ابراهيم بوزيد : أستاذ مادة الفلسفة توطئة: يندرج موضوع الضحك ضمن إحدى مظاهر انفتاحنا على الوجود الإنساني، وهو انفتاح يتجاوز التعامل العقلاني المجرد مع الغير، ويتجاوز اختزال الذات فيما أسماه هيغل بالوجود الواعي بذاته، ويجعل من الوجود الحسي الجسدي واجهة أساسية للانعتاق من العلاقة التشييئية التي تحد من الحلول المتناهية الصارمة في حل منطق تعاملها مع معضلات الوجود في جل تجلياته. فبالضحك يتنزل وجودنا الإنساني منزلة الوجود المحايث بمبدأ التعدد والاختلاف الذي يسكن وجودنا، وبالضحك يتفاعل الجسد بما هو واجهة لا تقل أهمية عن واجهة العقل المنغلق عن مبادئه المجردة. فإذا كان الأمر كذلك، فبأي معنى يعتبر الضحك واجهة الانفتاح على الوجود؟ وبأي معنى يعتبر الضحك فلسفة؟ وبأي معنى يعتبر الضحك فن؟ 1 الضحك واجهة عقلانية منفتحة ساد الاعتقاد أن الصفة الجوهرية التي تميز الإنسان هي العقل، وبالعقل يتمكن الإنسان من مواجهة مصاعب الحياة، وقساوة الطبيعة، وبالعقل أصبح الإنسان مركز الكون، يسخر ما حوله من أجل تحقيق مصالحه الوجودية نفسية أكانت أم اجتماعية أم سياسية. لكن بفعل تراخي الزمان، وضيق المكان من جراء التراكم الكمي والكيفي للأزمات في جل أبعادها، انبثقت تيارات فلسفية ودينية روحية في العالم الغربي تشكك في مجمل القيم المعرفية والأخلاقية المثلى التي منحت للعقل قدسية وسلطة عليا، وأصبح الحديث عن عقلانيات بدل عقلانية واحدة، والتعليل على كون العقل صفة عرضية جنب باقي القوى الأخرى الفاعلة في وجود الإنسان، من غرائز وأهواء وروح وعاطفة، وأصبح كل حديث عن العقلانية في مقابل إقصاء ما لا يبدو كذلك هو تبشير بميتافيزيقا جديدة تتستر وراء لغة العلم، ولغة التقنية، ولغة الحداثة، وبل ولغة العولمة. 2 الضحك انفتاح على الوجود في ضوء ما طرح أعلاه نريد الانفتاح على واجهة من وجودية الإنسان، واجهة نحيي من خلالها مواقف وتصرفات وانفعالات واستجابات وردود أفعال يحقق من خلالها الإنسان مآرب وأهداف بعيدة كل البعد عن القلق، والتوتر، وضيق النفس، التي أصبحت مظاهر أساسية لحياة الإنسان المعاصر. فكثير هي المشاكل التي تفشل في معالجتها، لا باعتبارها عويصة الحل، بل لكوننا نتعامل معها انطلاقا من رؤية عقلانية خالصة، رؤية تتحدد بلغة المنطق التقليدي. إن تسليط الآلي لمبادئ المنطق وعقلانية العلم الكلاسيكي على موضوع بشري حيوي يجعل أمر حل مشاكلنا، والعمل على تفعيل العقل بشكل حيوي، بقدر ما تحضر فيه الذات العاقلة، بقدر ما تحضر فيه الذات الضاحكة في إرسال خطابنا. كما أن الأخذ بسلوك الضحك يصاحبه ينمي فينا القدرة على الانفتاح الحيوي على الإنسانية باختلاف طبائعها ومزاجها ومداركها، كما أن المكان الذي يصاحبه الضحك باختلاف مراتبه كالفكاهة والمرح والمداعبة والنكتة والمزاح والمستلح من الكلام يجد رضا في النفوس، بل قد تكون هذه النفوس غير راضية عن المواقف التي تصدر عنا، لكن بفعل الاستعانة بلغة الضحك الإنساني تنفتح لك وجودية هذه النفوس التي اعتقدت سابقا أنها دون مستوى خطابك، ودون مستوى أخلاقك. كما أن الضحك قد يكون أحيانا وسيلة للبحث عن منفذ ناجع لاقتحام وجودية الغير من حيث لايدري، والخروج عن وجودية الذات. وبين الخروج والدخول تتم عملية التواصل بين الأنا والغير، ونضمن بصفة