اجتهد أدونيس،فكتب يوما يقول إن مهمة الشاعر الحديث أن يجعل القارئ يعلو لكي يصل إليه، لا أن ينزل هو إلى القارئ، منذ ذلك الوقت والاثنان معا يطيران في الهواء، لا القارئ يعلو ولا الشاعر ينزل»! قرأتُ، من قبل، مقالاتٍ للسّيّد ادريس الكنبوري، نُشرتْ في الصّفحة الثّقافيّة لصحيفة «المساء»، ولم يَدُر قطّ بخَلَدي، قبل هذه اللحظة، أنّي سأكتبُ في يوم ما « ملاحظات وتساؤلات» حول بعضٍ مِمّا تجودُ به علينا قريحتُه، إلا أنني أفعل ذلك الآن، مُضطرّا، بعد اطّلاعي على مقاله: «شعريّة الباذنجان» (عدد الجمعة 1 مايو 2009 من «المساء») . وأعتقد أنّ صدر الأخ إدريس الكنبوري من الرّحابة بما يكفي ليتَّسِعَ لملاحظاتي. لا داعي إلى أن أرتّب هذه المُلاحظات، فهي، على أي حال، ستبدو، في نهاية المطاف، متواشجة متكاملة: - وَرَدَ في «شعرية الباذنجان»: «ففي «البيان والتبيين» يستشهد الجاحظ ببائع متجول يجوب الأزقة صائحا «هنا بائع الباذنجان»، ويقول الجاحظ إن مصادفة تلاقي تلك العبارة مع الوزن «فاعلن فاعلان» لا تعني أن صاحبها شاعر، بل مجرد بائع متجول». لا يمكنُ القارئَ إلا أن يبقى حائرا أمام هذا «الاستشهاد» المثير، ذلك أنّ عبارة « هنا بائع الباذنجان»، ليستْ بتاتا على وزن « فاعلن فاعلان»، وليسَ واردا، طبعا، أن يُقْدِم الجاحظ على خطأ من هذا القبيل، ولكنّ السيد إدريس الكنبوري، بارتكابِه إياه، يُبَيّن لنا أنّ علاقته بالعروض ليستْ على ما يُرام. وسيَتّضحُ، بعد قليل، دافعي إلى تسجيل هذه المُلاحظة. - كَتب السّيّد إدريس الكنبوري، أيضا، في المقال نفسِه: «... كانت هناك دائما أربعة أنواع من الشُّعراء أحصاهُمْ وعدّهمْ عدّا أحد الشّعراء في أبيات أوردها ابن رشيق القيرواني... قال فيها: الشعراء، فاعلمن، أربعة فشاعر يجري ولا يُجرى معه وشاعر ينشد وسْط المعمعة وشاعر من حقه أن تسمعه وشاعر تستطيع أن تصفعه. ( كذا!)» وهنا يَجِدُ القارئ نفسَهُ، مرّة أخرى، أَمَامَ أمر غير مُستساغ: فالسّيد إدريس يحسب أنّ عبارة «وشاعر تستطيعُ أن تصفعه» هي على وزن الأبيات الثلاثة الواردة قبلها، وهذا غير صحيح. وبديهي أنه يستحيل أن يورد ابنُ رشيق هذه العبارة على أنّها البيت الرّابع المكمّل للأبيات السّابقة عليه (في طبعة جيّدة التّحقيق لكتاب «العُمدة» لابن رشيق، نقرأ الأبيات التالية: الشّعراء فاعلمنَّ أربعهْ/ فشاعرٌ لا يُرْتجى لمنفعهْ/ وشاعر يُنْشِدُ وسْطَ المَجْمعهْ/ وشاعِرٌ آخرُ لا يُجْرى معَهْ/ وشاعِرٌ يُقالُ: خَمِّرْ في دَعَهْ). وقدْ يَسْألني سائل لِمَ أَقِفُ عند هاته المسألة العَروضيّة وسابِقَتِها؟ جوابي هو التّالي: إنّ صاحب «شعرية الباذنجان» يُخبرنا، في مطلعِ مقاله، أنّ محمود درويش كتب ذات مرّة « مُحَذّرا من موجة شعرية جديدة كانت قد بدأت تظهر في ذلك الوقت، سماها أصحابها قصيدة النثر»، ويُضيف: «مات محمود درويش... وضاعت صرخة الرجل في واد من الفوضى والتسيب»، وما يُفهم من هذا الكلام هو أن السيد إدريس الكنبوري يُقدّم نفسه، بصورة ضمنية، على أنّه من النّقّاد المناصرين لشعر التّفعيلة (رغم أنّه سيُضفي، لاحقا، قليلا من النّسبية على ما يُفهَمُ من كلامُهُ الذي أوردتُه أعلاه). هذا من حقّه، طبعا -علما بأنّه، في الواقع، لا توجد «حرب» بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النّثر. لكنْ يَبقى ثمّة سؤال يَطرح نفسه: إذا كان السيد إدريس الكنبوري لا يستطيعُ أنْ يُميّز، بشكل تلقائي، واعتمادا على ما هو معروف بالأذن الموسيقيّة، الكلام الموزونَ من غير الموزون، وإذا كان يَحسِبُ أنّ عبارة «هنا بائعُ الباذنجان» هي على وزن «فاعلن فاعلان»... فكيف سيُمكنُهُ أن يُفرّقَ بين «قصيدة تفعيلة» و«قصيدة نثر»؟ - لنعُدْ إلى بداية مقال الأخ إدريس الكنبوري: «في بداية الثمانينيات، كتب الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، الذي عاش أعزب واكتفى بالقصائد محل الأولاد، محذرا من موجة شعرية جديدة كانت قد بدأت تظهر في ذلك الوقت، سماها أصحابها قصيدة النثر، وكتب في مجلة «مواقف»، التي كانت هي نفسها وراء تلك الموجة للمفارقة، مقالا تحت عنوان «أنقذونا من هذا الشعر». مات محمود درويش وقبله ماتت «مواقف»، وضاعت صرخة الرجل...». الواقع أنّ ما ورد في هذه السّطور بعيد أشدّ البعد عن الدّقّة. فالمرحوم محمود درويش كان قد عبّر عن موقف شخصيٍّ جِدّا لم يَعْتبِرْهُ مُلزما لغيره (إذ إنّه لم يَكُنْ يرغب في لعب دور المفتي الذي يُحدّدُ للشّعراء ما يجوز وما لا يَجوز!). ولِيَتَيَقّنَ السّيّد إدريس من هذا، ما عليه سوى أن يعود إلى بعض أعداد مجلّة «الكرمل» (وقد كان محمود درويش رئيسَ تحريرها). وقْتَها، سيتحقّق من أنّ هذه المجلّة قد نشرت عشراتٍ من قصائد النّثر، بل إنّها نشرتْ من هذا الصّنف أكثرَ ممّا فعلتْ «مواقف»!.. أفْتَحُ، دونما انتقاء، عددين من «الكرمل» -يتصادفُ أنّهما العدد 39/ سنة 1991، والعدد 42/ سنة 1991، أيضا- فألاحظ أنهما يتضمّنانِ قصائد نثر لكلّ من: سركون بولص، سيف الرحبي، هاتف الجنابي، عقيل علي، محمد علي اليوسفي، وليد خازندار، عقل العويط، ومنذر عامر. إنّ صاحب «شِعريّة الباذنجان» يُخطئ، أيضا، حين يقول إنّ «مواقف» كانتْ «وراء تلك الموجة (يقصد ظهور قصيدة النّثر وانتشارها)»، فالواقع أنّ قصيدة النّثر قد ظهرتْ قبل أن يرى أول عدد من «مواقف» النّور بسنوات طوال; بل إنّ « مواقف» نشرتْ، مثل «الكرمل»، قصائدَ تفعيلة وقصائد نثر. وشعراء التفعيلة الذين نشروا في «مواقف» كثيرون، منهم: فدوى طوقان، أدونيس، سعدي يوسف، محمّد عبد الحيّ، محمد علي شمس