في القسم الأول من هذا العرض تناولنا اعتناء واهتمام المرحوم علال الفاسي الدقيق بمعاني الكلمات والألفاظ، وضبط معانيها ضبطا محكما حتى يعرف القارئ أو المستمع معانيها ويدرك مراميها لأن سوء الفهم والتفاهم يأتيان من عدم تحديد الكلمات والمصطلحات تحديدا دقيقا ونخص القسم الثاني للحديث عن معنى الأصالة والمعاصرة وموقف بعض المفكرين من تحديدهما مقارنا بمفهومها لدى المرحوم علال الفاسي. في تقديم القسم الأول من هذا العرض حول «علال الفاسي أصالة ومعاصرة» تكلمت عن السبب الذي جعلني أقوم بإعادة نشر هذا العرض مع تحينه بطبيعة الحال ذلك ان الأفكار والشعارات الوطنية التي كان الفقيد علال الفاسي يملك القدرة والموهبة على نحتها، جعلت الكثير من الناس يتبنونها ولا مشكلة في ذلك من الوجهة النظرية ولكن في المجال السياسي يعتبر الأمر في بعض الأحيان موجبا للتساؤل لأن ذلك يتطلب حسن النية وإخلاصا في الدفاع عن تلك الأفكار والشعارات، والاصنف فيما كان يدعوه مالك بن نبي الصراع الفكري السلبي، أي وضع الفكرة في قالب يجعل الناس ينظرون إليها نظرة لا تكتسي في أغلب الأحيان طابع الاحترام، بمعنى ان الأمر يتحول من مجال الفكرة الصحيحة والدقيقة إلى مجال التمييع ان لم تصل إلى مستوى الابتذال، والمجتمع العربي الإسلامي الذي يتحدث عنه ومن خلاله مالك بن نبي وعلال الفاسي رحمهما الله مجتمع عانى من هذه الآفة لأن الإشكال فيه لا يعود إلى المجتمع ذاته، ولكن يتعود إلى أولئك الذين يسعون إلى جعله مجتمعا لا يستقر على قرار في أفكاره السياسية والاجتماعية حتى يعود على عدم قبول الأفكار أو الالتزام بها، وإنما هو عرضة للتقلبات في الأفكار وفي الشعارات فتجده في كل لحظة في دوامة من الشعارات التي لا تعني أكثر من كلمات تقال وألفاظ يضم بعضها إلى بعض. وعلال الفاسي عندما يختار كلمة أو شعارا يظل يناضل من أجل تحقيقه وجعله أمرا معاشا بين الناس. الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي عرف الفكر العربي والإسلامي نقاشا حادا أو صراعا قويا وانقسم إلى أنصار التجديد وأنصار المحافظة أو القديم والجديد قبل الحديث عن الأصالة والمعاصرة والتقليد والحداثة إلى ما هناك من هذه الثنائيات. وفي موضوع تحديد العلاقة بين الأصالة والمعاصرة اشتغل الباحثون والمفكرون على المستويين العربي والإسلامي فعقدت من أجل هذه الغاية عدة لقاءات ومنتديات ولم ينته بعد النقاش الدائر في هذا المجال، وأظن انه سيستمر باستمرار الوضعية الفكرية المتأرجحة في البلدان العربية والإسلامية، نعم تتغير التعابير والمصطلحات ولكن المضمون هو هو والإشكالية هي هي فنحن اليوم أمام تعابير جديدة وحل لفظ الحداثة مكان لفظ المعاصرة وحل لفظ التقليد محل الأصالة مع انه يوجد فرق بين هذه التعابير ومضامينها وربما كان التعبير بالمعاصرة أحق وأصوب من التعبير بالحداثة لكون المعاصرة أقرب إلى واقع الثقافة العربية والإسلامية من حيث المضامين الفلسفية اما الحداثة فهي ذات حمولة فكرية فلسفية قد لا تنسجم مع ما تومن به شعوب هذه الثقافة من ربط للأرض بالسماء والإيمان بان لهذا الكون ربا خالقا ومدبرا، في حين ترى الحداثة في مضامينها الفلسفية غير ذلك. بقطع النظر عن التوجه الذي يضفيه بعض الناس اليوم على الحداثة حين تعني في نظرهم العقلنة في التدبير، والشورى في التسيير وإذا كان هذا المعنى مقبولا فإن انصراف الذهن يتوجه أولا إلى المضمون الذي وضع لهذه الحداثة عند أصحابها قديما قيل (المراد لا يدفع الإيراد) ولذلك كان من الأولى التعبير بما لا يوحي بأمور