مشتركة الانتفاح المشروع على الوجود المختلف، بل الارتكان الى الوجود المغلق أو الوجود العدمي الذي يوقظ فينا يوما بعد يوم، ولحظة بعد أخرى الإحساس بالقلق والتوتر، وهذا ما عبر عنه فيلسوف المطرقة نيتشه قائلا: «لما كان الإنسان هو أعمق الموجودات شعورا بالألم كان لابد له من أن يخترع الضحك، الألم الذي يلازم وجودنا العام والخاص، ألم الوجود العام يتمثل في القلق الوجودي الذي اعتبره هيدجر طريقا يوقد في الإنسان النابهة والتنبيه الى حقيقة الوجود، وذلك من أجل مواجهة ما أسماه شوبنهاور بإنكار إرادة الحياة ، ذلك أن الذي يجرب ألم الحياة ووهم الفردية يفقد كل داع للعمل، العمل الذي يضفي على الإنسان الوجود الفاعل والمؤثر، الذي لا يستجيب بشكل فوري الى الوجود الجماعي للغير، لأن الإنسان في نظر هيدجر يهاب العدم الذي يسكن صميم الوجود، وذلك من خلال الفرار المتكرر واللاإرادي نحو الآخرين، نحو الحياة اليومية الزائفة، باعتبار أن الإنسان في صميم تجلياته في الوجود ، وبالكيفية التي يحيا هذا الوجود ليس موجودا يكفي ذاته بذاته، وليس وجودا مغلقا عن ذاته، بل هو الإنسان بفضل ما يفعله ويتخذه على حد موقف كارل ياسبرز الفيلسوف الألماني. وفي سياق تفعيل إرادتنا ووجودنا الماهوي، يقتحم فضاءنا «الآنية الملتبسة بالتسويف والانتظارية، فيتحول وجودنا باستمرار إلى وجود مقلق يحول دون تحقيق ما أسماه يا سبرز ب «حقيقة الوجود الماهوي، بمعنى الوجود الذي يتجاوز الفردية الذاتية إلى الفردية التاريخية. يقول إ.م بونشنسكي البولندي:» إن التاريخية هي الاتحاد مابين الكائن Dasein الخام وبين الوجود، وما بين الضرورة والحرية. أما ألم الوجود الخاص فيتمثل في القلق الناتج عن نمط الوجود الحسي، والارتكان إلى حياة الناس بلا هوادة ولا إيقاض ضمير، ونباهة فكر، واستقامة سلوك، ويصبح القلق رفيق حياة الإنسان. لهذا يقال إن السمات الإيجابية لحياة هو أنه مع الناس، وفي نفس الوقت أنه ضدهم، معهم لأنه كائن اجتماعي، لا مغزى لحيايته الفلسفية إلا من خلال التفكير في مصير الآخرين، وضدهم لأن ماهية الفلسفة لا تتعايش مع الوجود المنفعل الذي اصطلح عليه التحليل النفسي بالشخصية الإيحائية التي يتمظهر وجودها وبشكل آلي من خلال الغير، بل إن الفلسفة في صميم وجودها تهدف إلى تحقيق تواصل عقلي حيوي وسلوكي أخلاقي مع الإنسانية في أعلى مستوياتها الإنسانية، وقد نهضت من سبات الغفلة والتذكر والسماع والعادة، أو بتعبير الفيلسوف كانط قلنا إن الفلسفة تعلمنا كيف نجرؤ على استخدام عقولنا بجرأة وشجاعة تجاه مجمل الوصايا التي تحول دون إنسانيتنا، والتي تحول تحولنا إلى مجرد سعر قابل للتداول في كل مكان وزمان،ن وفي سياق هذا التوضيح يقول ياسبرز «لا تفلسف ابتداء من العزلة، بل ابتداء من التواصل. إن نقطة الانطلاق.. هي إنني إنسان بإزاء إنسان، وفرد بإزاء فرد، فإذا كان الأمر كذلك، فبأي معنى يعد الضحك فلسفة؟ وبأي معنى يعد الضحك فن؟ 