"الفلسفة الحقيقية تَسْخَر من الفلسفة [السائدة]!" ("بليز پسكال") من الشائع بين عامّة الناس أن "الفلسفة" ليست سوى "ثرثرة" (كثرة كلام) أو "لغو" (كلام بلا فائدة ولا معنى) أو "تعقيد وتكلُّف" (تعقيدٌ للبسائط ولُزومُ ما لا يَلزم)، مما يجعلها في أَعيُنهم مجرد "مَضيعة للوقت" بحيث تتحدَّد كممارسة نظرية و/أو عملية بلا جدوى. لكن قَبول هذا المنظور العامّيّ (والموقف المترتب عنه: رفض "الفلسفة"، بل تحريمها) يقود إلى جعل "الإنسان العادي" نفسه أكبر المشتغلين ب"الفلسفة"، إذ أن "الثرثرة" و"اللغو" و"التعقيد" من لوازم الحياة اليومية لدى معظم الناس الذين نجد بينهم أشد "الثرثارين" و"اللَّاغِين" و"المُتكلِّفين" على نحو يُؤكد أنهم لا يحرصون على شيء بقدر ما يحرصون على تضييع الوقت من خلال تعاطي كل ما يُسلِّي ويُلَهِّي، بحيث تَثبُت جدوى "الفلسفة" بما هي "مَضيعة للوقت" فتدخل، بذلك، ضمن اهتمامهم اليومي! غير أن العجيب هو أن المرء لن يَعْدَم بين المُنتسبِين إلى "الفلسفة" ("أدعياء التفلسف") من يأتي تفلسُفا هو أقرب، بالتأكيد، إلى "الثرثرة" و"اللغو" و"التعقيد/التكلُّف" من حيث إن هناك كثيرا من "المُتفلسفين" يَستغلُّون ما تُحاط به "الفلسفة" الصناعية من صُنوف "التعقيد" و"التكلُّف" و"التعمُّق" فيأخذون في ممارسة نوع من الكلام النافِل والباطل والمُستغلِق! وعلى الرغم من أن واقع الممارسة الفكرية بالعالم العربي-الإسلامي يشهد بأن كثيرا من المُتفلسفة ليسوا سوى أدعياء للتفلسف، فإنه ليس من الصعب أن تجد بينهم من يَظُنّ (أو يُظَنّ به) أنه يُضاهِي، بل يَبُزّ عُظماء الفلاسفة المعروفين في الماضي أو الحاضر (مثلا: أفلاطون، أرسطو، ديكارت، كنط، هيغل، نيتشه، هُسُّرل، هيدغر، فتغنشتاين، راسل، هبرماس، پوتنام، رُورتي، تيلور). تُرى، ما حقيقة "التفلسف" العربي المعاصر وما مقامه في العالم الحاضر؟ بعيدا عن أسطورة أن "الفلسفة" لا تَقبل التعريف بدعوى أن "السؤال عنها" يتحدَّد ك"سؤال فيها" (فيصير بذلك مُقَوِّما أساسيا لها كما يُؤكِّد كثير من الفلاسفة)، يُمكِن (ويجب) أن يُنظَر إلى "الفلسفة" بصفتها «ٱشتغالا خاصّا بكيفية الانتقال من حال "الغَفْلة المُطبِقة" إلى حال "اليقظة الشاملة"» على نحو يجعل "التفلسُف" يتحدَّد أساسا ك«سعي لتحصيل أكبر ما يُمكِن من "التَيقُّظ"». فإذا كان "الإنسان العادي" غارقا (أو مُغْرَقًا) في خِضَمّ مُجريات الحياة اليومية ومَطالبها بشكل يُورِثُه "غَفْلةً" تُبعِده عن التفكير في حقائق الأشياء بهذا العالم، فإن "الفلسفة" ما فَتِئت تُحدَّد ك"دهشة" (أو "تعجُّب") و"شكّ" (أو "ٱرتياب") و"ٱهتمام قَلِق بالوجود" (اهتمام بوجود الذات ومكانتها في هذا العالم)، بحيث يكون "المُتفلسف" ذاك الشخص الذي يَملِك أن يندهش مُتعجِّبا فيتساءل مُتشكِّكا (في قُوَاه ومُدركَاته) ويَقْلَق، من ثم، لِيهتمّ بوُجوده الخاص ضمن الوجود العام. ومن البَيِّن أن هذه هي حال من أمكنه الخروج من "الغفلة" التي تجعل الناس، عادةً، مُتبلِّدي الأحاسيس كأنهم لا يشعرون، حيث إنهم يستسلمون لمعطيات "الحس المشترك" كبداهات يقينية، فلا تكاد تَراهُم قلقين جدّا بشأن وجودهم في ذاته ومقامهم بين أشياء وكائنات هذا العالم. لذلك، فإن "المُتفلسف" لا يَرْكَن إلى "المألوف" و"الشائع" كما يفعل "الإنسان العادي"، بل يَجِدُ في أحقر وأتفه الأمور ما يُثير أكبر دهشة ويدفع إلى أعمق تعجُّب. فما يبدو واضحا وبديهيا في الاستعمال العادي لا يكون كذلك في نظر "المتفلسف" الذي يَلمَس فيه من "الإشكال" (أي "الغُموض" و"الِالتباس") ما يُحَرِّك في نفسه أكثر من سؤال، بحيث إذا كان "الإنسان العادي" يَستسهلُ الأمور فيَقبَل كل ما يُعطيه إياه "الحس المشترك"، فإن المتفلسف يجد نفسه "يستشكل" باستمرار "مُعطيات الحواس" ويُراجِع "الفِكَر الشائعة" ليكشف تناقُضها ويُبيِّن خُلُوّها من الِاتِّساق وعدم كفايتها المعرفية، باحثا بذلك عن فهم يتجاوز "الظاهر" و"المألوف" و"بادئ الرأي" حتى على مستوى الاستعمال اللغوي السائد. ومن ثم، فإن ممارسة "السؤال" (كتعجُّب دائم واندهاش شامل) تجعل "التفلسف" يتحدَّد أساسا ك"ٱست-شكال" (« problématisation ») يقود إلى بناء ما هو "عادي/مألوف" أو "واضح/بديهي" في صورة ما هو "مُشكِل" أو "إشكالي" (« problématique »)، أي له أكثر من وجه ويَقبَل أن يُنظَر فيه من أكثر من ناحية (يَحتمِل إمكانات متعددة من الإجابة)، مما يجعله شديد الصعوبة ويُبقِيه موضوعا للتساؤُل. ويتم "الِاست-شكال" (كمُراجعة للمعتقدات الراسخة لِاطِّراح الأحكام المُسبقة وإعادة النظر في "الفِكَر الشائعة") بقصد "طلب الفهم" من خلال "بناء المفاهيم" وتحديدها ("الِاست-فهام" بالمعنى الحقيقي)، أي أن طلب إزالة الغُموض والِالتباس يصير طلبًا لبناء مجموعة من الأسئلة الأساسية والمترابطة التي تتحدَّد بأنها ذات "طابع إشكالي" (أي أنها تَتَّسمُ ب"الإشكاليّة" [« la problématicité »])، والتي تُبَلْوِر -بكل صفاتها تلك- في ذهن ونفس المُتفلسف "مُشكِلًا" أو "مُشكِلة" (« problème ») يُحْتَاج إلى تناوُله (أو تناوُلها) بشكل منهجي يأخذ بعين الِاعتبار "الطابع الإشكالي" (« problématicité ») الذي يجعله (أو يجعلُها) يتحدّد/تتحدّد ك"إشكال" حول موضوع ما وخاصّ بمجال مُحدَّد ("إشكال" في مقابل اللفظ الفرنسي « une problématique »، وهو اللفظ الذي لا نحتاج في نقله إلى تأنيثه كما شاع بين الناس، وإلَّا لَٱنتقلنا إلى المعنى الآخر:" "إشكالية" بمعنى "الطابع الإشكالي" المُميِّز لشيء ما). إن "الِاست-شكال" كمُساءلة نقدية ليرتبط ب"طلب تحصيل الفهم" الذي يقود إلى الِاشتغال ب"بناء المفاهيم" ك"است-فهام" (« conceptualisation ») يَنْصبّ على تحديد المُحتوى الدلالي والتصوُّري