واشنطن ترفض توقيف نتانياهو وغالانت    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    اعتقال موظفين ومسيري شركات للاشتباه في تورطهم بشبكة إجرامية لتزوير وثائق تسجيل سيارات مهربة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    بورصة البيضاء تنهي التداولات ب "انخفاض"    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإعلام والسلطة.. أية علاقة ؟
النظريات المعيارية للأنظمة الإعلامية.. من السلطة إلى المشاركة الديمقراطية
نشر في المساء يوم 19 - 09 - 2010

يشار، دائما، في أوساط الفكر إلى دلالات عدة لوصف ميزة الإنسان المحورية، حيث يتم الحديث عن الإنسان ككائن لغوي وكائن مفكر وكائن اجتماعي... لكنْ قليلة هي التوصيفات التي ركّزت
على الإنسان ككائن متواصل..
التواصل فاعلية إنسانية، وبالتالي فهي بنيوية فيه، مستمرة ودائمة التحول سياقيا (لازارسفيلد)، ليست خطية، حسب ما اقترحه ياكوبسون، بل لها وظائف نفسية فوق لغوية لها غايات نفسية دفينة (حسب التعبير الفرويدي)، تحكمها قواعد تركيبية كونية توليدية تتقاسم الإنسانية قواعدها التركيبية (نعوم تشومسكي)، حاملة لذكاء تكويني، تُرسِّخ ذكاء الإنسان المجرد والحس حركي (بياجي) ويمكن ترجمة شفراتها رياضيا «modélisation» وتحويلها، آليا، إلى غايات مدنية وعسكرية وطبية لا حدود لإمكانيات الإبداع فيها.
لكن وظائف الاتصال الإنساني تطورت وتفننت وسائطها، ومن تم تعقدت وظائفها، فظهر الإعلام كمجال للاتصال الإنساني، لكنْ بغايات سياسية صرفة، وأصبح الإعلام بوسائطه ووسائله (المكتوبة والمسموعة والمرئية والتفاعلية) وسائط وجودية لاستدماج السلطة وأشكالها (بورديو) تصنع أهم تمثلات الإنسانية العقلية والنفسية والقيمية عن نفسه وعن الآخر وعن الحياة.
وقد تحول الإعلام إلى صانع للأحكام ومتحكم في إعادة إنتاجها، بشكل مسترسل ودائم، حيث يعيش الإعلام اليوم حالة من ممارسة السلطة بل والتسلط.. لا مفرَّ، اليوم، من تجاوز حالة الإعلام ولا مندوحة من تقويمه إلا من الداخل (إريك ألترمان).
تقول السرديات النظرية -وخصوصا تلك التي تتسم بالطابع المدرسي السكولائي- إن سلطة الإعلام هي سلطة رابعة، حيث وُجِدت وتطورت وتفتّقت لتمارس «رقابة» سياسية وأخلاقية واحترازية وتقييمية على أداء السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية.
من الناحية العامة، حظيت هذه الخطاطة -هي أيضا- باستهلاك إعلامي كثيف واستعملت كورقة هوية يكشف بها الإعلامي عن نفسه إذا ما طُرِح عليه سؤال التموقع (positionnement) (وهو السؤال المحرج كثيرا للإعلامي). ويضع هذا المخطط المتسرع والسهل الإعلاميين في مواقع «فوق -سلطوية» تمنح مزيدا من المصداقية والرواج الواسع لخطابات وقيم الطبقات الإعلامية.
هل أطروحة السلطة الرابعة التي يتمتع بها الإعلام صحيحة؟ فتداخل ممارسات السلط (وخصوصا ما بين التشريعية والتنفيذية في الأنظمة التي لم تفصَل فيها الممارسات السياسية بعدُ)، وعمل هذه السلط وتوظيفها للإعلام والدعايات الإعلامية (أو ما يسمى الإعلام المؤسساتي)، و«تواطؤ» بعض الإعلاميين في برامج دعائية لصالح السلطة التنفيذية وتركيز الإمبراطوريات الإعلامية في يد رجالات سلطة اقتصادية وسياسية هدفهم «البوهيمي» هو تحسين الصورة وتوجيه استطلاعات الرأي المزورة وافتعال قضايا مراوغة لتحوير الانتباه والبديهة الاقتصادية النقدية للمواطنين (سيرج حليمي)... كلها عوامل تجعلنا نضع افتراض ممارسة الإعلام سلطةَ رقابة موضعَ شك وريبة، إلى درجة أنه بدأ التفكير -من الناحية النظرية- في الضرورة الحاسمة والمفيدة لوجود سلطة خامسة فوق سلطة الإعلام تكشف وتستجلي مخاطر انحساره في سوق المال والأعمال والرساميل التي تملكها قلة من «المستثمرين المتعجرفين، أصحاب الرؤساء والزعماء»، مما يشكل خطرا محدقا بالتعددية (إغناسيو راموني)...
يتسم هذا الملف بنفس المجازفة الإبستيمولوجية التي طبعت الملفين السابقين (حول حوار الحضارات وحول كرة القدم، في شهري ماي ويونيو 2010)، وتتمثل المجازفة في محاولة التوفُّق، ولو النسبي، في ضبط المسافة الموضوعية (distanciation) مع الموضوع، لكي لا يجرفنا تيار اختياراتنا الإيديولوجية، أو كما يقول محمد الطوزي دائما (وبالأخص في الحوار الذي أجراه مع مجلة «إيكونوميا» عن الأهمية العلمية الحاسمة في إطفاء فتيل الموضوع (désamorçage) بنفس الكيفية التي يجب بها تعطيل لغم من الألغام، قبل إخراج أحشائه، حتى لا ينفجر في وجوهنا..