غير مرغوبة و لا تكون مقصودة في الغالب ولا غرابة ان يكون الكثير من اللقاءات والندوات كما أشرت حاول المساهمة في التحديد والتأصيل للمعاصرة أو الأصالة فنجد مثلا محمد عابد الجابري في بحثه الذي ساهم به في الندوة التي نظمها مركز دراسة الوحدة العربية حول الأصالة والمعاصرة وصدر ضمن أعمال هذه الندوة في مجلد ضخم بعنوان التراث وتحديات العصر في الوطن العربي (الأصالة والمعاصرة) وهو بحث طويل ومما جاء فيه وهو يقابل بين الأصالة والمعاصرة قوله: الجابري والمعاصرة إن المسألة ليست مسألة إحلال الماضي محل الحاضر أو القديم محل الجديد بل هي أولا وأخيرا إعادة بنية الوعي بالماضي والحاضر والعلاقة بينهما وهي عملية تتطلب التخطيط في آن واحد لثقافة الماضي ومعناه إعادة كتابة تاريخها وبالتالي إعادة تأسيسها في وعينا وإعادة بنائها كتراث لنا نحتويه بدل أن يحتوينا أما التخطيط لثقافة لمستقبل فمعناه توفير شروط المواكبة والمشاركة: مواكبة الفكر المعاصر والمشاركة في إغنائه وتوجيهه وذلك هو معنى المعاصرة. (ص50). والمرحوم الدكتور محمد عزيز الحبابي في بحث له يعقب به على الطيب تيزني في نفس الندوة وضمن المجلد نفسه: يحدد مضمون الأصالة بطريقته المعهودة في النقد والتحليل وإعادة التركيب ومقارنا للأصالة بالمعاصرة فيقول: أصالة، أصيل، أصل لدى محمد عزيز الحبابي غالبا ما تستعمل «معاصرة» معارضة ل»أصالة»، حتى باتت طائفة من المصلحين المجتمعيين العرب ضحية لتلك المعارضة. والواقع أن من خاصيات «الأصالة»، لكي تبقى حية، يعني لكي تكون قابلة للاستثمار، أن تبقى دائما محل تساؤل وتكيف، أي دائمة التفتح على صيرورة التاريخ. فبلا هذا التفتح المتحرك، تذبل الأصالة وتنعدم، عمليا، وتبقى مجرد عبء ثقيل يعرقل المسيرة. إن الأصالة الحية مجموعة من الإيحاءات والمحرضات على العمل، وأحيانا مجموعة من الإمكانات. الأصالة ارث مجهول الاسم، لأنه مشترك بين أجيال مضت وأخرى تحيا، وبين ما كان وما قد يكون. ومن خلال الأصالة، تنكشف الجذور التاريخية للفرد في علاقاته بمحيطه الطبيعي. إنها القاعدة التي عليها يشيد التجديد وتنعكس الهوية الخاصة والعامة في تطورها. فبلا أصالة، من الصعب، بل من المستحيل، على «الأنا» أن ينسجم مع ال «نحن». فأصالة، بهذا المعنى، لا تتعارض مع معاصرة، بل تتكامل وإياها، إنها تعطي للتعصير معالم وتجارب وعبرا، فتثريه، وبالتالي تعين في توجيهه وجهة أكثر التصاقا بواقع هذا المجتمع أو ذاك، حسب أوضاعه التاريخية والجغرافية. المعاصرة لا تعني تقليد الغرب؟ لذلك، لا نجاري طائفة من المفكرين العرب تقدم لنا الغرب، بكل ما له من مزايا ومساوئ، كنموذج أوحد يجب أن نندمج فيه كي ننجو، ولا نجاة عن غير ذلك الطريق. بنى الغرب ثقافاته المعاصرة على أصالته. فلماذا يريدنا بعض المصلحين العرب أن نقفز من لا شيء إلى حضارة القرن العشرين بعد أن نقبر أصالتنا ونبقى بلا زاد تاريخي؟ وعلى الأصح أنهم يدعوننا إلى الميادين الليبرالية من القرن العشرين، متجاهلين التجارب والتيارات الفكرية والتطبيقية الأخرى، كما يطالبنا الماركسيون بألا نتبنى إلا المادة التاريخية والمادة الجدلية، باستثناء ما سوى ذلك. ويزيد المرحوم محمد الحبابي فيتساءل: أليس في ذلك تحجير؟ إن الوقفة العربية الإسلامية مطالبة، في الواقع، بأن تحتك بكل التيارات المعاصرة: «تعرب»، وتصهر في ذاتيتها وفي أصالتها ما هو حري بأن يعينها على الكفاح ضد التخلف. ولا كفاح ناجح بلا أصالة. الأصالة أنماط الانفعال والتفاعل، بها تسمو الشعوب، عندما تسمو، وعلى حسابها يكون سقوطها عندما تنحط. إنها إطار الوجدان والضمير في ترابطهما بفردية كل فرد، وبفرديته المجتمعية. فبلا أصالة، ينفك النسق العام الذي تنتظم فيه وبه حركية العلاقات الجماعية. فالتقدمية الحق، والمعاصرة الحق، لا تقصدان تخلي الشعوب عن ذواتها، بل إن فائدتهما هي أن تحرر الشعوب مما يصيبها من انحرافات عن صواب ذاتها. فوجدان الشعوب وذهنيتها معرضان، على الدوام، لانحرافات تزحف من كل ميدان، فتتقوقع الثقافة وتتفسخ الأصالة، ثم تنغلق«. هذه وجهة نظر المرحوم الحبابي ولذلك فان مضمون المعاصرة كما حلله يلتقي في خطوطه الأساس مع وجهة نظر محمد عابد الجابري مع ما بين منهج كل منهما واختياراته الفكرية والمذهبية من تباين إلا انه في هذا الأمر بالذات يكون عناصر الالتقاء أكثر من غيرها ولا يبتعدان عن وجهة نظر علال الفاسي في هذا الصدد. وأود هنا كذلك أن أشير إلى أعمال ملتقى الفكر الإسلامي بالجزائر سنة 1974 الذي ضم نخبة من المفكرين من مختلف الجنسيات وألقيت فيه بحوث قيمة تناولت تحديد مصطلح الأصالة والمعاصرة. ونختار هنا وجهة نظر أحد المفكرين العرب الذي له وضعية متميزة في الثقافة العربية المعاصرة ذلك هو المرحوم الدكتور زكي نجيب محمود الذي له كتابات متعددة في هذا الصدد بالأخص ما يتعلق بتجديد الفكر العربي، أو المعقول و اللامعقول في نفس الاتجاه وقد ساهم في هذا اللقاء ببحث بعنوان «بين الأصالة والمعاصرة» تناول فيه العلاقة بين الأصالة والمعاصرة والإشكاليات التي تطرحها على المستويات المختلفة في العالم العربي بصفة خاصة والأمر الذي دفعني إلى اختيار خلاصة لرأيه في الموضوع هو : 1 _ مكانته الفكرية كما أشرت. 2 _ فقد سبق له الاعتراف بالتغرب المطلق في كتابه تجديد الفكر العربي فقال: « لقد تعرضت للسؤال منذ أمد بعيد، ولكني كنت إزاءه من المتعجلين الذين يسارعون بجواب قبل أن يفحصوه ويمحصوه ليزيلوا منه ما يتناقض من عناصره، فبدأت يتعصب شديد لإجابة تقول: إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بترا، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علما وحضارة، ووجهة نظرا إلى الإنسان والعالم، بل إني تمنيت عندئذ أن نأكل كما يأكلون، ونجد كما يجدون، ونلعب كما يلعبون، ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون !! على ظن مني آنئذ أن الحضارة وحدة لا تتجزأ، فإما أن نقبلها من أصحابها _وأصحابها اليوم هم أبناء أوربا وأمريكا بلا نزاع- وإما أن نرفضها، وليس في الأمر خيار بحيث ننتقي جانبا ونترك جانبا، كما دعا إلى ذلك الداعون إلى اعتدال، بدأت يتعصب شديد لهذه الإجابة السهلة، وربما كان دافعي الخبيء إليها هو إلمامي بشيء من ثقافة أوربا وأمريكا، وجهلي بالتراث العربي جهلا كاد أن يكون تاما، والناس _كما قيل بحق- أعداء ما جهلوا. ثم تغيرت وقفي مع تطور الحركة القومية، فما دام عدونا الألد هو نفسه صاحب الحضارة التي توصف بأنها معاصرة، فلا مناص من نبذه ونبذها معا، وأخذت أنظر نظرة التعاطف مع الداعين إلى طابع ثقافي عربي خالص، يحفظ لنا سماتنا ويرد عنا ما عساه أن يجرفنا في تياره فإذا نحن خبر من أخبار التاريخ، مضى زمانه ولم يبق منه إلا ذكراه». ويتابع الدكتور قوله: «ولولا رجوعي إلى ثقافتي العربية لدخلت القبر بلا رأس» (تجديد الفكر العربي، القاهرة، دار الشروق ص12-14). 3 _ بعض التلميحات النقدية الواردة في كلمة المرحوم الحبابي هي موجهة لزكي نجيب محمود لقد ركز من بين ما ركز عليه بعد استعراض الإشكالية كلها على الجانب التربوي والجانب اللغوي بصفة أساسية وقد تناول في بحثه قضايا أربع هي في نظره أساس خلق التوافق بين الأصالة والمعاصرة هي: 1 _ التصور الإسلامي العربي لله والكون والإنسان. 