للكلمات ك"فِكَر عامّة ومُجردة" تقبل أن تَأتلف (أو تُؤلَّف) فيما بينها لتركيب عبارات تَدخُل في علاقات ترتيبية وتراتُبية تجعلها في صورة مُقدمات تستلزم، على نحو معين، نتائج خاصة. وهذا "الترتيب" و"التراتُب" على مستوى "الفِكَر" (كمحتويات دلالية مُلازِمة لتأليف الجُمل وتنسيق العبارات كبناء مُترابط ومُحكَم) هو الذي يجعل "الِاست-شكال" و"الِاست-فهام" كليهما يَؤُولان إلى "الِاست-دلال" (« reasoning/raisonnement ») الذي هو "طلب/بناء الدليل" (خصوصا ك"حِجَاج" بلاغي وخِطابي في اللغة الطبيعية « argumentation ») والذي يُعَدّ قِوام "التفلسُف" كتفكير عقلي يدور فيه الِانتقاد والِاعتقاد مع "الدليل" حيثما دار. يتبين من ذلك أن "التفلسُف" عملٌ يَنهض بتحصيل "المزيد من اليقظة" من خلال الاجتهاد الجادّ والدائم في ممارسة ٱستشكالية-ٱستفهامية-ٱستدلالية كفيلة بابتكارٍ مُستقِلّ لكيفياتٍ في الفكر والفعل جديرة بالإنسان ككائن مُتعقِّل ومسؤول. وتحديدُ "التفلسُف" على هذا النحو يقود إلى التساؤُل عن حقيقة ممارسته في المجال العربي-الإسلامي. فماذا نجد من ابتكار أو إبداع في "الإشكالات" و"المفاهيم" و"الأدلة" على مستوى خطابات وكتابات المُتفلسفين العرب و/أو المسلمين؟ لا يخفى أن ثمة صلة وُثْقَى بين "التفلسُف" و"اللغة"، ليس فقط من حيث إن ٱشتغال كثير من كبار الفلاسفة كان تأمُّلا في وُجوه وشروط ٱستعمال "اللغة" أو في إمكاناتها وحُدودها، وإنما من جهة كون "التفلسف" يتحدّد أساسا كممارسة ٱستشكالية-ٱستفهامية-ٱستدلالية لا تَنْفَكُّ عن الفَعَالِيّة اللغوية. وإذا كان هذا الأمر ليس بغريب، باعتبار أن "اللغة" جهةٌ أساسيّة من جِهات "الوجود" و"الفعل" الإنسانيين، فإن المستغرَب بالفعل إنما هو أن "التفلسف" العربي (أي الذي يستعمل اللسان العربي) ظل محكوما بنوع من التوتُّر والقلق في علاقته بلغة الاستعمال، إلى الحد الذي لا نَعْدَم معه أن نجد "المتفلسف" العربي يأتي -في معظم الأحيان- من أشكال التعبير ما لا يُستساغ في لُغته وما لا تكاد تُخطِئُه عين الناقد أو أُذنُه، مما يُؤكد بلا ريب ٱستهانته و/أو عدم تَمكُّنه من اللسان المستعمل. ولعل أغرب ما يُمكِنُك أن تُصادفه، بهذا الصدد، أن بعض المُتطفِّلين على التفلسف صاروا يَتَّخذون من ضعف مَلَكتهم اللغوية في "العربية" موضوعا للتفلسف بشكل يُبْدِي، في الواقع، تَحذلُقهم ويُؤكد استخفافهم بهذه اللغة (والعجيب أنهما تَحذلُق واستخفاف سرعان ما يزولان حينما يُفرَض على أحدهم أن يُعبِّر بلغة أخرى، حيث لا يُتْرَك عادةً أي مُتَّسع لِأنواع التساهُل أو الاستسهال!). وأكيد أن ظهور كون "التفلسف" أوثق صلة باللغة لا ينبغي أن يُفهَم كما لو كان يُعبِّر عن إرادة لإغراقه في أَوْدِيَة اللغة أو دَفْنه في كُهوفها، بل إنه ليأتي من أجل تفادي ذلك المصير المُحزِن الذي تؤول إليه أعمال كثير