هذا الشهر، هجريا وعجميا، بالمقياس المغربي،سيكون شهر الصوم والعطلة والاستجمام..وأصيلا..وبن عيسى. "" ككل سنة تشهد مدينة أصيلا الأصيلة مهرجانا يعد من أشهر مهرجانات الصيف المغربي..وفيه يرتدي ين عيسى، شيخ المدينة المخلد في كرسي بلديتها ورئيس منتدى أصيلا والوزير الأسبق، القميص قصير الأكمام ويخلع ثوب الديبلوماسي ويلبس جلد المثقف وتستقر هذه الصورة طيلة أيام في صحف كثيرة أهمها "الشرق الأوسط".ولا جدال أن المهرجان إياه أعطى للمدينة شهرة دولية، لكن أصيلا "الزغبية" ما تلبث أن يهجرها زوارها لتعود إلى سبات اقتصادي وتجاري وثقافي عميق يستغرق إحدى عشر شهرا! ولذلك فالمدينة يزورونها كل سنة مرة ويحبونها في الصيف وينسونها "في الشتي". يقول بعضهم إن بن عيسى أفاد مدينته كثيرا.أقول نعم: أفادها في النظافة وتنشيط الحركة التجارية والسياحية لبضعة أسابيع في السنة، لكنه استفاد من المهرجان على الصعيد الشخصي كثيرا،ولم يستطع أن يجعل المناسبة منطلقا لتأمين تنمية ورواج غير موسميين في المدينة.طيلة عقود بن عيسى من المناسبة الممولة من جيوب الشعب ليبني شبكة علاقاته الدولية ويلمع صورته أولا والمغرب ثانيا والمدينة ثالثا..ولم يزل مصرا على ربط أصيلا باسمه..رغم أنه بلغ من الكبر عتيا.حب الكراسي أكبر بلية تصاب بها الخلائق. هذا العام، أثارني عنوان الندوة المتعلق "بالتعاون العربي الإيبيرو أمريكولاتينو..الأفرو أسيوي أسترالي...". شئ من هذا القبيل يستعصي على الحفظ والهضم، فقلت بحسرة:رباه، من أين يأتون بهذه العناوين؟ كما أثارني أنهم يعتزمون إطلاق إسم الكاتب السوداني الراحل الطيب صالح، الذي كان يحتفى به دائما في المهرجان، على أحد شوارع المدينة. بالنسبة لموضوعات الندوات التي تطارحها "المفكرون"منذ عقود بأصيلا كانت دائما خارج السياق المغربي، بنظري على الأقل. فمادام الاحتضان في بلادنا والتمويل من جيوبنا، واللوجيستيك مقتطع من ضرائبنا،فلم لا يكون الموضوع في صلب قضايانا الوطنية.ودعوني هنا أقترح موضوعات عسى ولعل أن يلتفت إليها في الآتي من الأعوام: سبتة ومليلية إلى متى الاستعمار؟ ضحايا حرب الغازات السامة الإسبانية متى يعوضون؟ الصحراء الشرقية المغربية التاريخ المنصف والجغرافيا الظالمة.المغرب العربي مشروع ممكن التحقق أم أضغاث أحلام ؟ الحالة الصحية للديبلوماسية المغربية: بن عيسى نموذجا! ماذا جنى العالم العربي من مسلسل التطبيع مع إسرائيل؟ ..إلى ما دون ذلك من الموضوعات المهمة للمغرب، لكنها لا شك تثير غثيان وقرف العقول المدبرة في "جمعية المحيط"! أما بشأن إطلاق إسم الراحل الطيب صالح رحمه الله على أي من شوارع المدينة فلا اعتراض لدي سوى أن أهل الدار به أولى.أليس شكري، كاتبنا العالمي، ومحمد زفزاف، المبدع في تخصصه،والعربي باطما، الصوت الساكن في الوجدان المغربي، وعبد الكريم برشيد،علامة المسرح المغربي في المشرق العربي، الطيب العلج، ومحمد فويتح،ومحمد الحياني،والزاكي بادو ومحمد التيمومي..وسعيد عويطة..ولائحة لا حصر لها من أسماء الأموات والأحياء من أبناء هذا البلد الرائعين الخالدين، أليسوا يستحقون إطلاق أسمائهم ولو على زقاق في أصيلا؟ عجبي. أما الطيب صالح فليس أدبه من أعلى من شأنه حقيقة، وماذا يساوي الراحل أمام العملاق عبد الرحمان منيف صاحب الأن هنا ومدن الملح وقصة حب ماجوسية وسباق المسافات الطويلة..إلخ؟ إن من كتب للراحل الانتشار حيا وميتا هو قربه من ماكينة الإعلام السعودي حتى أخر أيام حياته.شتان بين من كتب عن التيه والهجرة إلى الشمال هامة وعمقا ونفسا..