2 _ الواقع المادي أو النظرة المادية إلى الأشياء كما هي. 3 _ التعامل مع واقعنا الخاص مكانيا وبيئيا وحركيا 4 _ لغة تشكل وعاء لكل هذه الأمور وتسهل جعلها ذات خصوصية بالنسبة لنا. هذه هي الأركان التي يجب أن تعالج من أجل حضارة عربية أصيلة ومعاصرة، فهل فعلا تمت معالجة الأمر على الوجه المطلوب؟ الكاتب يرى عكس ذلك. النظر إلى المعاصرة من منظور الإسلام أما الملتقى في حد ذاته فقد كون لجنة لتحديد المفاهيم الأساس التي تكون الأصالة وعلاقتها بغيرها وحددتها هذه اللجنة في أمور أربعة هي: الآنية _ الأصالة - التفتح والعالمية وجاء في توصياتها مع شيء من التصرف. بعد دراسة الموضوع ومناقشته ودراسة التفتح والعالمية خلصت اللجنة إلى ما يلي: 1 _ الآنية: هي وعي الذات لنفسها وتوكيدها كذات مسلمة. 2 _ الأصالة: هي تنمية الذات بالتزام القيم الإسلامية والتعبير عن هذه القيم في مختلف مجالات الحياة. 3 _ التفتح: هو تبليغ رسالتنا الروحية إلى العالم في ممارسة الأخذ والعطاء. وهي اقتباس كل ما تتأكد الحاجة إليه مما هو لدى غير المسلمين في حدود الأصالة. 4 _ العالمية: بعد التوكيد أن ما يدعى بالمعاصرة هو تعبير عن الحضارة الغربية في طور سيطرتها وأنه لا ينبغي لها ادعاء تمثيل البشرية جمعاء فان اللجنة ترى أن العالمية هي تلك الجوانب التي تلتقي فيها مجموعة الثقافات على تنوعها. وبناء على هذه التعريفات الأولية ترى اللجنة ألا تناقض بين هذه المفاهيم التي يمكن أن تتعايش في حياة إسلامية موحدة _ وبعبارة جامعة فعلى المسلم أن ينظر إلى المعاصرة من منظار الإسلام ولا ينظر إلى الإسلام من منظار المعاصرة. علال الفاسي والأصالة والمعاصرة: انظر وفكر ولا تقلد هذه المناقشات والندوات حصلت بعد وفاة علال الفاسي بما يزبد عن عقد من الزمان ومع ذلك وفي هذا السياق نجد أن «علال الفاسي» كان له فضل السبق في موضوع المعاصرة وعلاقتها بالأصالة وبالأحرى بالفكر الإسلامي الصحيح المتفتح والقادر على النقد والتمييز فخص مسألة العصرية والمعاصرة بفصل قيم في كتابه النقد الذاتي وذلك ضمن المشروع المجتمعي الذي وضعه لمغرب ما بعد الاستقلال والذي أوصى من خلاله بما يجب القيام به فكريا باتخاذ شعار «انظر وفكر ولا تقلد» هذا الشعار الذي فتح للعرب في أيام حضارتهم الأولى آفاقا علمية وكونية هو وحده الجدير بأن يخلق من شبابنا نخبة تخط لنفسها طريق الاختيار وسبيل الامتحان لما يقرأونه أو يشاهدونه، (النقد الذاتي ص50) وقد اشتغل علال الفاسي على أساس هذه القاعدة وهذا الشعار لغربلة الأفكار والمذاهب والنظريات فلم يكن أسيرا لقول هذا الباحث أو ذاك أو هذا المذهب أو ذاك ولكنه كان بحصافته واجتهاده وقدرته على النقد والتحليل والتركيب يختار الأصوب من الأفكار، ويصوب ويقوم ما يراه من اعوجاج في الآراء والأفكار والمذاهب كما كتب عن الأصالة كتابا صدره ضمن منشورات الجمعية المغربية للتضامن الإسلامي بعنوان (دفاع عن الأصالة). تناول فيه الأصالة اللغوية والتراث كتعبير عن الأصالة الروحية والفكرية ومما جاء في هذا الموضوع حول اللغة: الأصالة اللغوية وتأثير اللغات الأجنبية : لما ظهرت النهضة الحديثة أخذنا نبحث عن الأصالة اللغوية لنمارس اللغة ذاتيا وموضوعيا لأننا في ارهاصات الثورة التي تريدها أمتنا العربية الإسلامية، ولابد أن يسبقها بعث لغوي وثوري في اللغة، لأننا دخلنا مرحلة فكرية جديدة لابد لها من لغة متطورة كان ذلك