المسافة الموضوعية صعبة أمام موضوع تتداخل فيه مهنة الإعلام بالسياسة والاقتصاد وكواليسهما، وصعبة أيضا، وهذا حال المقاربات النقدية حول الإعلام، ما دامت لا تستطيع كسب رهان الرواج والقراءة من دون قبول الإعلام نفسه فيها... حيث يصبح الإعلام في موضوعنا هذا «موضوعا ووسيطا» (مادة للتفكير ووسيلة للتعبير) في الوقت ذاته (Objet- support). وما هو المنبر الإعلامي الذي يمكن أن يقبل، بين الفينة والأخرى، أن تكتب على ظهره صكوك اتهام وانتقاد للإعلام؟ من هنا، أشكر جريدة «المساء» على صدرها الرحب وقبولها أن تكون المجالَ الذي نطرح فيه هذه القضايا النقدية حول الإعلام.
نخشى، أيضا، من السقوط ضحايا حركات شيطنة الإعلام (diabolisation des médias)، حيث لم أستطع حصر العدد الهائل من الدراسات والمقالات (لمثقفين أفذاذ) صبّت مجملُها في بوثقة واحدة عنوانها «تواطؤ الإعلام مع السلطة»، إذ يلعب الإعلام -في هذه المقالات- دورا مزدوجا في ميلودراما محبوكة تخدم الأنظمة المتحكمة (وليست دائما تلك الحاكمة في الواجهة)، وعلى رأسها اللوبيات الاقتصادية التي تعيش في كنفها و«تأكل» من يدها أشهر المنابر الإعلامية وأكثرها انتشارا!...
يجب التذكير بأننا لسنا في موقع التجريم، لأنها مقاربة مفعمة بالذاتية وبالانزواء الإيديولوجي، وإنما نحن بصدد محاولة فهم السلوك الإعلامي والبنيات التي تحكمه والإكراهات التي تجعله في وضعية مفاوضة دائمة مع السلطة، لضمان استمراره وعيشه، والضغوط الاقتصادية الممارَسة عليه. ونخشى، أيضا، من الإطناب التقني المعرفي الذي يركز على التمفصلات والآليات والمفاهيم المجرَّدة المتحكمة في الإنتاج الإعلامي ونغفل الوظائف التأطيرية والتغييرية وأدوار الفضح والإفصاح التي لعبها إعلام مقاوِم، ساهم في اندحار أنظمة (اقتصادية وسياسية) كليانية وشمولية جبارة.
ما وقع في الولايات المتحدة الأمريكية، سابقا، وما يقع في إنجلترا وفرنسا اليوم، هو مد إعلامي جارف وفاضح. فتارة يتم «صلب» حكومة طوني بلير، إعلاميا، لتورطها في الحرب على العراق، وتارة أخرى، نجد نيكولا ساركوزي -وهو في وضعية منكمشة من الناحية الدعائية- محصورا بمقالات وعناوين وبرامج إعلامية تُقلِّم أظافره وتتهمه بالخيانة العظمى للجمهورية (ما دام المال العام ربما أقدسَ من العلمانية نفسها في فرنسا).
ولا ننسى أيضا ما قام به مايكل مور من مجهودات فنية وإعلامية كبيرة (فردية تقريبا، بمساعدة أخته وبعض المتطوعين من الأصدقاء) لفضح أعظم التواطؤات وأخطرها في التاريخ السياسي لأمريكا، حيث يتهم -بالاستناد على التوثيق المهني- النظام الجمهوري الحاكم بفبركة أحداث 11 شتنبر 2001 (Fahrenheit 9.11)، ويتهم لوبيات الأسلحة في فيلمه الوثائقي Bowling for Columbine ويُحمِّلها مسؤولية تقاتل وسفك دماء المراهقين في المؤسسات التعليمية، ويصور في فيلمه الوثائقي الأخير «Sicko» كيف أنه نجح في ملء بواخر من المهاجرين الأمريكيين السريين نحو كوبا لغرض الاستشفاء والهروب من بطش مؤسسات التأمينات الطبية الأمريكية السافكة للدماء.
سيعلق البعض على أن هذه النماذج الإعلامية المنخرطة (engagées) والمقاومة لن يكتب لمثيلاتها الوجود في العالم العربي داخل الأنظمة العربية الحاكمة وما تتميز به من رغبتها في لجم الإعلام الحر، وهي الأنظمة ذاتها المعروفة باعتقالها المباشر والمسرف في العنف تجاه الصحافيين تارة، وبالتطويع الذكي لوسائل الإعلام، من خلال الدعم المالي المباشر، أو عبر تركيز الاستثمار الإعلامي لدى مصفوفة محدودة من دوي النفوذ، الموالية للسلطة والمتحكمة في دورات الإنتاج الإعلامي، من إشهار وبث وطباعة وتوزيع.
لكنْ، بالمقابل، ما يقع في مصر وتونس والجزائر وفي العديد من الأقطار العربية من حبس واعتقال الصحافيين، جراء أقلامهم وأعمدتهم وآراءهم، وتلفيق تهم جنائية للعديد منهم، يجعل التعايش الإيجابي مستحيلا ويذكي التطرف لدى الجانبين، وهو التطرف الذي يَزيغ بالإعلام عن وظائفه الإخبارية والتحليلية الرزينة إلى لعب أدوار أقل تمحيصا وأكثر إثارة...

لا يمكن فهم الظاهرة الإعلامية من دون فسح المجال لاستعراض الأطر النظرية التي قاربتها وحللتها، وهي الإطارات التي يطلق عليها عادة النظرية المعيارية للأنظمة الإعلامية. ونسوغ هنا مصطلح «نظام»، لأن الإعلام لا يقتصر فقط على مستواه الإنتاجي والتداولي (Pragmatique) وإنما تحكمه بنيات الفكر السائد وتحكمه أيضا موازين القوى المنظِّمة للعلاقات الإنسانية والعلاقات المادية. ولأن وظائف الإعلام ليست بالضرورة تحليل الإعلام Méta Média واستكشاف آلياته، فإن النظريات المعيارية هي نظريات تصف وضعا مثاليا لنظام إعلامي تتحدد فيه الهيكلة والعمليات، وهي لا تصف واقع الإعلام، بل تؤكد على مثالية الإعلام وما ينبغى أن يكون عليه (باران ودفيس، 2003) انطلاقا من محددات فلسفية ومحددات القيم والإيديولوجيا السائدة في المجتمع، وهي التي تؤسس لنشأة المؤسسات الإعلامية وتعطيها الشرعية المطلوبة، وتنعكس الملامح الخاصة بهذه النظريات في القوانين والسياسات الإعلامية ومواثيق الشرف وأخلاقيات المهنة (ماكويل، 2000).