لكنها ماكينة"البتروإعلامودولار" اللعينة. لست ضد مهرجان اصيلا كفكرة جيدة، لكني ضد محتواها وضد تخليد بن عيسى على رأس المهرجان وضد إقصاء النخبة المثقفة في المدينة والتي في أحسن الأحوال توكل لها مهام من قبيل تنفيذ إرادة "الشريف" كما يلقب بن عيسى في مدينته.بن عيسى الذي تقاعد كان يجب عليه أن يستريح ويترك المشعل لغيره، لكن الرجل أبدا لا يسلم بتقاعد ولا يؤمن بتناوب.وحب الوزير السابق للظهور لا يقاوم ولعله يشتاق للوقوف أما الكاميرا كثيرا، أو على الأقل احتلال صفحات الجرائد "الدولية"، وذلك أضعف ما يشفي الغليل. لقد استغل إمبراطور أصيلا العجوز، مناسبتين ليحاول قول "شيئا ما" بعد أن استراح ما تبقى للقناتين الرسميتين من مشاهدين من كلامه المحنط دهرا. المناسبة الأولى عشرية وصول الملك محمد السادس إلى عرش المملكة، والثانية غياب أبرز كتاب "الرأي الوحيد" في صحيفة أل سعود الأولى، "الشرق الأوسط" التي تقول عن نفسها إنها لا تتثاءب، وهم صادقون لأن الذي لا يفتح فمه أصلا لا سبيل لكي يخرج ذلك الهواء من باطن الجوف ليشعر بلذة "التنفس" اللاإرادي! ماذا قال بن عيسى الحامل لشهادة في التواصل والديبلوماسي الكبير ( في السن على الأقل) لقد حاول التذاكي وسلك مسلك الشاعر المتنبيء ليمدح نفسه من خلال مدح الآخر، والأخر هنا ليس شخصا آخر غير الملك محمد السادس.وكأن الملك بحاجة إلى مديح،غير متذكر – بن عيسى – أن الملك منع أغاني المدح في شخصه ومع هذا القرار لم نعد نسمع حتى الأغاني الوطنية. ولعمري إن الرجل لو سكت لكان خيرا له.لماذا؟ لأن كل ما جاء بالمقال المنشور بالصحيفة المذكورة فيه إساءة لأسلوب مسؤول مغربي سابق عاصر ملكين، وعمر طويلا على رأس السلك الديبلوماسي الوطني والمفروض أن يكون كلامه حكمة تمتح من معين تجربة غير عادية في أسلاك الدولة، وأن يكون لمقاله عمق غير المديح الصريح لشخص الملك، والرغبة المبطنة في إيصال رسالة مفادها: حتى أنا شاركت في هذا الأمر، أو لولاي لما وجد الملك من ينفذ أوامره خير تنفيذ! ثم إن الرجل مصاب، كما كثير من المسؤولين، بأنفلونزا غرام الإعلام الأجنبي، و"الشرق الأوسط" أجنبية بالمقاييس المغربية والعربية، فهي ليست مغربية ولا هي عربية كما تسمى قسرا إنها "صحيفة القصر الملكي السعودي" وكذب من ادعى عكس ذلك.وطبعا غير خاف أن بن عيسى متغلغل في تلك الصحيفة إلى الجذر بحكم علاقاته غير العادية مع محيط فيصل بن سلمان آل سعود، صاحب الصحيفة.وبالتالي فإن "أي كلام" منه مرحب به، بالشدة والفاصلة. ألم يكن ممكنا، لو كان ضروريا، أن ينشر مقال الوزير في صحيفة مغربية؟ لماذا التوجه إلى الأجنبي في مناسبة وطنية؟ إنهم يخاطبون الداخل من خلال الخارج، تماما كمن يستعير لغة أجنبية ليتحدث إلى المغاربة عن فرائض الوضوء.عجبا.لكن العجب قد يزول إذا علمنا أن عددا من كبراء القوم، "كبار فاش"؟، الله أعلم، يتشبهون لا شعوريا بملك البلاد الذي تحدث إلى الآن إلى وسائل الإعلام الأجنبية فقط، ولم يتحدث قط لأي منبر إعلامي مغربي ، وهي المسألة التي ما فتئ كل من صاحبي "أخبار اليوم" "الأيام" إما يطالبان بها أو يلمحان إليها بمناسبة وبغيرها، وكأن كلا منهما يعتقد أنه الوحيد من بين قبيلة إعلاميي المغرب، من يستطيع ويستحق أن يجالس ملك البلاد ويحاوره. حلم مشروع على أية حال. لنعد إلى ما كتبه بن عيسى بدأ الوزير الكاتب حديثه بتعبير "لا جدال" وهذا أسلوب غير موفق بالمرة، لأن استهلال الكلام باليقينيات يقطع على القارئ رغبة متابعة المقال إن لم يقلب الصفحة.أراد تذكيرنا بأن ملك المغرب زعيم شاب،والحقيقة أن محمدا السادس في أوج عمر الرجولة، ولا أدري سر الإصرار على نعت الشاب، مثلما الإصرار على أنه ملك الفقراء، وكأن ثمة رسالة ضمنية أننا شعب فقير، وأن الملك لا يستحق أن يكون ملكا لشعب ليس فيه فقراء أو به فقراء أقل.