في مطلع نهضتنا منذ الثورة الوهابية وما أعقبتها من حركات التجديد في الشرق الأقصى والمتوسط، وفي المغرب العربي، ولكن الاستعمار أنسانا أنفسنا زمنا وربانا في مدارسه على رطانات أعجمية أقنعنا أنها وحدها سبيل الثورة العرفانية التي نريد. انحراف الفكر بانحراف اللسان أثرت فينا اللغتان الفرنسية والاسبانية كما أثرت في المشرق الانجليزية والهولندية فانحرف تفكيرنا بانحراف لساننا ولم نعد ننتج شيئا مذكورا لا في ميدان الفكر ولا في الفلسفة والمعرفة، إلا إذا كان استفادات من لغة الأجنبي نرويها كما هي أو بشيء من التحذلق. وأصبحت الاتجاهات تختلف بحسب الاتصال اللغوي بين بلداننا لعربية والإسلامية مثلنا في ذلك مثل اليهود الذين افترقوا بحسب اتصالهم بالعرب أو بغيرهم. وبعد ان يستعرض حالة اليهود كما تحدث عنها احد الباحثين الغربيين يقول: لم نصل إلى هذه الحالة الخطرة التي وصل إليها اليهود بعد، ولكن ما نعانيه من مشقة في العودة إلى لغتنا وفكرنا وثقافتنا ليس باليسر، وحسبنا دليلا على ذلك أن نجد البطء الكبير في الاستجابة لما نريده من تعريب كامل في الإدارة والتعليم والحياة العامة، وما نلقاه من شك بعض المثقفين من إخواننا في إمكان التغلب على رواسب العجمة وآثارها. ان هدفنا اليوم هو أن نعيد مجدنا في الشكل الذي نريد، ولا نعتقد أن هنالك أحدا يفكر في إمكان تحقيق هذا الهدف بمجرد تطور تدريجي يأتي عفوا أو على مراحل بعيدة المدى بل لابد من ثورة في الفكر أولا، ثم في وسائل الانجاز ثانيا، فإذا كان هذا صحيحا، وهو صحيح بلاشك، فانه لا يمكن إلا بعد بعث لغتنا ومراجعتنا لها ذلك ما جرى لكل ثورة بناءة سبقتنا. تعريف التراث: ونجده في نفس الكتاب يعرف التراث بقوله: التراث يعني مخلفات الأجداد بجميع أشكاله، من دين صحيح وخرافة ملصقة به، ومن علم محدود تجاوزته التطورات الحديثة إلى علوم ما تزال قائمة الذات ثابتة المفعول، وأدب تعاقبت عليه مراحل التاريخ وما استلزمته من تعبيرات ومعان فكان فيه الغث والسمين، وكان فيه الأدب الخالص وأدب الارتزاق وهناك التقاليد الموروثة بما فيها من كرم وصدق وحسن معاشرة إلى ما يخالطها من طفيليات لا يقبلها الخلق الكريم ولا العقل المستقيم، وهنالك الفن في الموسيقى والغناء في الأزياء والصور والهندسة المعمارية والخط البارع إلى ما يحتوي ذلك من لا معقول ومما يعبرون عنه اليوم تراثا شعبيا أي الفلكلور. وفي كل ذلك ما يصلح للبقاء وما يجب أن يستغنى عنه ويستعاض بما يناسب العصر وذوق الحديث، لان الإنسان على كل حال ابن عصره خلق ليعيش مع الناس في الجيل الذي هو فيه لا في الأجيال السابقة عليه. الموقف من التراث: وقد اعتاد قومنا اذ يتكلمون عن التراث أن يختلفوا في أمره، فمنهم من ينبذه نبذا كليا، على الأقل في ميدان تفكيره، لان النبذ الكلي الفعلي مستحيل التطبيق، ومنهم من يقبله كله كيفما كان وينبذ كل شيء حادث على أساس أننا في كل يوم نرذل وما يحدث ما هو إلا بدعة يجب أن ترمى بالعراء، وطائفة ثالثة ترى أن كل ما جاء من الغرب يجب أن يكون المثل المتبع، والمقياس الذي يرد الماضي والحاضر إليه، فان وافقه فذاك وان خالفه نفضنا منه يدنا، لأنه يجب أن نكون مع رجال اليوم والغد لا مع أبناء الماضي الذي هو في قلب الموت وطائفة أخرى ترى أن الغرب هو ذلك الذي جاء ليستعبدنا ويحتل ديارنا ويفتك بحقوقنا ويهتك حرماتنا فإتباعه في أي شيء إنما هو خضوع له وخضوع لما يريده، لأن غايته أن يخلق منا صورة على مثله، لغة وفكرا وعادة حتى يهيئنا للاندماج في حضارته ثم في وجوده فنصبح مفقودي الوجود