-1- أما و قد تزحزحت، أو تكاد، أوتاد المعادلة التاريخية التي ستتمفصل جرّاءها الجغرافيا الإبداعية والثقافية العربية إلى مركز، نواته الصلبة كلّ من مصر و الشام و العراق، و محيط، تنضوي إليه باقي الأقاليم العربية، فليس من المستغرب أن تشهد منطقة الخليج، و منها السعودية، دينامية إبداعية و ثقافية لافتة لا تتوانى ثمارها عن اقتحام سوق التداول القرائي العربي و الدّفع، بالتالي، في اتجاه معاودة النظر في جماع من المسبقات النقدية و الإعلامية التي يا ما تكرّست عن مجريات الشأن الإبداعي و الثقافي هناك. و لعلّ نظرة خاطفة، لكن نزيهة، على متحصّل العناوين الشعرية، ما دام الشعر هو ما يعنينا، بالدرجة الأولى، في هذه الورقة، التي انفرز عنها العقدان الأخيران في الأدب السعودي المعاصر لتكفل التقاط ضرب من حساسيّة شعرية مائزة، و خليقة بالإنصات و المساءلة لكونها تشي بجملة من التّحققات النصّية و الجمالية و التّخييلية و المراهنات الرؤياوية كذلك. و إذن، و في الوضعية الشعرية السعودية تخصيصا، إن نحن حاولنا تشخيص مؤشّرية التّحول الشعري الذي تمخضّت عنه هذه الوضعية فلا محيد لنا عن تسجيل الانعطافة القوية و الملموسة التي سيعرفها النص الشعري السعودي بدءا من تسعينيات القرن الماضي و ذلك تتويجا، إن شئنا، لسيرورة شعرية كانت واعدة، رغما من ضغوطات التقليد الشعري في بيئة محافظة كالسعودية ممثّلا في النموذجين، العمودي و النبطي، بأفق حداثي أكثر صدقيّة و مندغم، بقوة الأشياء، في الأفق العام للشعرية العربية المتأخرة و المنحازة، على نحو شبه كلّي، إلى خيار قصيدة النثر. هذا و إذا ما كان لجيل الثمانينيات أن يمهّد، تاريخيا، لهذا الأفق و يؤمّم، لقاء هذا، كامل الحدب و العناية النقديين فإن حرب الخليج الثانية و الانفجار المعلوماتي الكاسح و كذا الهبّة الروائية، النّسوية بوجه خاص، بما هي علامات فارقة للعقد التسعيني، لسوف تسهم في إطلاق مخيّلات شعرية أكثر فتوّة أو، بالأحرى، جذريّة، في المشهد الشعري السعودي مسنودة، ما في ذلك شك، سواء بما انتهى إليه جيل الثمانينيات من مقترحات و إبدالات كتابية لا يمكن التهوين من إجرائيّتها أو بما تشبّع به أصحابها من خبرات و تمرّسات سوف تتيحها موالاتهم اللاّمشروطة لتجارب شعراء عرب كانت لهم أدوارهم الناجزة في إطار قصيدة النثر، من أمثال عبد القادر الجنابي، سركون بولص، قاسم حداد، عباس بيضون، ويع سعادة، بول شاوول، عيسى مخلوف، بسّام حجار، و زاهر الغافري..؛ زد على هذا الحافزيّة الأدائية و التعبيرية التي ستمدّهم بها فنون بصرية كالسينما أو سماعية كالموسيقى و انشحاذ ذهنيّيتهم الجمعية بمضامين مصنّفات طليعية في الآداب و الإنسانيات. من هؤلاء الذين تضافروا، كلّ و مؤهّلاته و إسهاماته، على اجتراح هذه الانعطافة يوسف المحيميد، غسان الخنيزي، علي العمري، أحمد الملا، أحمد كتوعة، عيد الخميسي، سعود السويداء، حمد الفقيه، و عبد الله السّفر..