الدّين، جودت فخر الدّين، علي جعفر العلاق، محمّد الطّوبي، إدريس عيسى، جليل حيدر... ولأنّ السّيّد إدريس الكنبوري كانَ قد ذكَرَ بخير كلاّ من إدوار سعيد ومُحمّد أركون، في مقال له سابق بعنوان: «الخيانة المُحرّمة» (جريدة «المساء»، عدد 10 أبريل 2009)، فإنّي أودّ أنْ يَعلم أنَّ كلاّ من هذين المُفكّرين كان، في فترة أو أخرى، ضمن هيئة تحرير «مواقف»... - يقول صاحبُ «شعرية الباذنجان»: «..ولأن كل شخص أصبح من حقه أن يضع كلمة إلى جوار أخرى ويذهب إلى المطبعة محملا بشيك... وقد اجتهد علي أحمد سعيد، المعروف بأدونيس، لكي يجد تخريجة لهذه الظاهرة، فكتب يوما يقول إن مهمة الشاعر الحديث أن يجعل القارئ يعلو لكي يصل إليه، لا أن ينزل هو إلى القارئ، منذ ذلك الوقت والاثنان معا يطيران في الهواء، لا القارئ يعلو ولا الشاعر ينزل»! لا شكَّ أنَّ هنالك كتبًا رديئة تُنشر، في مجالات كثيرة (الرّواية، الشّعر، القِصّة القصيرة، النّقد،...)، في بلادنا وفي غيرها من البُلدان، لكنّ الأمر الذي يثيرُ الاستغراب هو إقحام أدونيس في مسألة من هذا القبيل. إنّ الحديث عن «تخريجة» يَبْدو لي نتاجَ فهمٍ غريب لفكرة أدونيس عن ضرورة تثقيفِ القارئِ نفسَه حَتّى يتمكّن من مُواكبة حركيّة الإبداع... والحالُ أنّ ما قاله أدونيس سبق أن ورَدَ على لسان أبي تمّام قبله بقرون، فمن المعروف أنّ أبا تمّام كانَ قدْ سُئلَ مِنْ قِبَلِ أحدهم: «لِمَ لا تَقولُ ما يُفْهَم؟»، فكان جوابُهُ: «ولِمَ لا تَفْهَمُ ما يُقال؟»، أي: لِمَ لا ترقى إلى المستوى اللازم لفَهْم ما يُقال، وهذا ما أعاد أدونيس التّأكيد عليه بطريقته... - ويقول السّيّد إدريس الكنبوري، أيضا: «هناك شعراء كبار أنجبتهم القصيدة الحديثة، قصيدة التفعيلة، وهناك آخرون أنجبتهم قصيدة النثر، فالإبداع مجال للاستثناءات بامتياز، بدونها لا يحيا. نجح محمد الماغوط في نحت قصيدته النثرية، كما نجح حسب الشيخ جعفر وسعدي يوسف، لكن هؤلاء قليلون، لأن القوة لديهم كامنة في قدرتهم الإبداعية لا في قصيدة النثر بذاتها...». لا داعي، طبعا، للإشارة إلى كون سعدي يوسف وحسب الشّيخ جعفر لا يكتبان قصيدة النّثر، فهذا مِمّا يعرفه كلّ من له علاقة بالشّعر العربي المُعاصر... ولا شكّ أنّ القراء يودّون لو يُدقّق الأخ الكريم إدريس الكنبوري معلوماته قبل أن يقدّمها إليهم، فإضافة إلى ما يُفاجئنا به في «شعريّة الباذنجان»، نجِدُ أنّه كانَ قدْ كتب في مقال آخر له بجريدة «المساء»، يحمل عنوان «أكلوني البراغيث» (عدد الجمعة 17 أبريل 2009): «عاش الشاعر الفرنسي آرتور رامبو عمرا قصيرا... ولا زالت قصيدته الشهيرة «الزورق الأعمى» تستفز حاسة التحدي لدى النقاد...»