وقد عرف التاريخ المعرفي والفلسفي حول الإعلام مساهمات جليلة للعديد من المفكرين والإعلاميين والنقاد وعلماء الاجتماع الذين ساهموا في صياغة هذه النظريات على مر السنوات والعقود. ويبقى كتاب «النظريات الأربع في الصحافة» من أشهر الكتب الإعلامية التي صدرت خلال العقود الماضية، ألّفه ثلاثة من علماء الاتصال الكلاسيكيين المرموقين، بعد الحرب العالمية الثانية، وهم سيبرت، بيترسون، وشرام (1956)، حيث حددوا عموما أربع نظريات معيارية تؤطر الممارسات الإعلامية، وهي النظرية السلطوية والنظرية الشيوعية والنظرية الليبرالية ونظرية المسؤولية الاجتماعية. ويمكن إضافة إطارين نظريين، هما النظرية التنموية ونظرية المشاركة الديمقراطية (ماكويل، 1953).
الشك في أقلام الإعلام في أوربا القروسطية
قبل أن تدخل أوربا مرحلة الأنوار والتحرر الفكري وتحرر التعبير والإعلام، كانت السلطوية أول إطار نظري جسّد العلاقة بين الصحافة والمجتمع، وقد نشأ خلال القرون الوسطى، بعد أن ظهرت الصحافة كوسيلة إعلامية في المجتمعات الأوربية وحيث إن الريبة والشك كان هو أساس هذه العلاقة، حيث إن الحكومات الأوربية والكنيسة المسيحية وضعتا القيود وعرقلتا مساعي الصحافيين والناشرين في أن يمارسوا دورهم الصحافي في النشر والحصول على المعلومات التي تقتضيها مهنة الصحافة والنشر. وبعكس النظرية الليبرالية، لم تكن هناك أعمال فكرية مؤثرة في أسس هذه النظرية، سوى حالات محدودة. وقد ذكر سيبرت، بيترسون وشرام (1956) اقتباسا عن الكاتب الإنجليزي سامويل جونسون في القرن الثامن عشر، الذي برّر النزعة السلطوية بقوله: «إن كل مجتمع يمتلك الحق في المحافظة على السلام والأمن والنظام العام، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، يحق للحكومات أن تمنع الآراء التي تمثل خطراً على سلامة المجتمع».
النظرية الشيوعية: الإعلام أداة في خدمة النظام الحاكم
بعد تفكك الإتحاد السوفياتي وانهيار الكتلة الاشتراكية في أوربا، لم يعد هناك امتداد لهذه النظرية سوى في ثلاث دول من دول العالم هي الصين، كوريا الشمالية وكوبا. وتحمل هذه النظرية أسسا فكرية مبنية على كتابات كل من ماركس وإنغلز على المستوى النظري، وعلى لينين على المستوى التطبيقي. وتتأسس النظرية الشيوعية (إحدى النظريات الأربع في الصحافة وكانت تسمى النظرية السوفياتية الشيوعية) على فكرة أن تكون الصحافة والإعلام أداة من أدوات الحزب الشيوعي الحاكم. ولهذا فإن الحزب هو الذي يتحكم تحكما كاملا في مجريات الشأن الإعلامي في الدول الشيوعية. وتعمل وسائل الإعلام الشيوعية على تربية الشعب على المسار الاشتراكي وتقوية القناعات الشعبية بالفكر الشيوعي السائد ومحاربة الفكر المضاد الذي تمثله الرأسمالية الغربية.
وتتفق النظريتان السلطوية والشيوعية في محورية المجتمع -وليس الفرد- كأساس لتبرير السيطرة والتحكم في وسائل الإعلام. فمصلحة الجماعة وهيمنة الدولة تتجاوزان مصلحة الفرد، لكن الاختلاف بينهما يظهر في جانب ملكية وسائل الإعلام، فالنظرية السلطوية تتيح الملكية الخاصة لوسائل الإعلام، بينما ملكية وسائل الإعلام في المجتمع الشيوعي هي من اختصاص الحزب الشيوعي الحاكم.
نظرية الحرية والحق في تبليغ الحقيقة
تنطلق الفكرة الجوهرية لهذه النظرية من كونها تسعى إلى إيصال الحقيقة إلى الناس ومن كونها لا تخدم أحدا أو مؤسسة في إطار عملها الإعلامي ولا تخضع لأي شكل من أشكال الرقابة، سواء داخليا أو خارجيا. وتبني هذه النظرية على وجود حرية صحافة حقيقة. والمفهوم الأساسي، هنا، يعني إمكانية البث والنشر بدون أي رقابة قبلية أو متطلبات قانونية لترخيص مسبَق أو تهديد وخوف من عقوبات متوقَّعة. وتقوم الصحافة ووسائل الإعلام بدور ووظيفة «كلب المراقبة» (watch dog) مما يعني مراقبتها لما يدور في المجتمع ومتابعة أداء ووظائف المؤسسات الاجتماعية الأخرى. ومع هذا المفهوم، نشأ مصطلح آخر يصف الصحافة بالسلطة الرابعة، مما يعني أن سلطة الصحافة تتنافس مع باقي السلطات في المجتمع. وكان إدموند بيرك أول من طرح هذا المصطلح في نهاية القرن الثامن عشر، قاصدا بذلك تنامي دور الصحافة في إنجلترا ليواكب الدور الذي تلعبه السلطات الثلاث الأخرى: مجلس اللوردات، الكنيسة ومجلس العموم.
وقد تتبدل السلطات من مجتمع إلى مجتمع، ومن وقت إلى آخر.. فمثلا، تَقلَّص وضعف دور الكنيسة في المجتمع الأمريكي -على سبيل المثال- أدى إلى تجسُّد السلطات الثلاث في السلطة القضائية والسلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، التي تمثلها الحكومة. وفي كل هذه الحالات، يبرز سؤال حرية الصحافة، الذي يُجسِّد طبيعة وشكل العلاقة بين الصحافة، من جهة، والمؤسسات الاجتماعية، بما فيها الحكومات، من جهة أخرى.
وقد ارتبطت حرية الصحافة بالفلسفات الغربية التي نادت بحرية الفرد وقمع الاستبداد وعارضت تفرُّدَ الآراء. ومن أشهر الفلاسفة الذين كتبوا في هذا المجال جون ستيوارت ميل، الذي أوضح في كتابه «عن الحرية» أن إخراس الرأي هو سطو على البشرية جمعاء.. ويضيف أننا نخسر الرأي الذي يتم خنقه إذا كان صائبا، وإذا كان هذا الرأي خاطئا، نكون قد خسرنا معركة وميكانيزمات الصراع بين الخطأ والصواب، التي تولد -بالضرورة- الرأي الصواب.. وهذا ما عناه جون ميلتون ب«ميكانزمات التصحيح الذاتي»، التي تعني أن الفكرة الصائبة هي التي تتفوق على الفكرة الخاطئة وتتجاوزها عندما تتاح الفرصة للفكرتين للتداول والانتشار، أي أنه يطرح فكرة «السوق الحرة للأفكار» كآلية لتداول وصراع الأفكار (ماكويل، 2000).
تمثلت حرية الصحافة، أول ما نشأت، في صراع بين الصحافة وشكل من أشكال السلطة كان في القرون الوسطى هو الكنيسة، ثم تحول إلى الحكومات. وباختصار، فإن حرية الصحافة هي الحرية من القيود، وهذا ما عبّر عنه التعديل الأول في الدستور الأمريكي عام 1791، والذي يؤكد على أن الكونجرس -وهو المؤسسة التشريعية- لا يجب أن يصدر قوانين تتعارض مع حرية التعبير أو حرية الصحافة. وقد لخَّص جان كين (1991) في كتابه «الإعلام والديمقراطية» الجدلَ حول حرية الصحافة في أربعة اتجاهات تاريخية تناولت هذا الموضوع:
الاتجاه الديني، الذي مثله جون ميلتون في منتصف القرن السابع عشر، وفيه عارض القيود على حرية التعبير من منطلق أن الفرد -رجلا او امرأة- قد باركه الله بنعمة العقل ومكنه من القراءة والحكم المبني على الضمير. ومن هنا، فحرية الصحافة ضرورية لكونها تساعد على تطوير نوازع الخير لدى الأفراد، وينبغي أن تتعرض للاختبار، بصفة منتظمة، بتعريضها على آراء متباينة وخبرات منوعة.
الاتجاه السياسي، ومثّله جون لوك، في مطلع القرن الثامن عشر، وفيه رأى أن حرية الصحافة ينبغي أن تنطلق من مبادئ حقوق الفرد الطبيعية المتمثلة في حقه في أن يقرر ويختار في كل مناحي الحياة، الدينية والسياسية وغيرها.. ومن حق الفرد أن ينشر ويُعبِّر عن آرائه بدون أي قيود تفرضها الحكومات.
الاتجاه النفعي، ويمثله كل من بينثام وميل، وكلاهما يعتقدان أنه من أجل أن يعمل النظام السياسي بشكل اعتيادي، يجب أن تكون في المجتمع ميكانيزمات تفعيل للتعبير عن الرأي العام، ويرى كل منهما أن الرأي العام هو الضمانة الرئيسة لعدم إساءة استخدام الحكم أو إساءة استخدام التشريع في المجتمع. وهكذا، فإن حرية الصحافة تهيئ وتخدم التعبير عن الرأي العام. ويضيف ميل أن الشعب لا يستطيع أن ينتقد حكومته إذا لم تقدم له المعلومات كاملة عن الشخصيات التي تدير الشأن العام في المجتمع، وهذه مهمة الصحافة الحرة.
ومثل الاتجاهَ الرابع جون ستيوارت ميل، الذي انتقد المذهب النفعي، الذي جعل من حرية الصحافة ضرورة براغماتية. ويرى ميل أن التداول الحر للأفكار، من خلال الرأي العام، هو مطلب أساسي لمجرد الوصول إلى الحقيقة. وقد تبنى المؤسسون الأمريكيون -على وجه الخصوص- أفكار ستيوارت ميل وجعلوها منطلقا لمفهومهم عن دور الصحافة في المجتمع، ونادوا بالتالي بحرية الصحافة. ويعتقد الكثيرون أن الفكر الذي طرحه ميل في هذا الخصوص يعطيه الأبوة الشرعية للصحافة الليبرالية في العالم (ويليامز، 2003).
وقد أشار ثومبسون (1995) إلى أن هؤلاء المفكرين الكلاسيكيين قد رأوا أن حرية التعبير عن الآراء، من خلال صحافة مستقلة، هو الضمان الأساسي لتنوع وجهات النظر، وما يتبع ذلك من تنوير لآفاق الرأي العام. وتلعب الصحافة الحرة والمستقلة دورا محوريا في حراسة المجتمع ومؤسسات الدولة.
نظرية المسؤولية الاجتماعية للإعلام
تنطلق هذه النظرية من محاولة إيجاد توازن بين مفهومي الحرية والمسؤولية. ونظرا إلى تزايد النقد ضد الصحافة، مع مطلع القرن العشرين وخلال العقود الأولى منه، نتيجة اعتماده على الإثارة والمنطق التجاري، ونتيجة الاحتكارات والإنحيازات السياسية لهذه المؤسسات في الولايات المتحدة، تكونت لجنة خاصة للنظر في هذه الأمور، بشكل عام، سنة 1942، تحت رئاسة هتشنز، رئيس جامعة شيكاغو. وقد وضعت هذه اللجنة نصب عينيها مهمة التحقيق في ما إذا أخفقت أو نجحت الصحافة الأمريكية في أداء دورها الاجتماعي وتحديد مواقع الحرية التي ينبغي على الصحافة أن تتوقف عندها، ومدى تأثير الضغوط الحكومية أو الإعلان التجاري على حرية العمل الصحافي.
