ابتدأت الأستاذة نجاة المريني، محاضرتها بالتأكيد على أن الحديث عن السلطان بن يوسف (محمد الخامس فيما بعد) بمناسبة سنة محمد الخامس، يقتضي وقفات متأنية عند مساره السياسي والاجتماعي والتعليمي في ظروف صعبة لم يكن تجاوزها أو التغلب عليها بالأمر الميسر السهل، فالاستعمار الفرنسي المتسلط يحول بين أي مشروع هادف إلى الإصلاح والارتقاء بالبلاد، يستغل الخيرات ويحارب المناضلين من أبناء الوطن، ويزج بهم في السجون كلما طالبوا باستقلال بلادهم، يزرع الفتنة في صفوف المغاربة بقوانينه الاستعمارية ويعمل على التفرقة بينهم في الحاضرة والبادية، وبينهم وبين سلطانهم كلما حزب أمر أو اشتدت أزمة بين رجال الحركة الوطنية وبين المستعمر. كان محمد بن يوسف رجلا وطنيا، متبصرا حكيما، أخلف الموعد مع المستعمر، فوطد العلاقة بالوطنيين منذ اعتلائه العرش، وأنصت إلى صوتهم ووجه إليهم النصيحة وهم يطالبون بحقوقهم، فإفشال الخطط الاستعمارية بالدهاء والحكمة مبدأ لا خلاف حوله، والتنسيق بين السلطان والوطنيين ضربة موجعة للمستعمر، كللت بتحقيق الاستقلال وعودة السلطان إلى عرشه بعد فترة نفي قاسية. ولعل محور الندوة اليوم يقتضي الحديث عن ريادة السلطان محمد بن يوسف في ميدان التربية والتعليم، وعن الخطوات التي قطعها لتحرير المرأة المغربية من الأمية والجهل في فترة حاسمة من تاريخ المغرب، فالإيمان بتعليم المرأة المنطلق والهدف، وتشجيع الوطنيين على إنشاء المدارس الوطنية الحرة لتعليم الفتاة مرمى ذلك، يتوجها تكليف سمو الأميرة للاعائشة بتدشين هذه المدارس في كثير من المدن المغربية منها مراكش والدار البيضاءوفاسوسلا والرباط وغيرها من المدن منتصف الأربعينيات، إضافة إلى ذلك فإن جلالته وافق على أن تحمل تلك المدارس اسم الأميرة للاعائشة دون تردد، ومن ثم التحاق الفتاة المغربية بالمدرسة منذ أواخر الثلاثينات يؤكد ما كان للصحوة التعليمية النسائية من ادوار فيما تعيشه المرأة المغربية اليوم، وقد حققت طموحها، وأثبتت وجودها على جميع الأصعدة. يسجل للسلطان موقفه من قضية تعليم المرأة بمداد الفخر في تاريخ المغرب منذ 1943، فقد انتصر لها ودعا إلى تعليمها وأعطى المثال ببناته الأميرات، ودعا إلى تكوين لجنة خاصة تنظر في موضوع تعليم الفتاة، جاء في تقريرها المرفوع إلى جلالته بقلم الأستاذ المهدي بنبركة : « أصبح من الضروري تعليم الفتاة المغربية، لإصلاح حالها، وتكون عاملا قويا في رقي مجتمعنا وسعادته،،، إننا نود أن تصبح في القريب العاجل لأسرتها خير مثال يحتذى ولزوجها أحسن مساعد مستشار، ولأولادها أكبر مرب خبير. (مدرسة النهضة للأستاذ أبي بكر القادري ص 92). كان محمد بن يوسف يرى في تعليم الفتاة إصلاحا لخلل دام فترات طويلة، وعندما عمل على إلحاق بناته في المدرسة للتعلم اختار لرفقتهن فتيات من طبقات اجتماعية مختلفة، ولعل السؤال الذي أرقه كيف ستتاح للفتاة المغربية الفرصة للالتحاق بالمدرسة؟ كيف سيحقق ذلك؟ لذا كانت الخطوة المرتقبة وهي خطوة موفقة أن يؤسس لجنة علمية تدرس موضوع تعليم الفتاة، وتقترح حلولا ناجعة لنجاح تلكم الدعوة كما سبقت الإشارة إلى ذلك. إن نجاح اللجنة الوطنية المكلفة بالنظر في قضية تعليم الفتاة، أتى أكله بفضل الرؤية الصائبة لجلالة السلطان، وبتشجيع منه للإقدام على إنشاء المدارس الخاصة بتعليم الفتاة على ربوع الوطن، لم يتأخر عن الاستجابة لرجال الحركة الوطنية الذين تهمموا بالموضوع وعملوا على إنشاء هذه المدارس، بل أكثر من ذلك أمر فلذة كبده الأميرة للاعائشة بتدشين هذه المدارس ووافق على إطلاق اسمها عليها تأكيدا لتبنيه الموضوع ضدا على صاحب كل فكر متحجر وعلى المستعمر الذي رأى في ذلك منطلقا لثورة تعليمية تصحيحية ولنهضة فكرية مرتقبة. مضيفة، أنه تأكيدا لهذا الموقف الذي سيحرر الفتاة من كابوس الجهل، تأتي أوامر السلطان بتكليف الأميرة للاعائشة (ابنة السادسة عشرة) بتدشين مدارس تحمل اسمها لتعليم الفتيات، وهي لا تكتفي بمراسيم التدشين بل تسجل في خطب مضيئة ألقتها بالمناسبة، ما ينتظر الوطن من المرأة