، والواقِع أنّه ليس لرامبو أيّ قصيدة بهذا العنوان، بل إنّ من بين قصائده، الشّهيرة فعلا، واحدة تحمل عنوان: «المركب السّكران»، وشتّان ما بين هذا وذاك... وأعمال رامبو الكاملة مُتوافرة في المكتبات، لا بالفرنسية وحدها، بل بالعربية أيضا(في ترجمة معروفة لكاظم جهاد). يبقى ثمة أمر غريب آخر في هذه العبارة: «... لكنّ هؤلاء قليلون، لأنّ القُوّة لديهم كامنة في قُدرتهم الإبداعية لا في قصيدة النثر بذاتها...». فهل قوّة شعراء التّفعيلة المتميّزين كامنةٌ في «قصيدة التّفعيلة بذاتها»؟ وما معنى «قصيدة النّثر بذاتها»؟ وأين توجَد؟ ولو كانتْ قوّة شعراء قصيدة الشّطرين كامنة في « قصيدة الشّطرين بذاتها»، فهل كان لِواحدٍ من القُدامى أنْ يُميّز بين أصناف أربعة منهم؟ وإذا كان محمد الماغوط قد نجح في «نحت قصيدته النّثريّة»، فَلِمَ لا يَنْجحُ آخرون في «نحتِ قصائدهم النّثريّة»؟ هل حَدث أن تبنّى الماغوط قولة ابن عربي: «أنا الخَتم، لا وليَّ بعدي ولا حامِلَ لِعهدي»؟ - وكتب صاحب المقال المذكور: «... لأن القوة لديهم كامنة في قدرتهم الإبداعية لا في قصيدة النثر بذاتها، في الشاعرية لا في الشعرية، والفرق بينهما كبير كما يعرف القارئ، الأولى تتعلق بذاتية الشاعر، والثانية بالنص، وهذه الأخيرة ابتكرها النقد الحديث بعدما جف الإبداع للتغطية على غياب الأولى، لأن الشعرية، بكلمة واحدة، هي التساوي بين ما كتبه المتبني وما يكتبه شعرور انتحاري كل زاده من الإبداع عبارة «تفجير اللغة» التي أسيء إليها كثيرا بغير إنصاف. لكن نجاح مثل تلك التجارب الخاصة والفردية لا يعني أن الجميع يمكنه الدخول من غير أن يستأذن». من جديد، يَجِد القارئ نَفْسَه أمام كلام ليست له ضوابط، فأيّ طالب مبتدئ في الدراسات اللسانية والأدبية يَعرفُ أنّ أرسطو، قبل حوالي 25 قرنا، كان قد ألّف كتابا، عنوانُهُ... «الشّعريّة»!.. فهذه الأخيرة، إذن، بعيدة عن أن تكون من مبتكرات النَّقد الحديث. ومن باب التّعقيب على العِبارة التّالية: «لكنّ نجاح مثل تلك التّجارب الخاصّة والفرديّة...»، والتي يُقصدُ منها تجارب الماغوط وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر، أتساءل: أليستْ كلّ تجربة شعريّة حقيقية، بالضّرورة، « خاصّةً وفرديّةً»، سواء تعلّق الأمر بشاعر مُعاصر كهنري ميشو أو عبد الكبير الخطيبي أو محمّد السّرغيني أو وديع سعادة ، أو بشاعر من عصر آخر كالأعشى الكبير أو أبي نواس أو ابن شُهَيد أو شكسبير؟... لا أودّ أن أطيل أكثر مما فعلت، ولكنّي أريدُ أنْ أؤكّد على أنّ ما دفعني إلى كتابة هذه السّطور هو إدراكي لمدى أهمّية الصّحافة الثّقافية في مُجتمعنا، فالقارئ ينتظر من المقالات النّقديّة التي يقدَّمُها إليه أصحابُها أنْ تُفيدَه، أي أنْ تكون غنيّة بحمولة ثقافية فعلية... وبالطّبع، فهذا القارئ لن يرتاح لكتابات فيها «نرفزة» غريبة وخلط كثير.