وقد أعدت اللجنة تقريرها عام 1947، وفيه عكست نقدا لأداء الصحافة في عدم تهيئة الفرصة لأصوات أخرى غير تلك المؤثرة والمرتبطة بالقوى الفاعلة في المجتمع. وفي هذا التقرير، تم استخدام مصطلح «المسؤولية الاجتماعية»، لأول مرة، وانعكس في تحديد مسؤوليات واضحة ينبغي أن تعمل عليها الصحافة، بما في ذلك فسح المجال أمام مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية للتعبير عن آرائها واتجاهاتها بخصوص القضايا العامة في المجتمع. وقد أيقظت هذه اللجنة الحاجة في دول غربية أخرى (المملكة المتحدة والسويد) إلى تأسيس لجان للنظر في أوضاع الإعلام واقتراح حلول عملية في هذا الاتجاه. وعلى سبيل المثال، طرح بيكارد(1985) مفهوم نظرية جديدة أسماها النظرية الديمقراطية الاشتراكية للإعلام وحاول من خلالها تحسس التحولات في المجتمع الأوربي بخصوص دور وسائل الإعلام في المجتمع.
النظرية التنموية
ترتبط هذه النظرية بأوضاع الدول النامية وتعكس الدور المتوقع من وسائل الإعلام في المجتمعات النامية. ويرى ماكويل (1983) أن هناك تقاربا بين الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام وفق النظرية الشيوعية والدور الذي يقوم به الإعلام في الدول النامية في كون النظريتين تسعيان إلى تأكيد قيام الإعلام بواجبات سياسية واجتماعية لخدمة المصلحة العليا في المجتمع. وعكس ما تشير إليه النظرية الليبرالية، فإن النظرية التنموية تتوخى المعالجة المتأنية للأخبار المثيرة وترى أن نشرَها وبثَّها ربما يأتي بنتائج سلبية على المجتمع أو على الأوضاع السياسية والاقتصادية، بشكل خاص. ولا يؤمن الإعلام التنموي بمقولة إن الأخبار السيئة هي أخبار جيدة من وجهة النظر الإعلام «Bad news is good news»، لأنه يستدعي عناوينَ كبيرةً ومساحاتٍ وصفحات كثيرةً من التغطية الإعلامية. وفي المقابل، تتّجه وسائل الإعلام التنموية إلى مفهوم التغطيات الإيجابية، أو ما يسمى الإخبار الجيدة (good news) نظرا إلى كونها تدعم الأوضاع الداخلية في تلك المجتمعات، وتعطي أولويات رئيسة للثقافات المحلية. وقد تعرّضت النظرية التنموية للنقد من أنصار النظريات الليبرالية، على خلفية أن كل ما تقوم به وسائل الإعلام في الدول النامية، طبقا لهذه النظرية ليس إلا رقابة مباشرة وتشويشا على مصداقية وسائل الإعلام (واتسون، 2003). وهذا ما حذا بوكالات الأنباء العالمية ووسائل الإعلام الدولية إلى إهمال الأخبار والتقارير التي تأتي من وسائل الإعلام في الدول النامية، بحجة أنها مواد دعائية لا تستحق النشر أو البث..
من المسؤولية الاجتماعية إلى المشاركة الديمقراطية
تعتبر هذه النظرية امتدادا في المفاهيم والتطبيق للنظرية الليبرالية. وكما أشار إليها مكويل (1983)، فإن اتجاه النظرية هو في إعطائها قيمة عالية للأفقية الهيكلية لوسائل الإعلام، بدلا من الهيكلية الرأسية (المركزية) المعتادة في الإدارة الإعلامية لوسائل الإعلام في المجتمعات الغربية.
كما أن هذه النظرية تعطي أهمية قصوى لبدائل إعلامية جديدة، بعيدة عن الوجه التجاري والاحتكاري البحت، الذي تفيض به وسائل الإعلام الكبرى. وتؤكد هذه النظرية دورَ المستقبل الإعلامي في صناعة المادة الإعلامية، على عكس ما تقوم به وسائل الإعلام التقليدية في دور محوري للمرسل الإعلامي. وتسعى النظرية إلى كسر الاحتكار الذي تؤسسه المنظمات الإعلامية الكبرى، بإيجاد بدائل لوسائل الإعلام المحلية، باستخدام «الكيبل» التلفزيوني ومحطات إذاعية وتلفزيونية وصحف محلية. ولتعزيز هذا الدور، تعطى الجماعات المحلية والثقافات الفرعية أدوات إعلامية لتمارس دورها في تعزيز ثقافتها وحضورها الاجتماعي، وهذا الدور موجود في حالات عديدة في الولايات المتحدة، ولكنه ممارسة معروفة بشكل خاص في الدول الإسكندنافية (باران وديفيس). وتؤسس نظرية المشاركة الديمقراطية لحقوق المستقبل في الرد وإبداء الرأي وصناعة الموضوعات، وهي خليط من الليبرالية والمثالية والاشتراكية والمحلية (واتسون، 2003)، حيث إن تطبيقاتها في البيئة الليبرالية للمجتمعات الغربية تتسم بتركيزها على القضايا المحلية للبيئات التي توجد فيها وسائل الإعلام.لا يمكن فهم الظاهرة الإعلامية من دون فسح المجال لاستعراض الأطر النظرية التي قاربتها وحللتها، وهي الإطارات التي يطلق عليها عادة النظرية المعيارية للأنظمة الإعلامية. ونسوغ هنا مصطلح «نظام»، لأن الإعلام لا يقتصر فقط على مستواه الإنتاجي والتداولي (Pragmatique) وإنما تحكمه بنيات الفكر السائد وتحكمه أيضا موازين القوى المنظِّمة للعلاقات الإنسانية والعلاقات المادية. ولأن وظائف الإعلام ليست بالضرورة تحليل الإعلام Méta Média واستكشاف آلياته، فإن النظريات المعيارية هي نظريات تصف وضعا مثاليا لنظام إعلامي تتحدد فيه الهيكلة والعمليات، وهي لا تصف واقع الإعلام، بل تؤكد على مثالية الإعلام وما ينبغى أن يكون عليه (باران ودفيس، 2003) انطلاقا من محددات فلسفية ومحددات القيم والإيديولوجيا السائدة في المجتمع، وهي التي تؤسس لنشأة المؤسسات الإعلامية وتعطيها الشرعية المطلوبة، وتنعكس الملامح الخاصة بهذه النظريات في القوانين والسياسات الإعلامية ومواثيق الشرف وأخلاقيات المهنة (ماكويل، 2000).