3 الضحك فلسفة لابد هنا من أن نميز بيت تصورين للفلسفة: التصور العام للفلسفة هو الذي يجعل من النزوع إلى التساؤل والبحث والاعتراض والحوار خصائص لا ترتبط بالضرورة بمعيار السن، ولا بمعيار الانتماء الاجتماعي، ولا بمعيار الانتماء الاجتماعي، بل إن النزوع، ولا بمعيار الانتماء الحضاري، بل إن النزوع إلى الفلسفة ينتمي في صميمه إلى الإنسان بما هو إنسان، الإنسان ذلك الكائن الميتافيزيقي الذي يتجاوز الوجود الذاتي المباشر، ويتشكل ضمن الوجود الواعي بذاته على حد الموقف الفلسفي الألماني لهيغل، أما التصور الخاص للفلسفة فهو الذي يجعل من فعل التفلسف ظاهرة خاصة بالفيلسوف، وظاهرة تنبثق من خلال شروط موضوعية واضحة، شرط تجاوز الرؤية الأسطورية للوجود والمعرفة والقيم، وشرو ينتظم فيها اللوغوس (العقل) باعتباره مصدر التفكير، ومصدر التوجيه والترشيد والتدبير الجماعي والفردي. ضمن التصور العام للفلسفة يندرج موضوع الضحك باعتباره فلسفة، فلسفة لأنه يمثل بشكل أو آخر الرؤية الدفينة للبعد الأنطولوجي والمعرفي والقيمي الذي يصدر عن الذات الضاحكة، ويعني ذلك أن الضحك ليس مجرد فعل فيسيولوجي كما أكد ذلك العالم الفيلسوف هربرت سبنسر في كتابه «فسيولوجية الضحك»، باعتبار أن الجانب الفسيولوجي لا يعكس إلا البعض الحيواني في الإنسان. لكن الفيلسوف الفرنسي ديكارت في سياق تحليله العميق لأوجه الصلة الموجودة بين النفس والبدن، فقد صنف الضحك ضمن الفعل البدني، وبالتالي فهو يندرج ضمن المقاربة الفسيولوجية. أما المقاربة السيكولوجية فتعتبر الضحك تعبيرا مباشرا أو رمزيا عن «الغبطة والرضا والسرور والارتياح والانشراح» دلالة هذه الحالات النفسية تجاوز. الفلسفة العقلانية الخالصة في التعامل مع ما يقلقنا ويهدد وجودنا، ويحد من وجودنا الأصيل، الذي هو ملازم لمبدأ الاستخلاف الذي وجد من أجله الإنسان، كما اعتبر فرويد في رسالته الشهيرة حول النكتة وعلاقتها باللاشعور بكونها تلعب دورا أساسيا في التخلص من رقابة الأنا الأعلى، ووسيلة أشبه ما تكون بالأحلام التي يهرب فيها الإنسان من وعي الصحو ومنطقة اليقظة . إن الضحك المعبر عنه اصطلح عليه فرويد بأحلام اليقظة، وهي آليات لا شعورية تسعى إلى تخفيف حدة الإحباط الذي تحس به الذات تجاه الواقع. يقول فرويد: «إن الفكاهة ترتد بنا إلى تلك الحرية.. التي كنا نحس بها أثناء الطفولة قبل أن تكون لدينا أية رقابة أو رقيب»، لكن إلى أي حد تعد فرضية اللاشعور كافية وحدها لتفسير الضحك في كل أبعاده؟ وإلى أي حد أمكن اعتبار الضحك انعكاسا لما هو لا شعوري فقط؟ ذلك أن اللاشعور عند جاك لاكان j.Lacan لا يمكن اختزاله في الاندفاعات الجنسية، والغرائز الأولية، بل إن اللاشعور يعمل في أمكنة مختلفة: هناك ذكريات الطفولة، وتطور اللغة، والعادات والتقاليد، والأساطير التي تساهم في تشكيل اللاشعور الجمعي، فضلا عن وجود آثار أخرى قد نجهل تأثيرها على الفرد ( أنظر، كتابات، 1966، ص 136) . من هناك تأتي المقاربة السوسيولوجية لتؤكد على العلاقة القائمة بين الضحك والآخر في بعده الجمعي، فبقدر ما يساهم الضحك في نشر ثقافة النباهة وأخلاقيات التفكير الهادف، بقدر ما يساهم في نشر ثقافة الانحطاط التي تقدس ثقافة الغير على حساب ذاته، وهذا ما عبر عنه الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون بأننا نضحك في الجماعة عامة، ولا نضحك إلا وسيلة لتثبيت أو هدم قيم دينية أو اجتماعية أو سياسية أو حضارية. يعكس الضحك بهذا المعنى ما أسماه رالف لينتون بالشخصية القاعدية للمجتمع، التي تساهم في تثبيت القيم العامة والمشتركة والموحدة تجاه القضايا التي تهم المصالح العامة لأفراد المجتمع برمته . لقد لوحظ أثناء الحروب والأزمات السياسية أن الفكاهة سرعان ما تصبح بمثابة السلاح الذي ستخدمه الشعوب في محاربة العدو، وفي التصدي لمواجهة العدو، كما لوحظ أيضا أن الفكاهة تساعد على التوحيد بين طوائف الشعب المختلف، حيث يختفي ضحك التهكم والسخرية بين الأقليات. فإذا كان الضحك فلسفة، فبأي معنى أن الضحك فن؟ 