ثم انتقل بن عيسى ليتحدث عن "الجدة" وتراث الماضي، وهو بذلك يريد أن يؤشر إلى الأصالة لكن ربما تحاشى اللفظة، لئلا يقول"أصالة ومعاصرة" ويلامس إسم حزب، لا أدري إن كان هو الأخر سيظل منعوتا ب ب"الوافد و"الجديد"، ولو بعد مضي عقد أو أكثر على تأسيسه؟ وبحس الذي لا يريد أن يتورط في أي تقويم كتب بن عيسى " ولست هنا بصدد تقييم العشرية الأولى من العهد الجديد" قبل أن يترك المهمة التي خشي الخوض فيها "لمختصين في شتى المعارف المتصلة بتحول المجتمعات وضبط آليات تطورها"..ثم يصل الكاتب إلى بيت قصيده حينما يقول إنه حظي بشرف العمل إلى جانب جلالة الملك ما يقارب ثماني سنوات، بعد أن ذكر بمقومات السياسة الخارجية للمملكة.طيب، القاصي والداني بات يعرف الأسلوب الديبلوماسي المغربي غير المتسرع، ما الجديد في الأمر؟ اللهم إلا إذا كنت تريد أن تفرغ في ذهب القارئ الانطباع بأن "رزانتك وحنكتك وتجربتك التي لا يشق لها غبار" كانت خير معين للملك على تطبيق السياسة نفسها في شتى قضايانا الوطنية! بينما القارئ المغربي، جمهورك المفترض، الذي اخترت أن تخاطبه من خلال صحيفة لا يقرأها أصلا، ولك أن تسأل شركة التوزيع لتعرف أني لا أطلق الكلام على عواهنه، يريد أن يعرف حصيلتك أنت: ماذا قدمت للمغرب من فتوحات ديبلوماسية؟ ما هي الخدمات التي أدخلتها على سفارات وقنصليات المملكة في الخارج؟ كم من اختراق حققت في مجالك الذي عمرت فيه سنوات طوالا؟ ما هي شهادتك على عصرك؟ ما هي إخفاقاتك، ولم أخفقت؟ كم صرف على رحلاتك المدفوعة من جيوب المواطنين؟ كيف يمكن جعل الديبلوماسية في خدمة الاستثمار؟ فيم يمكن أن تفيد المغرب إن كانت لديك تجربة وعلاقات دولية واسعة؟ لماذا أصبحت في وقت معين وزيرا للغولف فقط..نورنا نور الله مهرجانك كل سنة بميزانية سمينة وأضواء ومزيد من البناء والتشييد وقليل من مثقفي "المقاس الفكري" "الزاردين" فينا سنويا مثل سمير "ما" عطا الله غير أمثالو، الذين لا يفوتون فرصة لكيل المديح لشخصك. لقد كان بإمكان بن عيسى أن يبارك لملك البلاد عيد الجلوس على العرش بطريقة يسلكها كثير من الشخصيات والمؤسسات بالاقتصار على نشر تهنئة أنيقة في صحيفة وطنية (بنت البلاد يعني مشي خليجية) بدل كلام كثير عن الديبلوماسية ونزاع الصحراء والحكم الذاتي والنزاع العربي الإسرائيلي والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية و "الجدة" والقطيعة والحكامة الجيدة...إلخ الشخصيات "الكبيرة، ولا كبير غير رب العالمين، عندما يكتبون يكون لكتاباتهم ردود فعل كبير وأحيانا عاصفة أو مزلزلة. كم كنت سأسعد لو أنك كتبت شيئا رصينا غير مألوف من ديبلوماسي تقاعد وظيفيا ولم يتقاعد فكريا، شيء ما يشرفك ويشرف مناسبة المقال. لكنك خيبت ظني حينما لم أجد إلا ثلاثة قراء فقط من عقبوا على ما كتبت. السيد بن عيسى، كل ما نرجو منك هو أن تريح وتستريح.أترك العهد الجديد لأصحابه وسلم المهرجان لطاقات مدينتك وبلادك لأن لديهم ما يقولون ويفعلون بربع ما بين يديك من ميزانية، واسترح من كرسي بلدية أصيلا رعاك الله. وإلى سنة مقبلة ومهرجان قادم نراك فيه من المكرمين..وإلا سأضطر للدعاء عليك بهزيمة انتخابية نكراء يلحقها بك خصمك اللدود، الذي يهوى السمك اللذيذ، صاحب باب "البحر وعجائب الأعماق" الإعلامي المحبوب الذي لم نرك يوما قد التفت إليه في مهرجانك، العلامة في ميدانه محمد البوعناني، أطال الله في عمرك حتى تصالحه وتكرمه، وبارك في عمره حتى ينور جيل صحافيينا الشباب بتجربته الفريدة. آمين. [email protected]