هل هنالك فكر عربي معاصر خالص، لا ينتسب إلا لنفسه، لجهة الأسئلة والمشكلات النظرية، وكذلك لجهة المفاهيم والبناء والتنظيم الداخليين؟ وهل هو مستقل عن الخطاب الفلسفي الحديث والمعاصر؟ وهل ثمة أصالة حقيقية في سماته وأطاريحه؟ وفي الأصل يجدر بنا التساؤل هل هنالك فلسفة عربية معاصرة تشكل إطاراً نظرياً شاملاً للفكر العربي، ويعدّ الأخير نسقاً إيديولوجيا من أنساقه؟ يبدي العديد من المفكرين العرب ومؤرخي الفلسفة حماسة للقول بوجود فلسفة عربية معاصرة. ويلجأ هؤلاء إلى نوع من التحقيب التاريخي لها، أو نمط من المركزية والمركزية المضادة. وهذا ما يتعارض تماماً مع الوعي الفلسفي بصفته وعياً تاريخياً كليّاً بالعالم وبمشكلات الوجود، ويتعارض مع غاياته. فالمبدأ الرئيس هو أن الفلسفة واحدة في حقيقتها، وغاياتُها أعمق وأشمل من أن يتمّ حصرها في هوية تاريخية أو أيديولوجية معينة. وهذا يعني أن السؤال الفلسفي لا يكون كذلك ما لم يَتسِم، من حيث النشأة والديمومة، بالشمولية والكونية. وهذا المبدأ ليس تعميماً مجرداً أو شكلياً فحسب، وإنما يغدو واقعاً ملموساً حينما يتم الشروع في البحث التاريخي للفلسفة وفي تخصيصها وتعيينها. إذاً، كيف نؤرخ للفلسفة؟ وما معنى الحاجة إليها، وكيف تنشأ الأخيرة؟ وهل ثمة تجربة فلسفية أصيلة يمكن تسميتها بالفلسفة العربية المعاصرة؟ بقول آخر، هل أنتج التاريخ الحديث والمعاصر للعرب رجالاً هم حقاً وفعلاً أهل للقب الفلاسفة؟ ثمّ هل أبدع هؤلاء، بدورهم، أنساقاً فكرية ترقى إلى مستوى القول: إنها تشكل خطاباً فلسفياً أصيلاً ومعاصراً؟ أيّ سؤال فلسفي شغل وعي هؤلاء وهيمن على تفكيرهم؟ وما هي المشكلات النظرية التي شغلت فلسفاتهم؟ هل هي أسئلة التاريخ المتخمة بالمطالب الأيديولوجية العملية، أم أنها أسئلة نظرية مجردة ليست نائية عن الفضاء الميتافيزيقي؟ وهل السؤال الفلسفي لديهم أصيل ومبتكر، ومتقدم بالمعنى الكوني؟ ما علاقة هؤلاء مع الفلسفة الإسلامية ومع تاريخهم؟ وما أثر الإسلام والخطاب الإسلامي في تجاربهم النظرية؟ ثم ما طبيعة علاقاتهم مع الفلسفات الحديثة والمعاصرة، بصفتها فلسفات عالمية، وتجارب أصيلة؟ الحق أن بداهة هذه الأسئلة وغيرها تفرض نفسها على وعي كلي منشغل بتاريخ الفلسفة. وتثير معها حزمة مشكلات تتصل بتعريف الفلسفة وطبيعة موضوعاتها ومناهجها وتاريخها. إن التعارض الرئيس الذي ينبثق عن محاولة التأريخ للفلسفة، هو ذاك الذي يتم بين غاية الفلسفة، ونعني بها معرفة الكلي، الدائم والخالد، وبين رغبة تحقيبها في سياق تاريخي أو ثقافي نسبي ومحدد. فهل الحقيقة الكلية والمطلقة تدخل في دائرة التاريخ النسبي وتتحدد به؟ من غير المنطقي الادعاء أن هنالك جوهراً ثابتاً للفلسفة، أو أن الحقيقية الفلسفية راسخة منذ الأزل، معطاة ومنجزة على نحو تام. فالإرث الفلسفي الذي بات مألوفاً لدينا، وفي متناول يدنا، لم يأت عفوياً، ولم يخرج فقط للتو، وإنما هو نتاج ومحصلة كدح جميع الأجيال السابقة من الجنس البشري. حيث ندين بما نحن عليه، الواقع الراهن للفلسفة، إلى ذلك الإرث التاريخي الذي يتخطى كلّ ما هو عابر ومحدد، أو منجز. وهو لم يكن قط في يوم من الأيام إرثاً ثابتاً، في الكم والنوع. وإنما كان إرثاً يزداد ويكبر كنهر جارف بقدر ابتعاده عن مصدره أو رحمه الأصل. ولم يكن كذلك تمثالاً حجرياً، صلباً وجامداً، كما كان هيغل يقول، ولكنه كان كائناً حياً ينمو ويتشكل ويتضخم. لهذا يمكن القول إن الحقيقة الفلسفية لها أن تتعين في سياق تاريخي معين، دون أن تفقد طابعها الكلي أو الشمولي، أو أن تحصر مصيرها به أو تنسب إليه فحسب. والتاريخ يعلمنا أن ثقافة ما لأمة بعينها يعتريها