وقد عرف التاريخ المعرفي والفلسفي حول الإعلام مساهمات جليلة للعديد من المفكرين والإعلاميين والنقاد وعلماء الاجتماع الذين ساهموا في صياغة هذه النظريات على مر السنوات والعقود. ويبقى كتاب «النظريات الأربع في الصحافة» من أشهر الكتب الإعلامية التي صدرت خلال العقود الماضية، ألّفه ثلاثة من علماء الاتصال الكلاسيكيين المرموقين، بعد الحرب العالمية الثانية، وهم سيبرت، بيترسون، وشرام (1956)، حيث حددوا عموما أربع نظريات معيارية تؤطر الممارسات الإعلامية، وهي النظرية السلطوية والنظرية الشيوعية والنظرية الليبرالية ونظرية المسؤولية الاجتماعية. ويمكن إضافة إطارين نظريين، هما النظرية التنموية ونظرية المشاركة الديمقراطية (ماكويل، 1953).
الشك في أقلام الإعلام في أوربا القروسطية
قبل أن تدخل أوربا مرحلة الأنوار والتحرر الفكري وتحرر التعبير والإعلام، كانت السلطوية أول إطار نظري جسّد العلاقة بين الصحافة والمجتمع، وقد نشأ خلال القرون الوسطى، بعد أن ظهرت الصحافة كوسيلة إعلامية في المجتمعات الأوربية وحيث إن الريبة والشك كان هو أساس هذه العلاقة، حيث إن الحكومات الأوربية والكنيسة المسيحية وضعتا القيود وعرقلتا مساعي الصحافيين والناشرين في أن يمارسوا دورهم الصحافي في النشر والحصول على المعلومات التي تقتضيها مهنة الصحافة والنشر. وبعكس النظرية الليبرالية، لم تكن هناك أعمال فكرية مؤثرة في أسس هذه النظرية، سوى حالات محدودة. وقد ذكر سيبرت، بيترسون وشرام (1956) اقتباسا عن الكاتب الإنجليزي سامويل جونسون في القرن الثامن عشر، الذي برّر النزعة السلطوية بقوله: «إن كل مجتمع يمتلك الحق في المحافظة على السلام والأمن والنظام العام، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، يحق للحكومات أن تمنع الآراء التي تمثل خطراً على سلامة المجتمع».
النظرية الشيوعية: الإعلام أداة في خدمة النظام الحاكم
بعد تفكك الإتحاد السوفياتي وانهيار الكتلة الاشتراكية في أوربا، لم يعد هناك امتداد لهذه النظرية سوى في ثلاث دول من دول العالم هي الصين، كوريا الشمالية وكوبا. وتحمل هذه النظرية أسسا فكرية مبنية على كتابات كل من ماركس وإنغلز على المستوى النظري، وعلى لينين على المستوى التطبيقي. وتتأسس النظرية الشيوعية (إحدى النظريات الأربع في الصحافة وكانت تسمى النظرية السوفياتية الشيوعية) على فكرة أن تكون الصحافة والإعلام أداة من أدوات الحزب الشيوعي الحاكم. ولهذا فإن الحزب هو الذي يتحكم تحكما كاملا في مجريات الشأن الإعلامي في الدول الشيوعية. وتعمل وسائل الإعلام الشيوعية على تربية الشعب على المسار الاشتراكي وتقوية القناعات الشعبية بالفكر الشيوعي السائد ومحاربة الفكر المضاد الذي تمثله الرأسمالية الغربية.
وتتفق النظريتان السلطوية والشيوعية في محورية المجتمع -وليس الفرد- كأساس لتبرير السيطرة والتحكم في وسائل الإعلام. فمصلحة الجماعة وهيمنة الدولة تتجاوزان مصلحة الفرد، لكن الاختلاف بينهما يظهر في جانب ملكية وسائل الإعلام، فالنظرية السلطوية تتيح الملكية الخاصة لوسائل الإعلام، بينما ملكية وسائل الإعلام في المجتمع الشيوعي هي من اختصاص الحزب الشيوعي الحاكم.
نظرية الحرية والحق في تبليغ الحقيقة
تنطلق الفكرة الجوهرية لهذه النظرية من كونها تسعى إلى إيصال الحقيقة إلى الناس ومن كونها لا تخدم أحدا أو مؤسسة في إطار عملها الإعلامي ولا تخضع لأي شكل من أشكال الرقابة، سواء داخليا أو خارجيا. وتبني هذه النظرية على وجود حرية صحافة حقيقة. والمفهوم الأساسي، هنا، يعني إمكانية البث والنشر بدون أي رقابة قبلية أو متطلبات قانونية لترخيص مسبَق أو تهديد وخوف من عقوبات متوقَّعة. وتقوم الصحافة ووسائل الإعلام بدور ووظيفة «كلب المراقبة» (watch dog) مما يعني مراقبتها لما يدور في المجتمع ومتابعة أداء ووظائف المؤسسات الاجتماعية الأخرى. ومع هذا المفهوم، نشأ مصطلح آخر يصف الصحافة بالسلطة الرابعة، مما يعني أن سلطة الصحافة تتنافس مع باقي السلطات في المجتمع. وكان إدموند بيرك أول من طرح هذا المصطلح في نهاية القرن الثامن عشر، قاصدا بذلك تنامي دور الصحافة في إنجلترا ليواكب الدور الذي تلعبه السلطات الثلاث الأخرى: مجلس اللوردات، الكنيسة ومجلس العموم.