من المُتفلسفين الذين يَستخِفُّون باللغة المستعملة إلى الحد الذي لا يَعُودون معه قادرين على التمييز بين فوائد الكلام المستقيم وعيوب الكلام المُعوجّ، على نحو قد يُيسِّر لديهم الانزلاق إلى قَبُول كُلّ ما يُلقَى به إليهم من شبيه الكلام أو ما يُلْقُون به، هم أنفسهم، من عَواهِنِ القول. ذلك بأن تأكيد أن "التفلسف" إحكامٌ لِلُّغة يُعدّ، في الآن نفسه، تأكيدا لكون إحكام اللغة لا يكون من دون التحكُّم في ٱنسيابها التلقائي أو جُموحها الطبيعي خارج كل ٱنعكاسية نقدية تَسهَر على تعطيل ٱشتغال اللغة تحت إِمرة نوع من "اللاوعي" الاجتماعي واللغوي الذي يجعل المُتكلِّم، في معظم الأحيان، ناطقا باسم العالَم الاجتماعي حيث نُشِّئ فأُنشئ فاعلا على الرغم منه. ولعل مما يزيد أزمة الخطاب الفلسفي العربي إنما هو كونُه ظل، بأكثر من شكل، مُرتهنا للترجمة كعمل ناقل. فالفلسفة كصناعة لم تَقُم، في الأصل، لدى العرب إلا بفضل الترجمة. ولقد بَقِيت، منذ أن ظهرت الحاجة إلى استئنافها، حبيسةَ النقل من اللغات الأجنبية، ليس فقط لمُصطلحاتها، بل أيضا للفِكَر والمعاني، كما لو كان التفلسُف بالطبع حِكْرا على أصحاب تلك الألسن ومُخاصِما للِّسان العربي. لذا، فإن "المُتفلسف" في المجال العربي-الإسلامي لا يكاد يستقل في وضع إشكالاته ومفاهيمه وبناء أدلته عما يتِمّ على مستوى الفكر الغربي من أنواع التفلسف حسب تعدّد المجالات واختلاف اللغات. إذ أنه، في الغالب، يُكرِّر ويستنسخ كل ما ينتهي إليه من ذلك من دون أن يُحسِن نقله ولا أن يَظهَر على مختلف الأسباب المُحدِّدة لإنتاجه وتداوُله الخاصيَّن. ونجد، بهذا الصدد، كثيرا من التعابير الفاسدة التي تدل على تعثُّر وإخفاق المتفلسفين بين ظَهْرَانَيْنا على مستويات الاستعمال اللغوي والتوليد المصطلحي والنقل الترجمي، وبَلْه ضُروب الاستشكال والاستدلال التي يأتونها في ما يَدَّعونه من تفلسُف. ذلك بأنهم، في مُعظمهم، لا يتورَّعُون عن اللحن في استعمال الألفاظ (عدم التمييز بين "حُجَج" [جمع "حُجّة"] و"حِجاج" [اسم بمعنى "مُحاجّة" من "حَاجَّه"]، "يُنفِي" بدل "يَنْفي"، "يُصيغ" بدل "يَصُوغ"!) وفي مخالفة ضوابط التركيب (تَعْدِيَة الفعل بما لا يُعدَّى به: مثلا، إطباقهم على القول ["قَطَع معه"] بدل "قَطَعَه" أو "قطع صلته به" أو "انقطع عنه" بمعنى "نَبَذه/ٱطَّرَحه" ومن ثم "القطيعة عن الشيء" و"الانقطاع عنه" وليس ["القطيعة معه"] ؛ وكل هذا تعثّر منهم في نقل التعبير الأجنبي « rompre avec/to break with » !)، والنَّسب إلى الجمع من غير داعٍ ("أَلْسُني" بدل "لِساني" ؛ "مفاهيمي" بدل "مَفهُوميّ" ؛ و"علائقي" بدل "عَلَاقِيّ" ؛ و"نماذجي" بدل "نموذجي" ؛ "مُؤسساتي" بدل "مُؤسَّسي"!). كما أنهم يحرصون على تعنيف "العربية" في نقل المصطلحات، حيث إنهم يُؤنِّثون ما حقّه التذكير ("عدالة" بدل "عَدْل" ؛ "استقلالية" بدل "استقلال" ؛ "شُمولية" بدل "شُمُول" ؛ "إشكالية" بدل "إشكال"!) أو العكس ("مَوضوعة" بدل "مَوضوع" في ترجمة « thème/notion » ؛ "مَصُوغة" بدل "مَصُوغ" في ترجمة « module » ؛ "مَجْزوءة" بدل "مَجْزوء" في ترجمة المصطلح نفسه!)