الجمود في برهة من تاريخها، فيبارحها الروح الحية اليقظة للتفكير الفلسفي لأمد غير قصير، كما كان حال الأوروبيين في العصور الوسطى قبل أن يصبحوا أوصياء على التفكير الفلسفي الحديث والمعاصر. فهذه الروح لا تمكث على حال في هذا السكون أو الغياب المطلقين. والتاريخ ذاته يظهر لنا أن الفلسفة لا بدّ لها أن تثبت حضورها كونياً في سياق زمكاني آخر. حتى تحقق صيرورتها وتستمر. إذاً ليس ثمة انقطاع على الصعيد العالمي في فعالية الفلسفة، ذلك أن غواية التقدم هي التي تدفعها إلى الالتصاق بالتاريخ والبشر أو الأمم الأكثر تقدماً ويقظة ونشاطاً. إن ما نفترضه هنا هو أن الفلسفة لا تكترث كثيراً بالتباين في الدور الحضاري لأمة ما، أو بين الأمم في زمن ما، أو بالصدوع والتفاوتات التي تحدث هنا أو هناك، إلا بالقدر الذي تستجيب لنزوعها إلى تجاوز ذاتها، وتوقها إلى تخطي منزلتها القائمة، ويتوافق مع سيرورتها بصفتها وعياً كونياً بالعالم، وتحقق انتظامها الشامل. الفرض الآخر، الذي نسارع إلى طرحه في هذا السياق، هو إن وجدت فلسفات شتى، تعيّنت على أنحاء متنوعة، فإن الفلسفة تظلّ واحدة في سيرورتها، وهي تشكل فلسفة واحدة في تواصلها. ويمكنها بمعنى ما أن تكون هي الفلسفة الحقيقية في وحدتها بصفتها تعبيراً عن حضور الوعي الإنساني الكلي. وهي وإن أكدت ذاتها وبرهنت على انتماء ما لبرهة تاريخية معينة، وعرّفناها على هذا الأساس، إنما تظلّ فلسفة وتشكل معرفة فلسفية واحدة. ومن المهم أن نعرف ماذا يعني هذا التنوع في المنظومات الفلسفية؟ وما دلالات هذا التحقق في الزمان والمكان المعينين؟ ثم ما هي طبيعة علاقة مضمون فلسفة ما بتعيّنها التاريخي؟ تهتم الفلسفة بالوحدة المطلقة للتنوع القائم في العالم، وهي تبرهن على هذه الحقيقة العامة في كل ما هو خاص ومتعيّن. حينما تتماهى مع واقع متقدّم وتنتسب إلى تاريخه، وتكون الفلسفة أكثر كمالاً في تطورها كلما كانت أشدّ التصاقاً بتاريخها. فالفلسفة نظام واحد وشامل من حيث نموُّها وسيرورتها الداخلية، لكنها تغدو حقيقة خاصة، ملموسة ومتعينة، لجهة تحققها الخارجي وانتمائها ظاهرياً إلى التاريخ. ونعني من منظور تطورها كظاهرة في الزمن، ويكون لها تاريخها الخاص. إن هذا الوجود في الزمان المحدد، مستلهماً عبارات هيغل، ليس سوى برهة متناهية من سيرورة دائمة ولامتناهية، ولحظة من لحظات وعيها التاريخي بالتقدم، حيث تتخارج الفلسفة في دوائر الفكر و في ثقافة شعب أو أمة قادرة على أن تحقق في ذاتها شمولية التقدم التاريخي حتى هذا الوقت، وتعبر في ذاتها عن التقدم المتنامي للواقع الإنساني في شموليته. وبمعنى من المعاني تغدو الأمة منتسبة إلى الفلسفة، لا العكس، ومنتمية إليها ومحددة تقدمها بتقدم الفلسفة. لأن الأمة في هذه الحالة لا تستطيع أن تفصح عن شمولية وعيها وتقدمها إلا من خلال هذا الشكل وحده، ونعني الوعي الفلسفي. هكذا استطاع الإغريق أن يثبتوا حضورهم الشامل على صعيد التاريخ العالمي، لا من خلال العمل العسكري وانتصارات المقدوني بقدر ما أنجزوا ذلك من خلال منطق أرسطو وفتوحاته الفلسفية التي كانت أكثر عمقاً ودواماً وشمولية من سواها. لا مناص إذاً لدى عرض تاريخ الفلسفة في الزمان من كشف صلتها بالظروف التاريخية وعلاقتها الحميمة إذ تتعين في ثقافة شعب ما، وفي فكره وفنونه وأعرافه. فالشكل المتحقق لفلسفة ما يكون معاصراً لنمط متحقق ومحدد من الشعوب، يعكس روح هذا الشعب، وتنظيم حياته، والجوانب المتنوعة لإبداعاته المادية والنظرية. إن روح شعب ما وعصره يكون قائماً في الفلسفة، بصفتها البؤرة التي تكثف في ذاتها فكره ووعيه بذاته. وهي تعكس تفتح هذا الشعب وتقدمه ودرجة وعيه