياز. لم تجمعهُم جامعة واحدة، ولم ينضمُّوا، في أغلبهم، للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، لم يأتوا من كلية الآداب وَحْدَها، ولم تكن العربية هي اللغة التي يقرأون بها فقط، و لا حتى الفرنسية، فثمة مَنْ جاء من شعبة الأدب الإنجليزي، و من جاء من شعبة الفلسفة، و علم النفس تحديداً، و ثمة من جاء من كلية الحقوق. أمْكِنَةٌ مُخْتَلِفَةٌ، بقدر ما ساهمت في خلق تَوَسُّعٍ، في المرجعيات، و في المعرفة، بمختلف شرائطها، بقدر ما ساهمت في نوع من اليُتْمِ الذي لم يكن يسمح بوجود أَبٍ يُمكِنُه أن يُسْهِمَ في رعاية هذا الجيل، الذي كان ينشأ و يتعلم، في غفلة من الجيلين السابقين. اختلفت المشارب. لهذا دَوْرٌ مُهِم في هذا النوع من الكتابة التي أَقْدَمَ عليها أفرادُ هذا الجيل، كتابة حُرَّةٌ، لا تُقَيِّدُها تأثيرات، و لا تخضعُ للإكراه الأيديولوجي، و لا لغيرها من الشروط التي كانت نوعاً من الالتزام الأخلاقي عند جيلي الستينيات و السبعينيات. المقروءُ الشعري القديم، لم يعُد يحظى باهتمام فئة واسعة من أجيال ما بعد الثمانينيات. أصبحت الرواية، بنفَسِها السردي، هي الكتاب الذي انْكَبَّ على قراءته هؤلاء. حين أقول أجيال ما بعد الثمانينيات، فلأن الجيل الذي أنتمي إليه، بعضُ أفراده، كانوا مُنْكَبِّينَ على قراءة القديم، و منهم مَنْ ذهب إلى دراسة بعض مُعْضِلاتِه الفكرية، و الشعرية، بما في ذلك الشعر العربي، خلال اتجاهاته، و قضاياه المُختلفة. ستلعب الترجمات دوراً كبيراً في مقروء هؤلاء. أقصد شعراء « الما بعد... «. لكن موجة ما بعد أُنسي الحاج، و محمد الماغوط، أي ما بعد « قصيدة النثر «، عند جماعة « مجلة شعر «، بما فيهم طبعاً، شوقي أبي شقرا، و غيرهم، كانت هي المرجع الذي ذهب إليه هؤلاء. « القصيدة « التي كان المرجع الشعري الفرنسي هو الذي يُوَجِّهُ اختياراتها، خصوصاً لدى فرنسيس بونج، ومَنْ كتبوا بطريقةٍ، لم تَعُدِ المسافةُ فيها بين الشعري و النثري قائمة، هؤلاء الذين امَّحَت عندهم الخواص اللسانية، التي فيها كان يَتِمُّ الفصل بين لغة و أخرى، أو بين أسلوب و آخر. لم يَتِم التوجُّه إلى الشعراء الألمان و الإيطاليين، وإلى تلك الجغرافيات الشرقية البعيدة، أعني الأراضي التي جَاوَرْنَاها منذ زمنٍ بعيد، ها هي اليوم بدأت تتكَشَّفُ مظاهرُها الشعرية العجيبة. الذاهبون إليها قلائل، لهذا صِلَةٌ بقديمِ الشعر العربي، و المعرفة بمشكلات هذا القديم الذي لهُ أسرارُه، التي لم تَنْفَتِح بعدُ كاملةً، رغم ما طَالَها من حَفْرٍ و اسْتِكْشافٍ. حين ذهبتُ إلى هذه المرجعيات، كنتُ أسعى إلى كَشْفِ فرق المسافة، بين شعرٍ يُكْتَبُ بنَفَسٍ زمنيٍّ قصيرٍ، و شِعرٍ يُكْتَبُ عبر امتداداتٍ، فيها يتقاطع الماضي مع الحاضر، و الشعري مع غيره من القضايا الكبرى التي باتت اليوم تشغل الفكرَ الإنساني. أعني المعرفةَ الشعريةَ بكُلِّ تَوَسُّعاتِها، بهذا الانشراح الذي خرج بالشعري من تلك المدونات التي حَصَرَتْهُ في خَوَاص مُحدَّدة، إلى الكتابة؛ اليَدُ و هي تُنَاهِزُ البياضَ. اللِّسانُ فيها سيشرع في التراجُع، ما سمَّاه دريدا ب « مركزية الصوت «، في مُقابل الكتابةِ، الهامش الذي كان الكلام يُضاعف هامشيته. الكلام، هذا « الخطاب الأكبر المُتعالي «، أو « الكلام الإلهي «، و هو ما سمَّاهُ هيرلوبونتي، ب « كلام الله «. فهو « كلامٌ تَدَبَّرَتْهُ ذاتٌ إلَهِيَةٌ مُتعَالِيَةٌ «. إذا كانت الكتابةُ، تَثبيتاً، فالكلامُ اسْتِدْرَاك، و تصحيحٌ، و هو فَوْرِيٌ. ناجِزٌ، حاضِرٌ، أو مُزَوَّدٌ بحضورٍ. الكتابة/ أو المكتوب، هي تَسْطِيرٌ. إنشاءٌ، واجْتِراحٌ، و هي صَنِيعُ الابن، صَنِيعُهُ، كما يقول دريدا، و هو مُضْطَلِعٌ بِيُتْمِهِ، أي بعُزْلَتِهِ المُطلقة. « لا يحتاجُ الكاتب إلى قتل أبيه، فهو في الكتابة بلا أبٍ أصلاً «. أليست « القصيدة « بهذا المعنى، هي هذا الكلام الذي ظل حاضراً، بكُلّ ثقله في وَعْيِنا، و هو ما سَمَّيْتُهُ بالوعي الشفاهي، في مقابل الوعي الكتابي.. إننا اليوم نكتب، لكن نادراً ما نكتُبُ وفق شُروط الكتابة، لا شروط اللسان. لِأَلُمَّ شتاتَ ما أنا بصدده الآنَ، سأذهبُ إلى الكتابة، أو ما سميتُه في المشروع النظري، ب « حداثة الكتابة «: الشعر المغربي اليوم، مازال يُكْتَبُ بوعي شفاهي، ما زالت « القصيدة « تَحْكُمُ وَعْيَهُ. قليلون هم الشعراء الذين نقلوا النص من الأبِ، إلى الابن، أعني من الكلام إلى الكتابة. هذا القَلْبُ الشعري الكبير، هو قَلْبٌ في مفهوم الجمال ذاته، و هو توسيعُ لِلُّغَة، في قُدْرَتِها على احتواء الأشياء، و على تَمَثُّلِها، دون فرقٍ بين ما يصلُحُ للشعر، و ما لا يصلُحُ له، أو هو خاصٌّ بغيره. للِصَّوْتِ في الشعر مكانُهُ، لكنه صَوْتُ الكتابةِ، لا صوتَ اللسان. في هذا القلب الجمالي الكبير، الذي ما زال وَعْيُهُ شَاقّاً، و لم نَخُضْهُ بما يكفي من الجُرأة، في الشعر العربي المُعاصر، نظراً و ممارسةً، لم يعد الكلام حاضراًً، أو مُهَيْمِناً، انْتَفَتْ مركزيَة الصوتِ، أو شرعَت، بالأخرى، في تَمَثُّل المكتوبِ، و لِما يَسْتَدْعيه هذا المكتوب من شُقوقٍ و تَصَدُّعاتٍ، أو ما يُضاعِفُ به النص امْتِدَادَهُ على الصفحة. « قصيدة النثر «، بما هي مفهوم يعود في أساسه إلى مرجعيات أجيال ما بعد الثمانينيات، بما فيها من نَفَسٍ نثريٍ صِرف؛ الصورة بدل الإيقاع، أو ما أُسَمِّيه ب « الدَّالِّ اليتيمِ « أو « المخنوق «، كما هجست بذلك الشعرية المعاصرة، حين أوْلَتِ الإيقاعَ صفةَ الدَّالِّ الأكبر، لم تَعُد حاضِرَةً، بهذا المعنى المعطوب، فالكتابة، في انْشِراحها، صارت جَامِعَ أنواعٍ؛ أرَضٌ في أَرْضٍ واحِدَةٍ، تُرَبٌ تَلِجُ بعضَها. حتى اللغة، لم تعد مُنْفَصِلَةً عن أصلها الواحد. في الكتابة استعادَت اللغة نِصْفَها الآخر، وأصبحت يَدُ الشاعر هي مَنْ تتحمَّلُ مسؤولية تحويل التَّنَكِ إلى ذَهَبٍ. أو كما يقول أبوديب « إن استخدام الكلمات بأوضاعها القاموسية المتجمِّدَة لا يُنتِجُ الشعرية، بل ينتجها الخروج بالكلمات من طبيعتها الراسخة إلى طبيعة جديدة. وهذا الخروج هو خلق.. للمسافة بين اللغة المُتَرَسِّبَة، و بين اللغة المُبْتَكَرَة في مكوناتها الأولية، و في بناها التركيبية، و في صورها الشعرية «. لا فصلَ و لا حَدَّّ، ليس ثمَّة ما بِهِ يكونُ الشِّعر، دون غيره، إنها الأرضُ التي اسْتَعادت ما اقْتُطِعَ منها، لتصير أرضاً واحدةً، هي أرضُ اللغة لا غير. القراءةُ العمياء، في الكتابة، هي تلك التي تكتفي