؛ مختارين، هكذا، ملازمة «.. الظّل و كان شعرهم في الهامش. حضور طفيف و انصراف تامّ عن ضجيج المشهد و تدافعاته. رحابة من الصمت تنأى عن الضوء و الضوضاء..»i لكن، و في مقابل تعاطيهم الهادئ، من غير ما هرولة قاتلة، مع مشروعهم الشعري الوليد، كانوا أيضا حريصين، شديد الحرص، على جعل كتاباتهم «.. متموضعة في سياق مرن يستجيب و يستضيف إلى التجربة بعيون مفتوحة، و حساسيّة فائقة؛ كثيفة الحضور، مشرعة على التحوّلات، صيرورتها التي تعيش العالم و تعبّر عنه دون انقطاع أو شبهة عزلة (...) ربّما تكون هذه التجربة الآن في منطقة الهامش و ما هو معدود من الخارج على الإطار، إن لم يكن منفيّا من سماء الكتابة، مطرودا من ملكوتها، غير أن هذه الهامشيّة و ذلك النّفي هو ما يمنح التجربة الأفق الذي ترتجيه؛ المحفزّات التي تطلق الممكنات و تكشف عن روح المغامرة و تزرع الحريق في عصب الحرف»ii . -2- في هذا الإطار، إذن، يأتي العمل الشعري الجديد لعبد الله السّفر (منشورات نادي المنطقة الشرقية الأدبي، الدّمام 2007)، و لو بمسافة زمنية متباعدة عن عمله الشعري التّدشيني «يفتح النافذة و يرحل (1995) بما يزكّي منزع التّؤدة و عدم الاستعجال الذي يصدر عنه شعراء الجيل، بغيتهم الكيف و ليس الكمّ، لكن رغما من هذه المسافة ف «.. للكتابين روح واحدة و نفس طليقة، و إن كان الأول غرف من انفعال و حماسة اكتشاف القول و الكتابة النثرية في تسعينيات القرن الماضي فإن الثاني معجون و مختمر بخميرة الأول و يعبق برائحة حداثته. و إصدار كتاب نثري لشاعر احتضن قصيدة النثر و شغف بها سابقة من نوعها في الأندية الأدبية السعودية»iii، لذا فهو يشكّل، و الحالة هذه، نوعا من قيمة مضافة مثنّاة، لمنجز الشاعر الشخصي و كذلك لمتراكم المشروع الجمعي الذي ينهض به جيل التسعينيات السعودي. يحتوي الديوان، الذي جاء في هيئة أنيقة و قشيبة من القطع الصغير، على قصائد هي كالتالي: «عبير النعناع»، «يخلون سرير محبّتهم»، «ها أنت على المشارف»، «المنسيّ في دفتره وحيدا»، «تسديدة الألم في مرمى الأحبّة»، «الجرّة»، «خطفة برق الغائبين»، «نغمة في خافت الضوء»، «مشاهد»، «مضيق»، «الرائحة»، «زهرة تفتّحت في روحي»، «رماد يعلو»، «أطار السّدادة»، «يختنق وحده»، «ربّما نبّهتهم أعضاؤك»، «قدم تعارك الأحلام»، «اعتكار»، «فيما العين تشيخ»، «ذئب يعرج في قرية نائية»، «الجشة.. هشيم المكان». و إذ تتراوح الحجوم النصّية للقصائد بين الطول الذي تمثّله قصائد: «عبير النعناع»، «يخلون سرير محبّتهم»، «ها أنت على المشارف»، «المنسيّ في دفتره وحيدا»، «تسديدة الألم في مرمى الأحبّة»، «الجرّة»، «خطفة برق الغائبين»، «نغمة في خافت الضوء»، التي تنشطر، لمركّبيتها النصّية، إلى مقطعين اثنين مرقّمين و معنونين: 1 ? الغرق.. 2- نواح، «مشاهد»، القائمة، هي الأخرى، على ثلاثة مقاطع مرقّمة و معنونة: 1- ابتلاع.. 2- ذوبان.. 3- تفكّك، «مضيق»، المتفرّعة، من جهتها، إلى مقطعين اثنين مرقّمين و معنونين: يغطّ في الخزف.. 2- ريحان، «الرائحة»، الآيلة، بدورها، إلى ثلاثة مقاطع مرقّمة و معنونة: 1- استعادة.. 2- نزاع.. 3- مسافة، انتهاء إلى قصيدة «ذئب يعرج في قرية نائية»، التي تشتغل في منتسجها رباعية مقطعية، غير مرقّمة، تحمل عناوين: الأصدقاء، و لا هم انتبهوا، النسيان، الصديق، و قصيدة «الجشة.. هشيم المكان»، التي ينسدّ بها متن الديوان، و هي، بالمناسبة، أطول قصائده، بحيث تندرج في نطاقها النصّي ثلاثية مقطعية، غير مرقّمة موسومة ب: الأثر.. الجشة، بحثا عن، تركوه مأهولا بالحنين، و التوسّط الذي تؤشّر عليه قصائد: «زهرة تفتّحت