ضائعي الشخصية كيف وقد قال ابن خلدون ان المغلوب مولع بتقليد الغالب، وكثيرا ما يأخذ أقبح ما عندك فنحن إذا قلدنا مستعمرينا نكون قد سرنا على الوضع الذي يعني التخاذل واعتبار ما عند الأجنبي كيفما كان علامة على عظمته وتقديسه، وكل تقدير للمستعمر لهذا الحد تنقيص لقيمنا وكفر بوجودنا. إسلام الكتاب والسنة أول ما يجب أن نعتز به وأول ما يجب أن نعتز به من تراثنا هو ديننا الحنيف فيجب أن نحافظ على التمسك به واليقين في أفضلية مبادئه، ولكن يجب أن نفرق بين دين الكتاب والسنة. الإسلام الصافي الذي جاء به الرسل صلى الله عليه وسلم وأعطانا صورته في شخصه، وسار على غراره الصحابة الكرام والتابعون ومن تبعهم بإحسان وكل المصلحين الذين بذلوا جهدهم ووقتهم في مرضاة الله، طبقا لتعاليم القرآن وهدى السنة، فكانوا عبادا صادقين وعلماء عاملين، وحكاما عادلين، وشعوبا متضامنين وجنودا في سبيل الحق مستميتين وهؤلاء وما اتبعوه من إسلام حق هو تراثنا الصحيح الذي يجب أن نأخذ به ونذب عنه ونحميه ولكن هذا الدين وهؤلاء المسلمين خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فارتكبوا الموبقات وجاؤوا بما لا يتفق مع القرآن ولا مع السنة ولا يساير هدى الصالحين الذين أومأنا إليهم، فالصقوا في الدين ما ليس منه، وأولوا القرآن على خلاف المراد منه، وحملوا السنة محامل بحسب ما أرادوا، ووصفوا من الحديث ما شاؤوا، واتبعوا من الأهواء ما عن لهم أن يفعلوا، فاتخذوا الدين بضاعة، واشتروا بعلمه لهو الحديث ليضلوا به الناس، فمنهم المبتدع في العقيدة، ومنهم المنحرف في الشريعة، ومنهم المكثرون من الخرافات. وكلهم يعتبرون من ذوي الأهواء المهوية والانحرافات المغرية، ولا يمكن أن ننكر أن هذا من تراثنا الذي ما يزال لاصقا بنا وجزء من معلوماتنا وكتبنا، فهل يصح أن يطلب منا التمسك به أو الرجوع إليه وتقديمه على ما جد من فكر صحيح ونظر رجيح، لاشك أن مفكرا سليم العقل لا يقبل هذا ولا يطالبنا به، فلابد من غربلة التراث لنستخرج منه الغبار والحجارة ونبقى على جواهره الثمينة. وقد تناول فكر علال الفاسي ودوره في تثبيت دعائم الأصالة والدفاع عنها في توافق كامل وتفاعل بناء مع المعاصرة كثير من الكتاب والباحثين وسأقتصر هنا على رأيين لباحثين مختلفين الأول: فهمي جرعان في كتابه التقدم لدى المفكرين المسلمين العرب الثاني لدى باحث آخر هو محمد عبد السلام بلسعل في كتابه علال الفاسي وأثره في الفكر الإسلامي المعاصر يقول فهمي جرعان: العصرنة والمعاصرة أما علال الفاسي فقد وضع في الخمسينات من القرن الحالي، هذه القضية في صورة يمكن القول إنها تمثل آخر ما استقر عليه الفكر الإسلامي الحديث في العالم العربي. ومن الواضح أنه يستبدل بثنائية القديم والحديث وفكرة الثبات الحضاري، فكرة قائمة على التمييز بين » العصرنة والمعاصرة« وعلى مفهوم الحركة والتغير الحضاري ذلك أن » أعظم طابع يميز الديانة الإسلامية هو بناؤها على أصول متينة تجعلها قابلة للتطور والسير دائما إلى الأمام «، وان الإسلام أراد أن تكون دعوته حركة دائما تبعث على » النظر والتفكير والعمل التقدمي الدائب« على ضوء تقلبات الزمن واتجاهات الحياة، بحيث تتحقق دوما الغاية من خلق الإنسان »وخلافته« : عمارة الأرض وإصلاحها من أجل خير الإنسان في الدارين على حد سواء. والأمة الإسلامية كغيرها من الأمم تخضع للتطور، وهذا ما يعنيه الحديث الذي يقول إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها«، فهي في حاجة، عند نهاية كل قرن، لبعث جديد ويقظة ثانية. ومعنى ذلك أن »ما قرره عصر سابق من أساليب لا يمكن أن يتحكم فيما يريده العصر الثالث، لأن التجديد لا يعني دائما الترميم، بل يعني حتى الاستبدال وإن كان لا يقصد أبدا عدم المتابعة للأساس. والامتلاء بهذه الروح هو الذي جعل عليا يقول: ( علموا أولادكم فقد خلقوا بجيل غير جيلكم). وهذا كله يعني خطأ كلا الفريقين، فريق »المحافظين« الذين يذهبون إلى »أن كل ما فعله القدماء أو فكروا فيه، هو الصحيح الذي يجب أن يشايع، وفريق »العصريين« الذين يرون أن كل ما نقل عن الماضي يجب أن ينقرض وأن المثل الأعلى في الحياة هو فيما تستجده من أنواع الاختراع أو ما يخيل إليهم أنه اختراع من مناهج ومباهج الاستمتاع«. والحقيقة هي أنه ينبغي توجيه النزعتين وإقرارهما بحيث لا تعود المحافظة تعني دائما أن لا يفعل الإنسان إلا ما كان عتيقا باليا، ولا تعود العصرية تعني دائما أن ينبذ المرء كل ما لم يكن جديد الوضع أو حديث الابتكار. ذلك أن الحياة حركة، والحركة تقتضي أمرين أساسيين، المتابعة في السير والانتقال من نقطة إلى أخرى. العصرية لا تعني الانتقال من جمود إلى جمود فمبادئ الحرية الفردية والمساواة الاجتماعية التي طبقها عمر بن الخطاب مهتديا بالإسلام وبدون أن يلجأ إلى أساليب الطغيان هي على قدمها وابتعادها عن المعاصرة، مبادئ عصرية، أم الرأسمالية الغربية القائمة على الاستغلال المحرم والاستعباد الذميم للشعوب المسودة فقد وضعت حدا »للعصرية« عندما انتهت قيمها إلى اندلاع الحرب الكبرى وعندما »اكتشف أبناء القرن العشرين أن فكرة الثوريين الديمقراطيين التي آمنت بالعلم أكثر مما يلزم وآمنت معه بأن العالم دائما في تقدم كنتيجة للتقدم العلمي الذي لا شك فيه قد أغرقت في التفاؤل أكثر مما يساغ ، فوجد الغرب نفسه مقسما إلى معكر »الروحية المسيحية« المحافظة الذي ربط نفسه بالطغيان الرأسمالي، وإلى معسكر »المادية اللادينية« اليائس من »الديمقراطية« والضارب، بسبب ذلك، إلى عصمة الشيوعية وإلى »الديكتاتورية«، وإلى معسكر »المواطنة العالمية« السحري، أو إلى المنهج الوجودي الغارق في طلب حل المشكلات المباشرة المشخصة التي ولدتها المذاهب العقلية المادية على أساس جبرية هي في نهاية التحليل كسائر الجبريات الأخرى. وهذا كله ليس من »العصرية« في شيء. إن المنهج العصري لا يجوز أن يعني مجرد الانتقال من جمود إلى جمود آخر أو من تقليد إلى تقليد آخر مثله، وإنما ينبغي أن يعني التحكم في الحرية الإنسانية التي تنزع إلى فتح آفاق التقدم الاجتماعي والاقتصادي والروحي على أساس الإيمان بكرامة الإنسان وبالحرية وبالعقل وبالروح في إطار من تحقيق »الأصلية« الأساسية للأمة، تلك »الأصلية« التي تحول بين المسلمين وبين أن يأخذوا »منتجات العهد الحديث« و »الإنتاج الغربي« دون النفاذ إلى أعماقها والتأكد من قيمتها الحقيقية والتحكم في استخدامها. لا شك أن فكر علال الفاسي يشتمل على قدر كبير جدا من المرونة والوعي والقدرة على التكيف مع العصر الحديث. وربما أمكن القول إنه أحد الأصوات العربية الإسلامية النادرة التي استطاعت أن تتكلم لغة العصر دون أن تخرج من إهاب الإسلام وقيمه الجوهرية. ولكن من المؤكد أنه ظل في النهاية متشبثا بفكرة ميزت معظم سابقية، فكرة التركيب بين الأصول الروحية والعقلية الإسلامية وبين الحياة الحديثة التي تغزوها المنجزات التقنية التي جرت العادة على نعتها ب »المادية«. ولقد دافع الفاسي كما دافع غيره عن هذا التركيب دفاعا لم يخل من الحماسة في بعض الأحيان، اعتقادا منه ومنهم لأن خروج العرب والمسلمين من حالة الضعف التي تلفهم