بذاته ومصيره في التاريخ. في ضوء ما سبق، يغدو الحديث عن فلسفة عربية معاصرة ادعاءًا لا يخلو من المجازفة المعرفية والمنهجية. مثلما يكون الكلام عن فكر عربي خالص أو محض، نظير الكلام عن الاشتراكية العربية، والإنسان العربي، والرسالة الخالدة للأمة العربية، كلامٌ يدعو للسأم والقنوط الفكريين ولا يستثير تفاؤل العقل. لقد اشتغل شطر كبير من منظري العروبة ومفكريها بالفلسفة، ومن هذا الموقع استعان هؤلاء بالخطاب الفلسفي لدى التصدي لأسئلة التاريخ والهوية والمصير. وهؤلاء وإن برزت لديهم قراءات فلسفية مائزة وتجارب، إلا أن تلك القراءات لم ترقى إلى مستوى القول الفلسفي المتماسك، ولم تكتمل لديهم إلى مستوى الأنساق الفلسفية أو المذاهب المتكاملة، سواء من جهة المفاهيم أو الرؤى، أو من جهة المناهج. هكذا غدت التيارات الفلسفية ومذاهبها الحديثة والمعاصرة مصادراً رئيسة للوعي الفلسفي العربي المعاصرة، وأخذ المفكر العربي يجتهد في ضوء مفاهيمها و أوالياتها النظرية ومناهجها. فقد استلهم الأرسوزي و ميشيل عفلق الفلسفة الألمانية في نسقها الفيشتي لدى مواجهة مشكلة حرية الأمة والتأسيس لمفهومها. واستعان طه حسين بالشكّ الديكارتي في منهجية بحثه، ومثله أيضاً قسطنطين زريق، وكذلك الأمر مع أهمية الديكارتية لدى عثمان أمين. وكان حضور راسل و رايشنباخ و كارناب صارخاً في وضعية زكي نجيب محمود المنطقية. إذ مضى صاحب كتاب( خرافة الميتافيزيقا، أو الموقف من الميتافيزيقا) في مواجهة تخلف الواقع العربي يبشر بالروح العلمية كسبب رئيس لنهضة الأمة. واتكئ فؤاد زكريا في كتابه( اسبينوزا و التفكير العلمي) على عقلانية ديكارت و اسبينوزا ليبشّر بقيم التسامح والعقلانية في مواجهة التعصب الديني. وكان هيديغر و سارتر و يسبرز حاضراً بقوة في وعي عبد الرحمن البدوي الوجودي، وكانت التومائية حاضرة في كتابات يوسف كرم وشروحاته الفلسفية، و تمتعت البرجسونية بذات الأهمية والمكانة في وعيّ بديع الكسم. وأخذ المغربي الحبابي بشخصانية إيمانويل مونييه. وحضرت فينومينولوجيا هوسرل بقوة في تفلسف حسن حنفي الباكر، ولدى نازلي إسماعيل التي ترجمت ل هوسرل (تأملات ديكارتية). وتجلّت أخيراً تفكيكية جاك دريدا في كتابات علي حرب. وطغت بنيوية التوسير الماركسية و بولانتزاس على كتابات مهدي عامل. ولم يكن المفكرون العرب بمنأى عن تأثير الماركسية العميق، التي كان لأعلامها (ماركس، جورج لوكاتش، غرامشي) تأثيراً بالغاً عليهم، أمثال سمير أمين، الياس مرقص، ياسين حافظ، صادق جلال العظم، طيب تيزيني، أحمد برقاوي حسين مروة، عبدالله العروي… وغيرهم. وتبدو مرجعية المنظرين الإسلاميين العرب( سيد قطب، مالك بن نبي، عبدالله عبد الدايم، خالد محمد خالد، محمد عمارة، وسواهم) الذين لم ينزاحوا كثيراً عن النسق الأيديولوجي العروبي، أكثر تعقيداً وتركيباً نظراً لعلاقتهم الملتبسة بالتاريخ والعقيدة من جهة أولى وبالقراءات الأخرى من جهة ثانية. إن غياب الحدود الفاصلة بين التفلسف والأيديولوجية، بين العلم والسياسة، كان سمة بارزة للأنساق الفكرية العربية. وقد طرح المفكرون العرب أسئلتهم المصيرية انطلاقاً من هذه المصادرة القبْلية، ومن هنا انهمكوا بمشكلات التاريخ والأمة والمصير بصورة عملية. وعليه فقد طبعت صفة المفكر هؤلاء أكثر من كونهم فلاسفة كما يشير البرقاوي، إذ أمست الفلسفة الغربية في الأنساق الفكرية العربية ميتودولوجيا توجه رؤاهم وتحفّز أسئلتهم، ناهيكم عن كونها مصدراً ثرّياً لأجوبتهم الفكرية عن قضايا التحرر والتقدم والمصير. *كاتب سوري المقال منشور بالتعاون مع مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org