بعد تحريرها من ربقة الجهل من أدوار في بناء المجتمع. ولقد توقفت بتفصيل الدكتورة نجاة المريني عند مقتطفات من تلك الخطب التي ألقتها سموها بين سنتي 1946 و1947 بمدينتي سلاوطنجة، (وقد سبق للأميرة أن ألقت خطابا في أكتوبر 1946 بمدينة فاس، حول نفس الموضوع، لكنني لم أحصل على هذه الخطبة إلا صباح هذا اليوم، فلم أتمكن من إدراجها). معتبرة أن كلمات الأميرة الشابة (1930 - 2011) كانت ذات أبعاد اجتماعية وتعليمية، لم تكن لتؤمن بالرسالة لو لم تكن تربية الأب وتوجيهه الصارم في تكوينها وشقيقاتها حافزا على مثل هذا الخطاب التنويري، ودعوة إلى الجميع آباء و مسؤولين للعمل من أجل انعتاق الفتاة من الأمية والجهل، والأوهام والخرافات، فالأب/ السلطان بحق هو رائد تحرير المرأة مما كانت تعيشه من قهر وتسلط وإبعاد، وكانت ابنته الأميرة لسان حاله في حضورها وخطابها. ومن بين أهم تلك الخطب في نفس السنة أي بتاريخ 10 أبريل 1947، خطاب سموها بطنجة، بمناسبة الزيارة الملكية لمدينة البوغاز، التي قالت بخصوصها الباحثة نجاة المرين: «هي زيارة أرعبت المستعمر، ومن خلالها نلمس اللحمة القوية التي كانت تربط السلطان بمواطنيه، إذ ألقى جلالته خطابا قويا أكد فيه أنه «جاء ليتفقد شؤون طنجة وكل أرجائها» مؤكدا وحدة المغرب الترابية، وبذلك فهو يعمل على زيارة العديد من المدن المغربية ويشملها بعنايته، وطنجة «باب تجارة المغرب ومحور سياسته وعنوان محاسنه الوهاجة» كما جاء في خطابه التاريخي، وكان خطاب الأميرة للاعائشة يوم 11 أبريل بطنجة، دعوة صريحة إلى العمل الجاد للخروج من طور الخمول والكسل إلى طور النهضة والانبعاث، «فعصر النهضة شباب الأمة، فيه تبني مجدها بنفسها، وفيه تؤسس عزها بعملها، وفيه تنظر إلى حاضرها بعزم وإلى مستقبلها بتفاؤل «(الذكرى الخمسون لزيارة طنجة التاريخية/جمعية إنماء إقليمطنجة / ص 55)، والتعليم هو حجر الزاوية للنهضة المرتقبة، وللتمثيل لذلك تستعرض الأميرة مراحل من حياة السلطان مولاي الحسن الذي دعا إلى التسلح بسلاح المعرفة فأرسل البعثات الطلابية إلى أوربا للتعلم واكتساب الخبرة والتعرف إلى الوسائل العصرية للمدينة الغربية والاستفادة منها، لكن حربا خفية حالت بينه وبين جني ثمار الجهود التي بذلها لنهضة علمية شاملة». لقد كان اهتمام السلطان بالبنات المغربيات كبيرا (تؤكد المريني) ولا أدل على ذلك من مثل هذه الخطب المشار إليها، إذ كانت المبادرة بالدعوة إلى تعليم الفتاة صرخة مدوية لتغيير العقليات وتفتيح الأذهان على تمتع الفتاة كما الفتى بحقوقها في التعلم والتثقيف، فإن ترقى الأمة إلا بالتعليم، ولن تنهض إلا برجالها ونسائها، لذلك تختم الأميرة خطابها بما ينتظره السلطان من بنات المغرب، تقول : «سيدنا ينتظر من جميع نساء المغرب أن يواظبن على الجد في التعلم والاجتهاد في الرقي، إذ هن خير مقياس على نهضتنا، وحضارتنا، وأفضل ضامن لتوالي صعودنا وارتفاعنا» (نفسه ص60). يتضح من خلال هذه الخطب ما كان يسعى إليه السلطان بلسان ابنته من تخويل الفتاة حقا مهضوما سلبته، فدافع عنها لتدرس وتتعلم، وانتصر لقضيتها منذ أزيد من ستين سنة، فكسبت المعركة وحققت وجودها، إن ما تعرفه المرأة المغربية اليوم من حضور وتألق وما حققته من مكاسب سياسية وعلمية وثقافية فإن الفضل فيه للسياسة التعليمية النيرة التي حرص السلطان محمد بن يوسف على تطبيقها، وإلى الأميرة للاعائشة باعتبارها لسان والدها في خطبها المتعددة في كل مدينة زارتها ودشنت بها مدرسة باسمها. مختتمة مداخلتها القيمة، بالتأكيد على أن المناسبة تدعو إلى الاقتراح الآتي: «العمل على جمع خطب الأميرة للاعائشة بمناسبة افتتاح المدارس التعليمية للبنات والتي أطلق عليها اسمها في المدن المغربية وهي كثيرة، ففي هذه الخطب توثيق لتاريخ التحاق الفتاة المغربية برحاب المدرسة الوطنية في الميدان، ومواكبة ابنته الأميرة للاعائشة لخطوات تأسيس المدارس الخاصة بالفتيات وتشجيع الأسرة المغربية على خوض معركة نضال تحرر الفتاة من كابوس الجهل، بعزم وحزم». (*) أستاذة جامعية