وقد تتبدل السلطات من مجتمع إلى مجتمع، ومن وقت إلى آخر.. فمثلا، تَقلَّص وضعف دور الكنيسة في المجتمع الأمريكي -على سبيل المثال- أدى إلى تجسُّد السلطات الثلاث في السلطة القضائية والسلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، التي تمثلها الحكومة. وفي كل هذه الحالات، يبرز سؤال حرية الصحافة، الذي يُجسِّد طبيعة وشكل العلاقة بين الصحافة، من جهة، والمؤسسات الاجتماعية، بما فيها الحكومات، من جهة أخرى.
وقد ارتبطت حرية الصحافة بالفلسفات الغربية التي نادت بحرية الفرد وقمع الاستبداد وعارضت تفرُّدَ الآراء. ومن أشهر الفلاسفة الذين كتبوا في هذا المجال جون ستيوارت ميل، الذي أوضح في كتابه «عن الحرية» أن إخراس الرأي هو سطو على البشرية جمعاء.. ويضيف أننا نخسر الرأي الذي يتم خنقه إذا كان صائبا، وإذا كان هذا الرأي خاطئا، نكون قد خسرنا معركة وميكانيزمات الصراع بين الخطأ والصواب، التي تولد -بالضرورة- الرأي الصواب.. وهذا ما عناه جون ميلتون ب«ميكانزمات التصحيح الذاتي»، التي تعني أن الفكرة الصائبة هي التي تتفوق على الفكرة الخاطئة وتتجاوزها عندما تتاح الفرصة للفكرتين للتداول والانتشار، أي أنه يطرح فكرة «السوق الحرة للأفكار» كآلية لتداول وصراع الأفكار (ماكويل، 2000).
تمثلت حرية الصحافة، أول ما نشأت، في صراع بين الصحافة وشكل من أشكال السلطة كان في القرون الوسطى هو الكنيسة، ثم تحول إلى الحكومات. وباختصار، فإن حرية الصحافة هي الحرية من القيود، وهذا ما عبّر عنه التعديل الأول في الدستور الأمريكي عام 1791، والذي يؤكد على أن الكونجرس -وهو المؤسسة التشريعية- لا يجب أن يصدر قوانين تتعارض مع حرية التعبير أو حرية الصحافة. وقد لخَّص جان كين (1991) في كتابه «الإعلام والديمقراطية» الجدلَ حول حرية الصحافة في أربعة اتجاهات تاريخية تناولت هذا الموضوع:
الاتجاه الديني، الذي مثله جون ميلتون في منتصف القرن السابع عشر، وفيه عارض القيود على حرية التعبير من منطلق أن الفرد -رجلا او امرأة- قد باركه الله بنعمة العقل ومكنه من القراءة والحكم المبني على الضمير. ومن هنا، فحرية الصحافة ضرورية لكونها تساعد على تطوير نوازع الخير لدى الأفراد، وينبغي أن تتعرض للاختبار، بصفة منتظمة، بتعريضها على آراء متباينة وخبرات منوعة.
الاتجاه السياسي، ومثّله جون لوك، في مطلع القرن الثامن عشر، وفيه رأى أن حرية الصحافة ينبغي أن تنطلق من مبادئ حقوق الفرد الطبيعية المتمثلة في حقه في أن يقرر ويختار في كل مناحي الحياة، الدينية والسياسية وغيرها.. ومن حق الفرد أن ينشر ويُعبِّر عن آرائه بدون أي قيود تفرضها الحكومات.
الاتجاه النفعي، ويمثله كل من بينثام وميل، وكلاهما يعتقدان أنه من أجل أن يعمل النظام السياسي بشكل اعتيادي، يجب أن تكون في المجتمع ميكانيزمات تفعيل للتعبير عن الرأي العام، ويرى كل منهما أن الرأي العام هو الضمانة الرئيسة لعدم إساءة استخدام الحكم أو إساءة استخدام التشريع في المجتمع. وهكذا، فإن حرية الصحافة تهيئ وتخدم التعبير عن الرأي العام. ويضيف ميل أن الشعب لا يستطيع أن ينتقد حكومته إذا لم تقدم له المعلومات كاملة عن الشخصيات التي تدير الشأن العام في المجتمع، وهذه مهمة الصحافة الحرة.
ومثل الاتجاهَ الرابع جون ستيوارت ميل، الذي انتقد المذهب النفعي، الذي جعل من حرية الصحافة ضرورة براغماتية. ويرى ميل أن التداول الحر للأفكار، من خلال الرأي العام، هو مطلب أساسي لمجرد الوصول إلى الحقيقة. وقد تبنى المؤسسون الأمريكيون -على وجه الخصوص- أفكار ستيوارت ميل وجعلوها منطلقا لمفهومهم عن دور الصحافة في المجتمع، ونادوا بالتالي بحرية الصحافة. ويعتقد الكثيرون أن الفكر الذي طرحه ميل في هذا الخصوص يعطيه الأبوة الشرعية للصحافة الليبرالية في العالم (ويليامز، 2003).
وقد أشار ثومبسون (1995) إلى أن هؤلاء المفكرين الكلاسيكيين قد رأوا أن حرية التعبير عن الآراء، من خلال صحافة مستقلة، هو الضمان الأساسي لتنوع وجهات النظر، وما يتبع ذلك من تنوير لآفاق الرأي العام. وتلعب الصحافة الحرة والمستقلة دورا محوريا في حراسة المجتمع ومؤسسات الدولة.