بالسواد. لم يعُد الحِبْرُ وحده يكفي لقراءة الصفحة. الصفحة ضاعَفَت أمْكِنَتَها. حتى البياضُ أصبح دالاًّ من دوالِّ الخطاب. حين ننسى هذا الدَّالّ، أو نتغاضى عنه، فهذا هو ما يُفْضِي بنا إلى قراءة لا ترى إلاَّ السَّواد، تُجَرِّدُ الكتابة من مُضَاعِفاتِها، و تقرأُها بِلَيْلِها، دون أن تنتبه إلى ذلك النهار المُتَفَلِّتِ من شُقُوقِها، من ثنياتٍ، اللِّسَانُ، كان في الوعي الشفاهي يمْلَأُها بما يَسْتَدْرِكُهُ. هذه إحدى تبِعات هذا النوع من الوعي الذي يقوم على المَلْءِ، و اسْتِدْراكِ الشقوق و التَّصَدُّعاتِ. في الصفحة الواحدة نقرأ أكثرَ من نَصٍّ، اتِّجاهاتٌ تُفْضِي إلى المُتَكَثِّرِ. خُطُوطٌ، وانْحِناءاتٌ.. المعنى في ضوئها يبدو ضائعاً، دُوَّارٌ يُفْضِي إلى دُوارٍ، و النَّصُّ يبقى مفتوحاً على كل الاحتمالات. أعود إلى دريدا مرةً أخرى، إنه يَسْعَفُنِي هنا، أكثر من غيره. يقولُ، في سياق ما أنا بصدد الحديث عنه؛ « لا يكونُ نصٌّ نَصّاً إن لم يُخْفِ على النظرة الأولى، و على القادم الأول، قانُونَ تأليفه، و قاعدةَ لَعِبِهِ. ثم إن نصّاً لَيَظَلُّ يُمْعِنُ في الخفاء أبداً. ولا يعني هذا أن قانونَه و قاعدَتَهُ يحتميان في امتناع السر المطويّ، بل إنهُما، و ببساطة، لا يُسلمان أبداً نَفْسَيْهِما في الحاضر لأيِّ شيء مما تمكن دعوتُه بكامل الدقة إدراكاً «. في وضع الكتابة، إذن، النقد يحتاج إلى إدراكِ هذا النسيج الجديد، هذا الجسد الذي لم يعُد تشريحُه بالأدوات القديمة، مُمْكِناً. الصيرورة التي اختارتها الكتابة كوتيرة لبرنامج عملها، أصبحت تقتضي أيضاً، أن يُرَاقِبَ الناقد الصيرورةَ، و أن يُتِيحَ لأصَابِعِهِ أن تشتغِلَ في نسيج النص، أو يجعل أصابعَهُ تَعْلَقُ فيه «. ما الدَّاعي لاعتبار المفاهيم القديمة صالحة لكل زمان ومكان. لماذا لا نُرَاجِعُ المُسَلَّمات، و نُراقِبُ النِّسيانَ الذي يَطَالُنا، كما نحنُ مُلزمون بمراقبة الصيرورة. « القصيدة «. هذا المفهوم الذي يحمل تداعياته في ذاته، و يستدعي ماضيه بكل تَبِعاتِه، مَنْ يُلْزِمُنا بتبنِّيه، و اتِّخاذه ضوءاً يقُودُنا، حَتْماً، نحو ظُلُماتِه.. حتى الذين جاؤوا بالأمس بالحداثة كبرنامجِ عَمَلٍ جديد، في مُقابل « القدامَة «، و « التقليد «، ما زالت ألسنتُهُم تَلْهَجُ بماضيها، بالحداثة التي لم تُغادر قَدَامَتَها. إن أخطرَ ما يجعل الماضي يستعيد ماضِيهِ، هو ما يترسَّبُ في المفاهيم من تبِعاتٍ، تظل مُقيمَةً في فكرنا، لا نعي فَداحَتَها، إلا حين تُصبح جميعها في خدمة مَاضٍ مَضى، بآليات حاضرٍ، نعتقدُ أننا به نواصِلُ السَّيْرَ قُدُماً إلى الأمام. يَجُرُّنِي هذا إلى اعتبار تجربة الكتابة في المغرب، هي أوسع، و أكبر من « القصيدة « بكل تمظهُراتِها؛ « الحُرة، « و « المعاصرة «، و أوسع مما تُسَمُّونَه « قصيدة نثر «، لكنها لا تزال تعمل في صمتٍ، و كثيراً ما يطالُها التَّلْبيس لتصير نثراً.. هذه أسهلُ الطُّرُق التي تجعلُنا نتحلَّلُ من كل ما يتملَّكُنا من تَسْمِيَاتٍ، و نشرعُ في تسمية ما نَبْتَدِعُه من أشكال ومُقتَرحاتٍ. ? نص المُداخلة التي شاركتُ بها في مهرجان الرشيدية، في الندوة الخاصة ب « الشعر المغربي الحديث، و قصيدة النثر « في 14 . 7. 2007