لا يمكن أن يتحقق إلا بقوة »الروح« وبقوة »المادة« معا. هذه خلاصة رأي فهمي جدعان في الموضوع وننتقل إلى رأي محمد عبد السلام لسعل الذي يقول بعد نقاش طويل وممتع تناول دور علال الفاسي في الدفاع عن القيم الإسلامية والمذهب المالكي وعقيدة الاشعرية لدى المغاربة: الأصالة والاقتباس من العصر والمراد بالأصالة ليس هو التشبث بالماضي تشبثا أعمى والشذوذ عن معطيات الجديد، وإنما هو تطعيم للذات بالقيم الحضارية وهي بهذا المفهوم تعمل في إطار الاستفادة من كل المعطيات التي من شأنها ان تمد الفكر المعاصر بنفس جديد ودفع متجدد انطلاقا من المقومات الاجتماعية والمعاصرة بهذا التمثل تعني الارتباط بالعصر وبفكره لا بالمفهوم الواسع، كما أن الجديد لا ينحصر في النطاق الزمني الذي يوحي به ظاهرة هذه الكلمة، التجديد يكمن في قيمة العطاء ونوعيته ومدى فعاليته، اذ كثيرا ما نجد جوانب مشرقة في عمق التراث كالمواقف التحريرية والأخلاقية وغيرها، وبالعكس يمكن ان نجد في أيامنا هذه أشياء بحسب ذلك المفهوم تعتبر جديدة، وهي ضاربة في أوحال التخلف والالتواء كالميز العنصري والإرهاب بشتى ألوانه وهلم جرا، وعلى هذا فالتفاعل مع القديم ينبغي أن يتم عبر هذه الرؤية أيضا فهو وان انطوى على عناصر التخلف فليس كله تخلفا ولا شرا محضا، وهكذا نجد فلسفة علال الفاسي التحليلية تمثل انعطافة في الفكر الإسلامي المعاصر، وهو يحدد المفاهيم ويضع النقاط على الحروف، وفي هذا المجال فقد أوضح علال الفاسي الفرق بين العصرية والمعاصرة كإطار لفهم تلك المدلولات وإدراك فحواها، فبين انه ليس كل ما كان قي العهد القديم يعتبر باليا ينبغي إهماله، فقد نجد في القديم ما هو خليق ان يعد عصريا وفي المعاصر ما هو جدير ان يكون من عداد العصور الوسطى لذلك «فالعبرة بالإصلاح لنا الذي نرى فيه الخير لتقدم مجتمعنا ونفعه»، ويرى علال الفاسي إن الخلط بين هذه المفاهيم ناجم عن ضعف في التصور لم يسلم منه حتى انبه المفكرين، ويرى في ذلك خطأ شنيعا في نقطة البداية للتفكير، وذلك ان المحافظة لا تعني أن لا يفعل الإنسان إلا ما كان عتيقا باليا، كما أن العصرية لا تعني دائما أن ينبذ المرء كل ما لم يكن جديد الوضع وحديث الابتكار». وأساس هذا الغلط في رأي علال هو الخلط بين العصرية والمعاصرة أو بين ما هو عصري وبين ما هو معاصر، مع أن الثاني قد يكون مثالا حيا لما مر في الأزمنة الوسطى أو البدائية للتاريخ، كما أن الأول يمكن أن لا نجد له وجودا في العهد الذي نعيش فيه بينما نعثر عليه في زوايا الفكر البشري العتيق». ويهدف علال الفاسي من خلال هذه التفرقة إلى أن يثبت لمن يود الاقتباس من منتجات العصر الحديث «أنه يجب أن ينظر قبل كل شيء في الإنتاج الغربي الذي تكون من ظروف الثورة الفرنسية إلى ما قبل الحرب الكبرى، وان يعلموا تماما أن كل ما يحرم على الإنسان النظر والفكر أو يمنعه من الثورة على ما لا يطمئن إليه فهو جمود وليس من العصرية في شيء، ولو كان مستمدا من آراء الفلاسفة والزعماء المعاصرين» وذلك يعد تحذيرا من علال الفاسي حتى لا يقع هؤلاء في حمأة الاغترار بالشكليات والانتقال من جمود إلى مثله لأن هذا يمثل «أعظم مساس بكرامتنا كأمة ذات تاريخ عقلي وحضارة روحية» ليست كحضارة اليوم التي يعتبرها علال منحرفة عن النهج القويم بسبب طغيان المادة وتأليهها واستبداد الأنانية بكل شيء، ولذا كانت تلك الحضارة كما يذكر علال محصورة في الإنسانية، ومعنى هذا أن كل شيء يجب إلا يتجاوز الاعتبارات الإنسانية المحضة، وان يتناسى كل ما يرجع للمبادئ التي هي أسمى وأعلى».