نظرية المسؤولية الاجتماعية للإعلام
تنطلق هذه النظرية من محاولة إيجاد توازن بين مفهومي الحرية والمسؤولية. ونظرا إلى تزايد النقد ضد الصحافة، مع مطلع القرن العشرين وخلال العقود الأولى منه، نتيجة اعتماده على الإثارة والمنطق التجاري، ونتيجة الاحتكارات والإنحيازات السياسية لهذه المؤسسات في الولايات المتحدة، تكونت لجنة خاصة للنظر في هذه الأمور، بشكل عام، سنة 1942، تحت رئاسة هتشنز، رئيس جامعة شيكاغو. وقد وضعت هذه اللجنة نصب عينيها مهمة التحقيق في ما إذا أخفقت أو نجحت الصحافة الأمريكية في أداء دورها الاجتماعي وتحديد مواقع الحرية التي ينبغي على الصحافة أن تتوقف عندها، ومدى تأثير الضغوط الحكومية أو الإعلان التجاري على حرية العمل الصحافي.
وقد أعدت اللجنة تقريرها عام 1947، وفيه عكست نقدا لأداء الصحافة في عدم تهيئة الفرصة لأصوات أخرى غير تلك المؤثرة والمرتبطة بالقوى الفاعلة في المجتمع. وفي هذا التقرير، تم استخدام مصطلح «المسؤولية الاجتماعية»، لأول مرة، وانعكس في تحديد مسؤوليات واضحة ينبغي أن تعمل عليها الصحافة، بما في ذلك فسح المجال أمام مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية للتعبير عن آرائها واتجاهاتها بخصوص القضايا العامة في المجتمع. وقد أيقظت هذه اللجنة الحاجة في دول غربية أخرى (المملكة المتحدة والسويد) إلى تأسيس لجان للنظر في أوضاع الإعلام واقتراح حلول عملية في هذا الاتجاه. وعلى سبيل المثال، طرح بيكارد(1985) مفهوم نظرية جديدة أسماها النظرية الديمقراطية الاشتراكية للإعلام وحاول من خلالها تحسس التحولات في المجتمع الأوربي بخصوص دور وسائل الإعلام في المجتمع.
النظرية التنموية
ترتبط هذه النظرية بأوضاع الدول النامية وتعكس الدور المتوقع من وسائل الإعلام في المجتمعات النامية. ويرى ماكويل (1983) أن هناك تقاربا بين الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام وفق النظرية الشيوعية والدور الذي يقوم به الإعلام في الدول النامية في كون النظريتين تسعيان إلى تأكيد قيام الإعلام بواجبات سياسية واجتماعية لخدمة المصلحة العليا في المجتمع. وعكس ما تشير إليه النظرية الليبرالية، فإن النظرية التنموية تتوخى المعالجة المتأنية للأخبار المثيرة وترى أن نشرَها وبثَّها ربما يأتي بنتائج سلبية على المجتمع أو على الأوضاع السياسية والاقتصادية، بشكل خاص. ولا يؤمن الإعلام التنموي بمقولة إن الأخبار السيئة هي أخبار جيدة من وجهة النظر الإعلام «Bad news is good news»، لأنه يستدعي عناوينَ كبيرةً ومساحاتٍ وصفحات كثيرةً من التغطية الإعلامية. وفي المقابل، تتّجه وسائل الإعلام التنموية إلى مفهوم التغطيات الإيجابية، أو ما يسمى الإخبار الجيدة (good news) نظرا إلى كونها تدعم الأوضاع الداخلية في تلك المجتمعات، وتعطي أولويات رئيسة للثقافات المحلية. وقد تعرّضت النظرية التنموية للنقد من أنصار النظريات الليبرالية، على خلفية أن كل ما تقوم به وسائل الإعلام في الدول النامية، طبقا لهذه النظرية ليس إلا رقابة مباشرة وتشويشا على مصداقية وسائل الإعلام (واتسون، 2003). وهذا ما حذا بوكالات الأنباء العالمية ووسائل الإعلام الدولية إلى إهمال الأخبار والتقارير التي تأتي من وسائل الإعلام في الدول النامية، بحجة أنها مواد دعائية لا تستحق النشر أو البث..
من المسؤولية الاجتماعية إلى المشاركة الديمقراطية
تعتبر هذه النظرية امتدادا في المفاهيم والتطبيق للنظرية الليبرالية. وكما أشار إليها مكويل (1983)، فإن اتجاه النظرية هو في إعطائها قيمة عالية للأفقية الهيكلية لوسائل الإعلام، بدلا من الهيكلية الرأسية (المركزية) المعتادة في الإدارة الإعلامية لوسائل الإعلام في المجتمعات الغربية.
كما أن هذه النظرية تعطي أهمية قصوى لبدائل إعلامية جديدة، بعيدة عن الوجه التجاري والاحتكاري البحت، الذي تفيض به وسائل الإعلام الكبرى. وتؤكد هذه النظرية دورَ المستقبل الإعلامي في صناعة المادة الإعلامية، على عكس ما تقوم به وسائل الإعلام التقليدية في دور محوري للمرسل الإعلامي. وتسعى النظرية إلى كسر الاحتكار الذي تؤسسه المنظمات الإعلامية الكبرى، بإيجاد بدائل لوسائل الإعلام المحلية، باستخدام «الكيبل» التلفزيوني ومحطات إذاعية وتلفزيونية وصحف محلية. ولتعزيز هذا الدور، تعطى الجماعات المحلية والثقافات الفرعية أدوات إعلامية لتمارس دورها في تعزيز ثقافتها وحضورها الاجتماعي، وهذا الدور موجود في حالات عديدة في الولايات المتحدة، ولكنه ممارسة معروفة بشكل خاص في الدول الإسكندنافية (باران وديفيس). وتؤسس نظرية المشاركة الديمقراطية لحقوق المستقبل في الرد وإبداء الرأي وصناعة الموضوعات، وهي خليط من الليبرالية والمثالية والاشتراكية والمحلية (واتسون، 2003)، حيث إن تطبيقاتها في البيئة الليبرالية للمجتمعات الغربية تتسم بتركيزها على القضايا المحلية للبيئات التي توجد فيها وسائل الإعلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.