، ويَشتقُّون من الأسماء ما لا يستقيم ("أَشْكلةٌ" بتعدية فعلٍ لازم في الأصل ["أشكلَ الشيءُ"] ! ؛ "مَفهمةٌ" من فعل غير موجود ["مَفْهَمَهُ"] ! ؛ "مأسسة" من فعل لا يستقيم ["مَأْسسهُ"] !)، ويضعون بكل تكلُّف وتَمحُّل مصطلحات لا حاجة إليها (["أُفْهُوم"] بدل "مفهوم" ؛ ["سِسْتام"] و["منظومة"] و["نَظِيمة"] بدل "نسق" و"نظام")، ويميلون إلى تعريب المصطلحات بدل نقلها تأصيلا اشتقاقيا (["إيديولوجيا"] بدل "أُفكُورة" أو "فِكْرى" أو "فِكْرانية" ؛ ["فينومينولوجيا"] بدل "ظاهريات" ؛ ["هرمينوطيقا"] بدل "تأويليات"!)، بل يُخطِئُون في نقل كثير منها (["ذَرائِعية"] في مقابل "براغماتيزم" بمعنى "فلسفة الفعل" أي "فِعْلَانِيّة" التي أحد أنواعها "الوَسِيلِيّة" ؛ ["حَفْريّات"] في مقابل "أركيولوجيا" بمعنى "علم رَبائِد الخطاب" أو "رَبَدِيّات" ؛ ["التفكيك"] بدلا من "النَّقْض" في مُقابَلته ل"البناء"!). وأما على مستوى النقل الترجمي، فإنّ ثُبوت الإخفاق في نقل ألفاظ بعينها يُشير إلى وجود إخفاق أكبر في نقل عبارات أطول ونصوص أعقد. ولعل عبارة "الكوجيطو" الديكارتي (« je pense, donc je suis ») أشهر مثال في هذا المجال، حيث تضاربت النُّقُول والترجمات إلى حدِّ نَقْض المعنى وتهويله كما هو مُؤكَّد في مَظانّه على الرغم من مُكابرة المُتنطِّعين. ويكفي أن يُشار، هنا، إلى أن ترجمة النصوص إلى العربية تُحوِّلُها، في كثير من الحالات، إلى مُعمَّيَات وألغاز تُحْوِج إلى الاستعانة من جديد بالترجمان والشارح! وحينما نأتي إلى الممارسة النقدية، التي يَعُدّها كثيرون أخصّ ما يُميِّز تفلسُفهم، نجد أن نقد "المتفلسف" العربي يَتوجّه نحو المواضيع ذات الامتياز ("التراث"، "العقل"، "الحداثة")، كأنه لا يستطيع أن يَضمن قيمةَ عمله النقدي إلا بإسناده إلى ما يَكتسي مُسبقا أهميةً في التداول العام! ومن العجيب أن "النقد" المُنْصبّ على "التراث" يَؤُول، بين يدي "المتفلسف" العربي، إلى "نَقْضٍ" يُقَوِّض البُنْيان القِيمِي ل"تُراث" كان هو الأصل في "حضارة عالَمية" استمرت عدة قرون، فإذا بهذا "التراث" يتحول، من خلال مُهاتَرات أدعياء التفلسف، إلى «لَاشُعور إديولوجي جماعي» واقع إما تحت وَطْأة استعمال "لَاتاريخي" لآلية "المُقايَسة" ("قياس التمثيل") أو آلية "المُفارقة" ("القياس الفاسد") وإما تحت نِيرِ مركزيةٍ لُغوية وقومية تَعرِض نَمَطها الخاصّ في "العقل" ك"شَرْع" كُلّي ومطلق خارج كل تحديد اجتماعي وتاريخي. وأعجب من هذا أنّ تناوُل "المتفلسف" العربي ل"العقل" و"التراث" يأتي من موقع يتحدَّد