4 - الضحك فن قد يراد بالفن هنا أن ليس كل فن محمود بذاته، بل إنه يحتاج إلى مجموعة من الأخلاقيات التي تجعله صادرا عن الإنسان. وقد عبر مارسيل بانيول في ختام رسالته عن الضحك قائلا: «قل لي مم تضحك؟ أقل لك من أنت»، ويعني ذلك أن مراتب الناس تتفاوت بحسب مراتبهم في الضحك، وحسب مراتب المواضيع التي تضحكهم، وحسب الكيفيات التي تثير فيهم الضحك. ولما كانت الشخصية يتفاعل فيها خطان متقابلان الخير والشر، والكراهية والحب، والإيمان والجحود، والقساوة والعطف، وأن للتنشئة الإجتماعية دورا أساسيا في تثبيت إحدى الخطين، فإن عملية استحضار هذه الاستعدادات والميولات الأولية تساهم في الفهم السديد للكيفية التي يصبح فيها الضحك وسيلة من وسائل التربية والتوجيه والتلقين والتواصل الناجع عموما. فلرب ضحكة نابعة من قلب صادق ومفعم بالعاطفة الموجهة قد تغير مسار امرأة أم رجل يعانيان من الحرمان العاطفي الأمومي، أو يعانيان من عاطفة الأب. وعليه، فالمبدأ الأول الذي يجب مراعاته في مجالات أخلاقيات الضحك الميولات الأولية الفرد، لأن عدم استحضار هذه الميولات قد يحول دون إصابة الهدف الذي نتوخاه من ممارستنا للضحك، كما أن الضحك يجب ألا يتخذ مضيعة للوقت، ووسيلة للسخرية والتعالي والافتخار والمباهاة بما نملكه تجاه الآ]ر، أو يتخذ وسيلة للخداع، وذلك من خلال تقمص شخصية المظلوم أو شخصية الضعيف لكسب عطف الآخرين، أو تبرير الضعف والعداء تجاه الغير، أو التظاهر والذهاء، أو التسلط على الآخرين من أجل الحد من نقاشهم أو انشغالهم عموما بأمر لا يخدم مصلحتنا الشخصية. إن الشخصية التي تتستر بالضحك من أجل أغراض تسيء إلى آدمية الكائن البشري غالبا ما تظل في حياتها مضطربة وميئوس منها، وأن أغلب المواقع التي تحتلها داخل الجماعة تتسم عبر الضحك تعكس الوجود الناقص، والوجود المزيف الذي يضيع على إثره مجمل القيم الإنسانية النبيلة، قيم المواطنة، وقيم التسامح، وقيم الحرية الأخلاقية، وقيم الكرامة. إن وجودية الضحك المزيف داخل العلاقات البشرية يساهم في الحد مما أسماه المحلل النفسي الإجتماعي إريك فروم I.R.FROMME بأسلوب الكينونة، أي الارتباط بروابط حقيقية أصيلة بالعالم، كنقيض للمظهر الخادع، هذا المظهر الذي يتأسس على مبدإ فلسفي وهو «أنا موجود بقدر ما أملك وما أستهلك». المراجع: - حبيب الشوراني، بين برجسون وسارتر، أزمة الحرية، دار المعارف، 1963. - عبد الرحمان بدوي، دراسات في الفلسفة الوجودية، دار الثقافة، 1973. - جلال العشري، الضحك فلسفة وفن، سلسلة كتابك، دار المعارف، ع 1997 ،85. - إريك فروم، الإنسان بين الجوهر والمظهر، سلسلة عالم المعرفة، ع 140 ، 1989. - إ.م. بونشيسكي، الفلسفة المعاصرة في أوربا، سلسلة عالم المعرفة، ع 165، 1992. - محمد قطب، منهج التربية الإسلامية، دار الشروق، الجزء الثاني، 1992. - يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، دار القلم