هو مبدع غني عن التعريف، ميسم فعله الإبداعي التعدّد والتنوع وتلوين المهام، عُرِف شاعرا وصحفيا جذبته دهاليز المقاربات السياسية بالأساس. أصدر سنة 1987باكورة مجاميعه الشعرية تحت وسوم : «ما قاله السّيف العراقي» و بعد ما يقارب العقد ونصف من الزمن «رحيل إمرأة اللّوتس» ليوقّع سنة 2010 ديوان « البحر ليس اسمي» ومن ثم يطالعنا سنة 2014 بطواسينه كشاعر فذّ ما لبث يصقل ويطوّر آليات تعاطيه القصيدة بوصفها أسلوب حياة، ومرآة عاكسة لراهن ابتلاع إنسانية الكائن ، المنجز الرّابع الذي سعى من خلاله الجبوري إلى ما يحاكي اجتزاء سيرة الرّموز الخالدة في عوالم التصوّف والحكمة ونورانية الحرف، موروث الحلاج بدرجة أولى، عبر إضمامة» طواسين ليست للحلاج» . أما أخيرا وليس آخرا ، الإصدار الذي سجلّ فيه شاعرا انقلابا بالكامل على جملة من النظم والتقاليد التعبيرية التي أثثت سابق مجاميعه، جاءت « تلوّح لي بشالها الأبيض» معلنة صيحة مدوية في جغرافيا المغاير الشّعري ، ناهيك عن بضع مجاميع أخرى مشتركة مع أدباء نينوى.
ننطلق من جيوب المعمعة وأدغالها ، محاولين الحفر قدر الإمكان في واقع جحيم العرب، إلى أيّ حدّ، شاعرنا، ثوّر مثل هذا الاشتعال موجة إبداعية جديدة تنزع صوب كتابة المرحلة بالدم..؟ الواقع العربي الذي تعيشه الأمّة ، هو الأسوأ عبر تاريخها الطويل، لشدة حلكة أيامه، وحجم المؤامرة التي تعرضت لها ، من خلال الاحتلال الامريكي للعراق الذي بني على أكاذيب وادعاءات ثبت بطلانها ، وهكذا ما حصل في مصر وتونس وليبيا تحت يافطة وكذبة الربيع العربي، من عمق هذه الكارثة ، ينهض الشاعر والمثقف والفنان ليرسم صورة الواقع بكل تفاصيله المأساوية ،لينقل للأجيال بشاعة الواقع الذي عاشته الأمة ، وهكذا شمرت القصيدة واللوحة والمسرحية والكلمة عن ساعديها لتقول كلمتها بوجه البشاعة والظلام والقتل والقهر والحرمان …نعم كانت حروف قصيدتي تقطر بالدماء الطاهرة الزكية لشهداء بلدي ،وكانت القصائد شاهدة على القاتل … كيف تكون القصيدة ثمرة الخراب؟ تكون القصيدة ثمرة ذلك الخراب الذي أحدثه الاحتلال البغيض لبلدي، حينما تكون القصيدة مرادفة للرصاصة، بل صوتها ولمعانها وهي تخترم خاصرة العدوان ،عندها تنضج ثمرة ذلك الخراب العجيب وتنطفئ جذوة المطر، القصيدة أراها المعادل الموضوعي للخراب ، وثمرته تتماهى مع قطرات دم الشهيد لتورق وسط عاصفة الحرف وهو يضرب سواحل الندم ، ليبني صرح الذات وتندمل المراثي، هكذا تنمو أعشاب الخراب على كف الزمان ليختصر الدماء النازفة بوضح النهار، فلا نهار بلا كوة ضوء تنطلق منها عصافير الرحيل الى مرسى القوافل الذاهبة الى فردوس العذاب. غالبا ما يكون المنبت بشتى تفاصيله وحيثياته الملهم الأول الذي يثري مخيلة المبدع، مؤهلا إياه لصياغة رؤى مقبولة تجاه الذات والغيرية والعالم والحياة، ما دور أماكن عراقية بالتحديد دون غيرها،في اختزال ذاكرة شاعرنا وهكذا رفع منسوب حضورها في كتاباتك..؟ المكان يعني عندي بوصلة الرؤى، وذاكرة القصيدة ، ويشكل لي هاجسا أزليا في البحث عنه ،وملاذا لا غنى عنه ، تنصهر فيه هواجسي، وتنمو على نوافذه قصائدي، وتشرق من شبابيكه أيامي ، لذلك ترى في كل قصائدي ومجاميعي الشعرية يؤرقني المكان ويأخذا حيزا كبيرا في تراتبية قصائدي، أشعر بالأمان حينما أذكر المكان ، اعتبره خزان ذكرياتي وبؤرة ارتكاز روحي المترعة بالواقعية التي دائما ما ترسم لي صروحا من الاحلام والامكنة المؤثثة بالحروف وأشجان الزمان، المكان هو بيتي وذاكرتي، وكل ما تقرأه في قصائدي له موقف وله محطة ولها انطلاق وله ذكرى وله محنة وله كبوة وله أزمة ، لايوجد اسم لمكان في قصائدي ليس له مدلول وشاهدة ، وليس له رؤية أبصر من خلالها حلكة الطريق المليء بأشواك واشواق القدر المكان هو أمي وأبي باختصار. هل مرّت بك لحظات استشعرت فيها أن القصيدة إحدى نقاط ضعفك؟ القصيدة بحد ذاتها هي ضعفي الذي يعيش معي، وينام معي، هي قلقي المزمن والمرتجف أمام الأنثى، وهي تكتب القصيدة بإزميل صوتها ودقات نبضها ، وتفلي حروفي كل صباح ، لهذا هي نبضي، ومشكاة روحي، التي يشعلها بريق القصيدة كل يوم، فتراني أكتب كلما كانت لحظة الكتابة موغلة في الحزن، وموغلة في الضعف ، فهي ترتبك كغصن تضربه عاصفة بلا رحمة ويوقظه وجع البحر. همّ الاغتراب، أأضاف إلى تجربتك ما كنت تصبو وتطمح إليه؟ بلى ، الاغتراب حول قصائدي الى عاصفة هوجاء في مرمى الشعر، وفجر ينابيع الشوق للحبيبة والوطن ، وصير كياني وجعا تتلمسه النجوم، الاغتراب بنى لي بيتا آخر هو –تلوّح لي بشالها الابيض- الذي زرعت فيه روحي على ضفة البحر الابيض المتوسط ،وهي تلوح لي بشالها كل يوم، حتى انطفأ قمري القتيل على نافذتها ، ونما عشب حزني تحت إبطيها حقولا من الهمس والكلمات ، الاغتراب محطتي الثانية نحو قلبها المليء بالفرح ، وسجن روحي البعيد عن الوطن . في مضمار التجريبية المعهودة فيك، يهيمن على أجدد إصداراتك،» تلوّح لي بشالها الأبيض»، توجّه يسرف في خيانة البياض، فواصل لاهثة متماهية مع حمولات الإيقاعات المتقطّعة والوالجة في فسيفساء واحدة ونفس عميق ممتدّ جدا، وكأن الظاهرة أشبه بانفجار مباغت قادر على تلوين خارطة ما بعد نقاط الحذف، بعد خمود فوبيا الغبن الذاتي. هذه « المقامرة» أو سمّها كما شئت، أفي استطاعتها زعزعة وعي المتلقّي الذي اعتاد اختصار القول الشعري في نظرة محافظة ، تقزّم السّطر وتذوّبه في كلّ أو وحدة وكتلة كلامية متضاربة أو متكاملة الأغراض..؟ المغايرة والسباحة ضد التيار والتجريب هو في جوهره محاولة لإعادة صياغة شكل القصيدة ورؤية القصيدة ، ومسك النص من تلابيبه الى مرعى آخر يغترف منه ديمومة الحرف وعصيانه، نعم قامرت في كسر جمود التقليد الشعري في تجربتي ، وحملت صليبي الى جلجلة لا يطالها إلا الشعر بكل تجلياته، غادرت حقول الشعر وركبت عواصفه ، ليكون الانحراف نحو سواحل غير تقليدية كانت تقيد حروف بسلاسل من وجع الفكرة، وقيد الوزن وايقاع الشعر تاركا النمطية تتعثر في مشيتها ، لهذا التجأت الى فضاء بلا سياج ، وقصيدة بلا فواصل، وايقاع مثقل بالانحراف، مشتبكا مع انزياح مقلق ،فولدت نصوصا بيضا ، خالية من بياض الورق الى بياض القلق ، سمها مغامرة لا مقامرة ، إتكأت فيها على زمكانية الليل المشتبك مع سماء الشعر ، لهذا اتباهى بشالها الابيض وهو يلوح لي منتشيا على ضفة المتوسط ، ماسكا أهلة المطر بكلتا يديه …إنها جمرة الشعر التي تطوح روحي بشوق اللقاء ومطر الدهشة ، وسورة ذلك الخراب الذي كنته . لحدّ الآن، هل قدّم الإبداع عموما، المطلوب منه في مواجهة أفكار الإرهاب والتّطرّف؟ مازال الأدب عموما عاجزا عن مواجهة إزاحة شبح الارهاب وسطوته وقطع شأفته في الساحة الادبية العربية ، ولكن الاديب العراقي ، يسير نحو تعرية الفكر المنحرف له وفضحه بعد هزيمته عسكريا ،وهذا ما تؤكده عشرات الاصدارات في حقول الرواية والشعر واللوحة التشكيلية والمسرحية ،في نينوى تحديدا بعد هزيمة الارهاب ودحره الى الابد ، وما الفعاليات الاسبوعية لنشاطات ومهرجانات وندوات كلها تعلن رفضها ومحاربتها للفكر الداعشي الارهابي وهذا مؤشر طبيعي لما عاشه الاديب والفنان والانسان تحت نير وظلم وسيطرة تنظيم داعش لثلاث سنوات شديدة القسوة والوحشية………………… » ليلاك» مثلما تشي بذلك شعريتك ، تعكس إلى حدّ بعيد، معاناة مضاعفة، ما تنفكّ تسكبها في روح نصوصك، وتبصم بها حبكة النّص المفتوح والمُنوِّع على دوال المزاوجة وأحيانا المراوحة ما بين الحالة الإنسانية و حسّ الانتماء، بودّنا أن تقرّبنا من كهذه صورة أكثر..؟ ما يؤرقني في القصيدة التي تشكل – ليلاي- دائما ثيمتها هو قسوة البوح ، التي تفرض سطوتها في إعلان ما لا يمكن اعلانه ، لهذا تكتبني القصيدة بكل طقوسها وترسم اشكالا على جسد الشوق لا أستطيع كبح جماح ما يتساقط منها على روحي من انثيالات وهواجس واوجاع لايعلماها الا الله انا حقيقة أكتب بإزميل الوجع لا اكتب بالقلم وهكذا أتجرع كأس الحرف شعرا صادقا يعبق بالنسيان وينصهر في بودقة الزمان . هل غدا الشعر، وهو المتقلّب في تمظهرات قصيدة النثر،تشوكه ،حتّى لا أقول تحاصره، تحديات الهايكو، طاوية، أي قصيدة النثر، لشحناء العامودي والتفعيلي، وبات مُغذَّى بمزيد من المقوّمات وملامح القوة التي تخوّله إنقاذ الذات والعالم وجلب الخلاص لهما ..؟ الشعر في كل تقلباته، وتمظهراته ، يبقى شعرا بكل تجلياته ، ومهما عصفت به الاشكال والالوان والاجناس الشعرية ، والهايكو تجنيس آخر عصف بجسد القصيدة وبصم بإبهام الحرف ليكون قنديلا لخريطة الشعر، ولكنه لايلغي ما تجذر من روح الشعر وناره التي لاتنطفئ جذوته. فالنثر المركز شكل أثبت حضوره الطاغي في سفر الابداع وفرسانه مازالوا يشعون في واجهة المشهد الشعري كما العمودي ومنصات الشعر تعلن ذلك يوميا ، وموجة الهايكو عاصفة تمر بهدوء ولكنها تترك بصمتها بوضوح وتأنٍّ. ختاما، كيف يقتطع المبدع عبد الجبار الجبوري من وقته و يتسنّى له حظ تركيز جهوده في ما يشبه صناعة توأمة ما بين الانشغالات السياسية والممارسة الشعرية، دون أن يقع في جلْد الذات،بشكل أو بآخر..؟ أنا لا أفصل انشغالاتي سواء الأدبية أو السياسية، لأنها تتواشج وتشكلان واقعا مفروضا علي ، ولكني حين أكتب الشعر أخلع عباءة السياسة ، وأرميها على مصطبة بعيدة عن خيمة الشعر وهيبته كي لا تتلوث حروفها من أدرانها، وأكتب القصيدة بعيدا عن دوخة السياسة وأوجاعها وأكاذيبها وحبائلها، لأدخل في قداس الشعر وبهائه ونقائه وقداسته التي أكون فيها راهبا …القصيدة تشذب روحي من درنات السياسة وتغسل أوجاعي بماء الكلام .