كجهل أو تجاهُل لواقعَيْهما في الماضي والحاضر معا. فَمَنْ ٱختص بنقد "العقل التراثي" (سواء أَسَمّاه عربيا أم إسلاميا)، يصطنع لنفسه بالتَّشهِّي موضوعا هُو أبْعَد ما يكون عن الموضوع الأصلي لكي يَسهُل عليه بناء خطاب هِجائي يَصِمُ ولا يَصِف، ويُفَرِّس (أي "يُذَبِّح") ولا يُفسِّر! ومن ٱتَّخذ من "الحداثة" موضوعا لِتَفلسُفه، تجده يَنْقُل نُتَفًا من هنا وهناك عاملا على تَرتيقها من أجل إعلاء شأنه ب"التخريق" وليس ب"التخليق"، كما لو أن "الحداثة" يكفي في حصولها مجرد "الحديث" عنها و"التحادُث" بها بشكل مُستهلِك ومُستهلَك كل شأنه أن يُغْنِي عن السعي الفعلي إلى "إحداثها" (أو إبداعها)، حتى لو تم ذلك بالِانقطاع عن المسارات المُوطَّأة! تُرى، كيف يكون فيلسوفا من لا يستطيع أن يُبِين عن فكره إلا ٱستسهالا للنثر أو ٱستسلاما لِغَواية الشعر؟! وكيف يكون فيلسوفا من لا يرى في الإحكام الأسلوبي والتشقيق البياني والتوليد الاصطلاحي إلا لَعِبا لُغويا يُوصَم في ظنه، لغوا وسهوا، ب"اللَّغْوانيّة"؟ وكيف يكون فيلسوفا من لا يستطيع أن يرى في التحليل والتنسيق المنطقيين إلا وُقوفا عند الصورة المنطقية للفكر، ليس بمعنى الوقوف الذي يستبدل -كما ثَبَت في نقد الراسخين- "أشياء المنطق" مكان "منطق الأشياء"، وإنما وُقوفا يكفي لوصفه -في ظَنّ أدعياء التفلسُف- نَحْت صفة المبالغة لِنَعْته ب"المنطقانية"؟! وكيف يكون فيلسوفا من لا يُحسِن سوى تمجيد القُدامى من المُقلِّدين أو مُحاكاة المشاهير من المُحدَثِين من دون الاقتدار على تجاوُز الجميع نحو الإبداع المستقل؟! أَلَا إِنّ من كان ذاك شأنه في "التفلسُف"، لا يكون مُشتغلا ب"الحكمة" طَلَبا لها ووُقوفا عندها (بممارسة "الاست-حكام" الذي هو قِوام "التفلسف")، وإنما يصير مُدَّعيا لها ومُتظاهرا بها (ب"التَّحاكُم" و"التَّحكُّم" الذي هو الأصل في التضليل "السُّوفِسطائي" كما هو معروف). وإنه لَيَجدُر بمن كانت هذه حاله أن يُسمَّى "إِفْلِيس" (مِن "أَفْلَس" على غِرار ٱسم "إبليس" من "أَبْلَس")! وإذا كان من المقبول أن تتفاوت أقدار المُتفلسفين ومقاماتُهم بحيث يُميَّز فيهم بين "الفيلسوف" (المتمكِّن والمُجيد) وبين "الفُلَيْسِيف" (الناشئ والمجتهد)، فإنّ ما لا يُحتمَل قَبُوله أن يَغْتَصِب بعض الأدعياء المقام الأكبر ل"الحكيم" (المُتبحِّر والواصل) باسم التعالُم المُسيَّب والِاستكلاب المُتواقِح، في حين أنهم يَبْقون مجرد أدعياء لا يَرقَوْن إلى مقام "الفلاسفة"، بل يَنزلون دونه دَرَكاتٍ يَتَّضِعُون بها تماما لإفلاسهم في "التفلسُف" فيكونون جديرين باسم "أَفالِسة" ما فَتِئُوا يَتفَالَسُون (على شاكلة "أبالسة" يَتبالسُون) في واقع صار يَعِزّ فيه الاجتهاد الجادّ للانفكاك عن إغراءات "خطاب اللَّغوى" كما يستسهله أدعياء التفلسُف تحت شَتّى العناوين والشعارات! [email protected]