في روحي»، «رماد يعلو»، «أطار السّدادة»، «يختنق وحده»، ثمّ القصر الذي تسفر عنه قصائد: «ربّما نبّهتهم أعضاؤك»، «قدم تعارك الأحلام» (جدّ قصيرة)، «اعتكار»، (جدّ قصيرة)، و أخيرا «فيما العين تشيخ»، و لكأننا بذبذبة الكتابة في الديوان تعلن عن محايثتها من خلال نفس مديد، انفجاري، في مفتتح الديوان، ثم تنحو، بعدها، نحو الاعتدال، فالتقلّص و هو يشارف على الانختام ريثما تستعيد تمطّطها السالف، بل و بمقاس أوفى، عند نقطة الختم. و إذ تعرب هذه الحجوم، كما قلنا، عن هذا الملمح البنائي، التعدّدي و المفتوح، فهي تعضّد، متضامّة، البرنامج الدلالي و الرؤياوي الشامل الذي تنتويه الذات الكاتبة و تزمع على تصريفه مفردات و توليفات و ترميزات و إيهامات. و لأن العنوان يقوم، في أيّما نصّ أو متن كان، مقام ميثاق يسعف، بالنظر إلى وظيفته العتبانيّة، و الميثاقيّة ضمنيّا، التي لا غبار عليها، فاعليّة القراءة على تدبّر النص المعنون و فكّ شفراته الساّفرة و المستضمرة فما من شك في أن التقليب الأوّلي لما تقترحه المدوّنة العنوانية من عناوين، سيّان منها العنوان المركزي النّاظم لتجربة الديوان ككلّ أو عناوين القصائد أو المقاطع، لفي مكنته اقتياد القراءة إلى لبّ هذا البرنامج و حيث تستقيم عناصره و قرائنه الإشارية. فمنذ مطلع التجربة تعيّن الذات الكاتبة الفضاء الموضوعاتي الذي ستباشر القصائد، انطلاقا ممّا خوّل لها من أرصدة لغوية و تركيبية و ترميزية و إيهامية، تلوينه شعريا، من خلال وسائط الحكي الشعري و البناء المشهدي.. الاستذكار و الحلم، و تسخيره فيما يعرّي عن رؤيا هذه الذات، التي تنوب منابها الأنا الشعرية الماثلة في عرض التجربة، للأشياء، للآخرين، و للعالم. كذا يفصح مطلع التجربة هذا، أي عنوانها المركزي، عن حدّين مأساويين متصاديين ألا و هما حدّ المأتميّة و حدّ الاغتراب، أو، بتعبير رديف، حدّ الموت، كدليل على هشاشة الكينونة، قابليّتها للتّفتت، و الغياب عن محفل الوجود، ثمّ حدّ الاغتراب، بوصفه علامة على توحّد الكينونة و إحساسها الشقيّ، بله المريع، بانفصالها عن الأشياء، الآخرين، و العالم، و في الحالتين معا يتأكّد لا المصير العبوري أو الإقامة المؤقّتة للكائن في مهاد العالم و لا ضراوة عزلته في فائض ضجيج العالم و اصطخابه الشيء الذي يرتجع بالحدّين، كليهما، إلى حدّ واحد، في المحصّلة، يمكننا نعته بحدّ العدميّة أو الاستقالة الروحية القسريّة من برّانية عالم لا يمنح الأنوات الأصيلة، المتطلّبة، من معدن الأنا الشعرية، سوى الغياب، التّبدد، الوحدة، الوحشة، الألم، المرارة، الحزن، الاختناق، الضّجر، المرارة..؛ أي كل ما من شأنه مصادرة امتلاء الكينونة، أو انبجاسها الصّميم وفقا للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، و الزجّ بها زجّا في مطلق الخواء و اللاّمعنى. إن أنا شعرية موصولة بخصالها الأونطولوجية العالية و منذورة لزمن شعري مستحيل لتنوجد مورّطة في زمن أرضي يقتضي منها اعتناق مواطنة أرضية صالحة و خانعة لا ينغّص عليها قلق كياني خلاّق أو ارتجاج روحي صميم ممّا يصنع وجدان الأنوات الأصيلة، المتطلّبة، مواطنة يتخذ فيها المعيش نكهة موت مقسّط أو، بالأدقّ، دربة على موت عن الآخر لن يفلت ميقاته المرصود، يخبط خبط عشواء في رهافة خزف الكينونة و يعيث فتكا في الأبدان و المهج، أنا شعرية كهاته ليس من مخرج أمامها، إذن، سوى أن تلتفّ على زمنها الصّلد هذا، أن تناوره، امتصاصا منها لسطوته و تجبّره، و ذلك باستلال برهات حميمة، تغمرها الصّداقة الوارفة وتزدهي ببهاء الاستذكار، يؤثّتها الحلم الحبوري و تتدثّر بشجيّ الغناء، تحفر في جسد اليومي، الذي يلبس داخل هذه البرهات الخاطفة لبوسا كونيّا مستعرا، إذ «.. اليومي في قصيدة النثر (...) يمثّل الجوهر و ليس العرض (...) و هو بمثابة ذلك يعدّ مدخلا لقراءة الوجود بالكامل، من زاوية كونه يحقّق مقاربة تقوم على تحويل اليومي إلى كوني و بالعكس»iv ، سبلا بديلة إلى الطّزاجة، الاعتفاف، و المحبّة، المضمخّة بعبير نعناع مقتطف من نضارة فردوس الدّخيلة لا من بوار و قحط زمن أرضي قد يتقنّع بقناع نادل يدمن محو الكينونات و الإعفاء على آثارها الدّالة و الجميلة: دارت كؤوس الشاي. طاف عبير النّعناع. و من كلّ فجّ هبطت الذكريات. نعيد ترتيب المشهد. نرفع القطع الذّابلة من السنوات نرفو ما كان مهترئا. نصبّ زبدة المشاعر ليلمع المكان فتفيض أنواره .................................................... إبريق الشاي يوشك على النفاذ أعواد النّعناع ترتخي أعناقها في قعر الكؤوس ابيضاض الفجر يبلغنا تعب النادل. و فوطته تكنس الرّاحلين. عبثا نقاوم نجرّ أقدامنا. نعلم، يقينا، أنّ النادل سيكنس ما بقي منّا ماكثا من أثر كؤوس الشاي و عبير النّعناع. - قصيدة «عبير النّعناع»، ص 7-8 و بالمثل، و نزولا عند مشيئة القصيدة لمكانيّتها المستهامة، فإن أنا شعرية مجبولة على خصالها تلك لن تتورّع عن التأفّف من مكانها الأرضي الممنوح، من مسقط رأسها الرمزي الذي ليس أكثر من صحراء مترامية، بياض حالك، من انفصاح و تلغّز في آن معا، و ذلك حدّ الانصعاق، فتستعيد الذات الكاتبة، من موقف التآزر مع أناها / قناعها الشعري، عين التّمثل الفجائعي العتيق الذي كان أن انبثقت منه قصائد أولئك الأسلاف المبهرين، النّيرين: امرؤ القيس، الحارث بن حلّزة، النابغة الذبياني، زهير بين أبي سلمى، طرفة بن العبد، أميّة بن أبي الصّلت..؛ و هم يموضعون الكلام الشعري موضع ندّية بإزاء وحشة و شراسة صحراء في هول صحراء شبه الجزيرة، أو الأحفاد النّجباء، من أمثال الشاعر الإيطالي جويسيبي أونغاريتي (قصائده في صحراء مصر) و الشاعر الفرنسي لوران غاسبار (قصائده في صحراء تونس)، و هم يستمرئون معضلات راهن الوجود الإنساني و كبريات مؤرّقاته في تراحبها و صمتها الميثولوجيين. هكذا تتراكب، في الموقف الشعري الذي يعنينا، فلاتان اثنتان، فلاة مسقط الرأس الرمزي و حيث انمساخ المكان و تحوّله، ضدّا على ما تودّه له الذات كموئل للذاكرة، إلى مجرد خراب مبهرج، اصطناعي، و مرسمل تلطّخ فيه عفونة النّفط نداوة النخل و اليقطين و الزّعتر، «.. فنصوص السّفر تتوارى خلف لغة شعرية صلاتها رحيمة بالمكان و ثقافة المكان و الشاعر مسكون بصوت تلك اللغة (...) صورته الشعرية طافية برماد المكان..»v، و حالما تخفق هذه الذاكرة في مصالحته و ائتمانه تفسح القصيدة المجال للتساؤل و الاستخبار ليس أكثر، لكن ضمن نبرة نوستالجية موخزة و أليمة: «وين البلاد.. وين الدّيرة» ؟ «البلاد» محض أطلال خرائب ربّما تفئ إليها العمالة الأسيوية أو ربّما.. عافوها. «البلاد.. الدّيرة» محض دروب و مماش نبت فيها الشّوك أرض قاحلة (هل طاف بها إنسان) «البلاد.. الدّيرة» براميل مسنودة علاها الصّدأ. - قصيدة «الجشّة.. هشيم المكان»، ص 93 ? 94 و فلاة المعيش اليومي المتصحّر، مجازا، و حيث لا شيء من غير الرّتوب و التكرار و الإملال و الانصياع المتبلّد لإملاءات الحياة و مواضعاتها المقرفة بما تتأجّج معه أشواق اللاّأباليّة و اختلاجات الجنون و التّيه: تقف بجناحين ضاويين و سريرة مشقوقة؛ نثارها بعدد أوراق التّقويم محقونة بالخيبات لانتظار، ما عاد انتظارا سوى أنك تعوّدت على طعمه المرّ كشايك الذي تقترفه كل صباح مخلوطا بمرارة التكرار و مقعد الوظيفة؛ سترة الأولاد و لقمة الحياة. تتعقّل كثيرا قبل أن تركل المقعد و تلتمس هواء الجنون لمرّة واحدة وحيدة. تدفع بالمتّكأ و تهمس للريح أن تضمّك، تطويك إلى هذه الأرض. - قصيدة «ها أنت على المشارف»، ص 15 في كنف توضّع وجودي بهذه الوطأة و هذا اليباس لن تتلكّأ المخيّلة عن هندسة و توضيب ما يصحّ توصيفه بالمعادل الرمزي التّخييلي لما أسميناه حدّ العدميّة أو الاستقالة الروحية القسريّة من برّانية العالم و التمّاهي معه، نتيجة هذا، كمهاد لموت يرتدي أوجها شتى، كهاويّة مجازية متعاظمة لا تفوز معها الذوات الهشّة، المتوحّدة، توحدّ ذلك الذّئب الخرافي، ذي النّسب إلى أرومة ذئب أبي عبادة البحتري و «ذئب الفلوات» لهرمان هسّه، و صاحبه في قصيدة «ذئب يعرّج في قرية نائية»، سوى بممكن النزول إلى ذلك القعر السّحيق، اللاّمرئي، المزوبع، و الذي لا عودة مأمولة منه البتّة، فوز القصيدة، هي الأخرى، باستبصار ما يعزّ عن البصر، بملاقاة الموت، قحّا، خالصا، عاريّا بالأحرى، هناك في عرينه السفلي الذي لم تتوقّح عليه سوى المخيّلات المقدامة و المجازفة، مثلما هو الأمر في شعريات كلّ من الروماني فيرجيليوس و الإيطالي دانتي أليغيري والألماني فريدريش هولدرلين و النمساوي راينر ماريا ريلكه و الفرنسيين شارل بودلير و جيرا ردي نيرفال و الروسي أوسيب ماندلشتام..؛ لذا لا عجب في أن تهيمن على متن الديوان، بأثر من لاوعيه النصّي و الرؤياوي، معجميّة، من الوفرة، ذات تعالق وثيق مع دلالة الانهواء أو النزول أو السقوط، كالهاويّة و الحافّة و الجرف و البئر و القعر و القرار..؛ التي يتوارد أغلبها ملتئما في هذه القصيدة التي تمثّل بؤرة لهذا اللاّوعي و مجلى لعامليّته الشعرية المتنفّذة: مهاوي الحافّة لا تصمد لها عين تشيخ الغبار يرجّف الرئتين و الروح تنخلع لطنين وافى ذبذبته. البئر تندهه و القرار يضطرب بأصدقاء يجفّون. لم يكن يريد. لم يكن يعرف الحافّة انسلخت و هو على بعد وجيب. - قصيدة «فيما العين تشيخ»، ص 83 1- عبد الله السّفر: التجربة التسعينيّة في السعودية.. فسحة الظلّ و شساعة الهامش، ضمن ملفّ (شعراء الهامش في السعودية)، مجلة «الشعر» المصرية، ع 134، صيف 2009، ص 80. 2- نفسه، ص 83. 3- معتز طوبر : عبد الله السّفر، مسكون باللغة و نصف طيف لها، موقع «جهة الشعر» على شبكة الإنترنيت، بتاريخ 17 مارس 2010، ص 1. 4- صلاح السروي : قصيدة النثر، إشكاليات النوع و جمالية التشكيل.. دراسة نظرية و تطبيقات، دار نفرو للنشر و التوزيع، القاهرة 2009، ص 62. 5- معتز طوبر، مرجع مذكور، ص 1.